ككل عام في شهر يوليو/تموز يخرج العراقيون إلى الشوارع بعد أن تنعش الشمس ودرجات حرارتها المرتفعة التي تتجاوز 50 درجة مئوية ذاكرة العراقيين عن مرور ردح من الزمن دون تحقق أي من الوعود المتعلقة بتحسين الخدمات الأساسية من توفير المياه الصالحة للشرب وكهرباء والوظائف رغم تعاقب الحكومات وتكرار الوعود التي تنتهي لحظة خروجها من فم السياسيين.
في السنوات الماضية، وحتى الأحداث في القرن الماضي المرتبطة بشهر تموز كانت بغداد المسرح الأساسي لها من الانقلاب على الملكية في 14 من يوليو/تموز 1958 ثم انقلاب 17-30 يوليو/تموز 1968 على حكم الرئيس عبد السلام عارف، فيما شهدت السنوات الثلاثة الماضية مظاهرات في شهر يوليو/تموز للمطالبة بالخدمات ومحاربة الفساد في العاصمة العراقية، لكن البصرة هذا العام كسرت القاعدة لتطلق الاحتجاج من شوارعها هذه المرة منذ مطلع يوليو/تموز الحاليّ، فما الذي يحدث في البصرة ليجعلها رأس حربة في الظاهرة التموزية لهذا العام؟
البصرة في سطور
تقع مدينة البصرة في أقصى الجنوب العراقي على بعد 535 كيلومترًا من بغداد، وتعتبر ثالث أكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد ومدينة الموصل في الشمال العراقي، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب 3 ملايين نسمة، وتمتلك حدودًا مع إيران شرقًا والكويت والسعودية جنوبًا وتعتبر المنفذ البحري الوحيد للعراق إلى الخليج العربي، يلتقي فيها نهري دجلة والفرات مكونان شط العرب، فيما تمتلك 59% من احتياطي النفط العراقي الذي يعتبر المورد الأساسي للاقتصاد العراقي؛ لذلك تعتبر البصرة عاصمة العراق الاقتصادية.
رغم أن البصرة من أكثر مدن العالم حرارةً فإنها موطن خصب لزراعة النخيل حتى عرفت به، كما تعرف البصرة بالفيحاء ومدينة السندباد البحري
تاريخيًا تعبر البصرة أحد أبرز الحواضر للشرق الإسلامي، حيث بنيت عام 15 هجرية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وكانت مركزًا للجيش الإسلامي باتجاه الشرق، وسطع نجمها الأدبي والمعرفي في فترة حكم الدولة العباسية فظهر فيها الفراهيدي وسيبويه ومدارس النحو والصرف والشعراء مثل الأصمعي الذي ولد فيها وأبو نواس الذي نشأ فيها.
رغم أن البصرة من أكثر مدن العالم حرارةً فإنها موطن خصب لزراعة النخيل حتى عرفت به، كما تعرف البصرة بالفيحاء ومدينة السندباد البحري، سياسيًا في الوقت الحاليّ يمثل مدينة البصرة 25 نائبًا بالبرلمان العراقي وتعتبر أحد مراكز الثقل في القرار السياسي العراقي خاصة فيما يتمثل بعدد المقاعد مقارنة بمدن ثانية في الجنوب العراقي.
البصرة.. معاناة فوق بحر الذهب
رغم ما تمتلك البصرة من موارد اقتصادية تفوق عددًا من دول الخليج الغنية، لكن واقع الحال فيها يختلف عن جيرانها بكثير، حيث بلغت نسبة الفقر في المدينة ما يقارب 50% من عدد سكانها وفق ما أعلنه المجلس البلدي وهذا الرقم يعتبر من الأكثر ارتفاعًا في العراق حيث تصل نسبة السكان الذين يرزحون تحت خط الفقر 30% في عموم البلاد وفق ما أعلنته وزارة التخطيط العراقية.
تحولت البصرة من ممر لتجارة المخدرات عبر الحدود لدول المنطقة إلى مستهلك، الأمر الذي جعلها تتصدر نسب المدمنين للمواد المخدرة عراقيًا
فيما تبلغ نسبة الأمية في العراق نحو 18% وهي نسبة مرتفعة مقارنة ببلد أعلن القضاء على الأمية بشكل تام قبل 30 عامًا، حيث يوجد 6 ملايين أمي في العراق، وتتصدر البصرة أكثر المحافظات العراقية بنسبة الأمية.
البصرة تلقب بفينيسا العراق
الملفت للنظر بشأن التحول الخطير في السنوات الماضية، تحول البصرة من ممر لتجارة المخدرات عبر الحدود لدول المنطقة إلى مستهلك، الأمر الذي جعلها تتصدر نسب المدمنين للمواد المخدرة عراقيًا، ورغم تضارب نسب متعاطي المخدرات، فإنها ظاهرة واضحة في مدينة البصرة من ناحية الاتجار والتعاطي، تجعل المورد البشري للمحافظة في خطر.
فيما تعتبر البطالة أحد أكبر هواجس الشاب البصري، حيث أعلن مجلس محافظة البصرة أن 48% من خريجي الجامعات والمعاهد لا يوجد لديهم فرص للعمل في الوظائف الحكومية؛ الأمر الذي يدفع الشباب للقطاع الخاص المتعثر هو أيضًا.
المعناة تتفاقم بسبب الجارة إيران
رغم اندلاع شرارة الاحتجاجات البصرية نتيجة لقتل متظاهر خلال وقفة احتجاجية أمام إحدى الشركات النفطية في قضاء المدينة شمال البصرة في الثامن من الشهر الحاليّ، فإن معاناة البصريين جعلت الشرارة تتسع بشكل كبير ومتسارع، المعاناة التي زادتها بشكل كبير الجارة إيران بقطعها لخطوط تغذية الكهرباء المتعاقدة على تصديرها للعراق كرد فعل على العقوبات الأمريكية، مما جعل صيف البصرة أكثر لهيبًا.
الأمر لم يقتصر على قطع الكهرباء الحاليّ بل سبقه قطع المياه عن نهر الكارون الذي يرفد شط العرب بالمياه ويعتبر أحد أهم مصادره، وتحويل المياه المالحة لتضخ، ما دفع ثمنه البصريون بملوحة مياه شط العرب المصدر الأساسي للمياه؛ مما أدى إلى معاناة متعددة الأشكال منها شح وعسرة المياه الصالحة للشرب في مدينة البصرة بسبب نسبة الملوحة، الأمر الذي جعل عدد من عشائر البصرة تحاول التفاوض بشكل مباشر مع القنصل الإيراني في البصرة لتقليل الضخ الإيراني للملوحة عبر الكاروان لشط العرب.
المتظاهرون في البصرة يحرقون لافتة عليها صورة الخميني
تأثير الملوحة لم يقتصر على الماء ولكن نتج عنه دمار عدد كبير من البساتين والحقول الزراعية نتيجة لملوحة التربة العالية والمخلفات التي تلقيها إيران عبر النهر لشط العرب، وأيضًا التأثير على موارد الصيد المائي مما يؤثر سلبًا على العاملين في هذا القطاع، كل هذا إضافة لضخ إيران الحبوب المخدرة وتحويل البصرة ليس فقط لممر تجاري لها ولكن سوقًا لبيع وتعاطي المواد المخدرة.
إضافة لدعمها الأحزاب السياسية التي يعتبرها الشارع البصري أحد أبرز أسباب معاناته ومعاناة العراقيين بشكل عام بسبب فساد تلك الأحزاب، هذا الشعور باشتراك إيران بشكل مباشر في ظلم أهالي البصرة دفع عددًا من المتظاهرين لحرق لافتة للخميني كانت تتوسط أحد شوارع البصرة، تعبيرًا عن رد الفعل تجاه الممارسات الإيرانية ضد المدينة.
احتجاجات عفوية ولكن
لغط كثير رافق الاحتجاجات المندلعة في البصرة والممتدة لعدد من مدن الجنوب العراقي خاصة مع تحركات متعددة منها حرق مقار حزبية في عدد من المدن، واقتحام مطار النجف، والاقتراب من الحدود العراقية الكويتية ومحاولات اقتحام مقار لشركات النفط، كل هذه التصرفات تدفع العديد من المحللين إلى نظرية أن التظاهرات هناك من أراد قيامها والدفع بها لتحقيق غاياته، لكن من واقع متابعتي للأحداث من اليوم الأول فإن الكلام عن التخطيط المسبق للاحتجاجات ووجود من يقف خلفها كلام صعب التصديق وفق سياق الأحداث المتصاعد ووجود أسباب حقيقية لهذا الاحتجاج ذكرناها في سياق معاناة البصرة.
لكن ذلك لا يمنع من جود عدد من الجهات الداخلية والخارجية ترغب في التقاطع المصلحي مع التظاهرات، فإيران تحاول أن تستخدم التظاهرات كورقة ضغط على أمريكا بدفع الاحتجاجات لتخويف الكويت التي أعلنت حالة الاستنفار القصوى على حدودها الشمالية مع العراق، فيما تضغط أمريكا على إيران من خلال الاحتجاجات بحرق المتظاهرين لعدد من مقرات أحزاب عراقية مدعومة إيرانيًا فيما يستخدم أطراف البيت الشيعي الاحتجاجات لضرب بعضهم البعض، لكن كل ذلك لا ينفي عفويتها في الخروج، ومشروعيتها فيما تطالب فيه من خدمات وضرب الفساد والبطالة.
الحلول الترقيعية مستمرة
في محاولة للحكومة العراقية لضبط الوضع في البصرة زار رئيس الوزراء العراقي المدينة وأكد إيجاد حلول لأزمة الكهرباء والمياه عبر ضخ حصة مياه أكبر للمدينة وكذلك نقل الكهرباء من الشمال العراقي للجنوب عبر تقليص حصة مدينة الموصل كما ذكر الإعلامي جمال البدراني عبر صفحته على الفيسبوك.
هذه المحاولات الترقيعية لا تنفي إنفاق العراق لعشرات المليارات من الدولارات على قطاع الكهرباء منذ عقد ونصف ولكن دون نتيجة مع أن العراق يمتلك وفرة في الوقود من غاز ومشتقات نفطية لتشغيل محطات الكهرباء، إضافة لوجود سدود من الممكن أن توفر طاقة كهرومائية وكذلك يعتبر العراق من أفضل دول العالم التي يسمح طقسها بإنتاج الطاقة الكهربائية عبر المحطات الشمسية، كل تلك المواد غير مستغلة للأسف.
إضافة لمشكلة المياه التي بدأت بالتفاقم بالسنوات الأخيرة نتيجة لإهمال الحكومة للقطاع المائي وإقامة دول المنبع (تركيا وإيران) مشاريع سدود قلصت حصة العراق المائية الأمر الذي لم تعره الحكومة الاهتمام الكافي لخلق مشاريع للحفاظ على الأمن القومي المائي للبلاد، وكذلك لم تُنشئ محطة تحلية مياه في البصرة للاستفادة من مياه شط العرب الذي يصب في الخليج العربي دون أن يستغل.
كل هذا وأكثر جعل الاحتجاجات في المدن العراقية أقل ما ستواجهه الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة المسؤولة عن هذا الكم الهائل من الفساد المالي والإداري الذي أوصل البلاد لحالة لا يمكن معها الاستمرار دون حدوث تغييرات حقيقية تعيد للشعب حقوقه المسلوبة.