لم يلقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأمريكي دونالد ترامب بيانا مشتركا عقب المحادثات المنعقدة في هلسنكي، حيث اقتصر الأمر على عقد مؤتمر صحفي، تبين من خلاله القضايا التي استطاع الطرفين الاتفاق عليها.
انسحاب مشترك دون بيان مشترك
خلافا للخطط المرسومة من طرف موسكو، لم يتم الإدلاء بأي بيان مشترك عقب المحادثات التي جمعت الرئيسين. في المقابل، عكست كلمة الافتتاح التي ألقاها الرئيس الروسي في المؤتمر الصحفي، إلى حد كبير النقاط التي أراد الجانب الروسي التصريح بها ضمت البيان المشترك.
في الأثناء، تحدث الرئيس الروسي عن التحديات والتهديدات التي تواجه البلدين والحاجة إلى توحيد الجهود من أجل مكافحة هذه التهديدات، مشيرا إلى المسؤولية التي تتحملها روسيا والولايات المتحدة فيما يتعلق بالأمن الدولي، وأهمية تطوير العلاقات الثنائية على جميع المستويات. علاوة على ذلك، دعا الرئيس الروسي لإنشاء فريق رفيع المستوى يجمع بين الرؤساء الروس والأمريكيين في قطاع الأعمال، ومجلس يضم علماء السياسة البارزين الروس والأمريكيين، وأبرز الدبلوماسيين والعسكريين.
ذكر فلاديمير بوتين أن الجانب الروسي سلم وثيقة إلى الولايات المتحدة تتضمن مقترحات حول إمكانية التعاون فيما يتعلق بتحقيق الاستقرار الاستراتيجي وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، لا سيما في ظل نجاح معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية النووية (ستارت)، التي ينقضي أجلها سنة 2021. وقد أعربت موسكو في العديد من المناسبات عن استعدادها لتمديد صلاحية هذه المعاهدة الثنائية لمدة خمس سنوات أخرى.
وفقا للرئيس الروسي، تمتلك موسكو وواشنطن جميع الآليات الضرورية للتعاون الفعال في سوريا
تجلت إمكانية التمديد في تاريخ العمل بهذه المعاهدة في تقارير مراجعة الموقف النووي في الولايات المتحدة، التي نشرت في شباط / فبراير من هذه السنة. في حقيقة الأمر، يتطلب تمديد فترة العمل استنادا لهذه المعاهدة موافقة الرئيسين دون الرجوع إلى البرلمان والمصادقة على المشروع. وبشأن توحيد مواقف البلدين في مجال الدفاع الجوي، سيواجه الجانبين بعض المشاكل بشأن معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى.
التسوية السورية
على صعيد آخر، وفي حديثه عن الصراعات الإقليمية، التي أضحت القضية الأبرز ضمن المحادثات التي جمعت الرئيسين، أشار الجانب الروسي إلى الوضع المتردي الذي تتخبط فيه سوريا. ووفقا للرئيس الروسي، تمتلك موسكو وواشنطن جميع الآليات الضرورية للتعاون الفعال في سوريا. ومن جهته، عبر الرئيس الأمريكي عن موقف مماثل، قائلا: “إن العلاقة بين جيشي البلدين تشهد تقدما ملحوظا، وتأخذ العلاقة بين الجيوش منحى إيجابي، لتكون أفضل من العلاقات التي تجمع القادة السياسيين”.
إلى جانب ذلك، تطابقت وجهات نظر الرئيسين بشأن التنسيق العسكري في سوريا، حيث عمل الجانبين على مراعاة مصالح إسرائيل، وضمان أمنها فيما يتعلق بالعملية العسكرية التي يشنها الجيش السوري في جنوب البلاد. لكن تباين الآراء بين مختلف الجهات في سوريا يتعارض مع مصالح إيران ودورها في الشرق الأوسط. فقبل انطلاق قمة هلسنكي، عقد الرئيس الروسي، وبشكل شبه متزامن، محادثات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي. ويتجانس الموقف الأمريكي المتمثل في ضرورة انسحاب إيران من الأراضي السورية مع الموقف الإسرائيلي. من جهتها أكدت إيران أنها لن تغادر سوريا.
أكد دونالد ترامب أنه لن يسمح لإيران بجني ثمار نجاح الولايات المتحدة في محاربة تنظيم الدولة، مشددا على دور بلاده في هزيمة تنظيم الدولة
في هذا الإطار، أوضح دبلوماسيون روس أن طهران لن ترضخ لجميع الضغوط المسلطة عليها، ولن تقدم تنازلات لا تخدم مصالحها. فضلا عن ذلك، تهتم كل من موسكو وطهران، على حد السواء، بإعادة جنوب سوريا إلى سيطرة دمشق. بالإضافة إلى المسألة الإيرانية، تفرض إسرائيل والولايات المتحدة شرطين من أجل عدم التدخل في العملية العسكرية التي تنفذها قوات بشار الأسد. ويتمثل الشرط الأول في ضمان عدم دخول القوات السورية إلى المنطقة منزوعة السلاح التي تفصل سوريا وإسرائيل. أما الشرط الثاني، فيكمن في ضمان عدم انتهاك القوات السورية لاتفاقية فك الاشتباك الموقَّعة سنة 1974 بين القوات السورية والإسرائيلية.
تعمل موسكو على أخذ هذه المطالب بعين الاعتبار، لكن مقابل فرض بعض الشروط. من جهته، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قائلا: “أود الإشارة أيضا إلى أنه بعد الهزيمة التامة للإرهابيين في جنوب غرب سوريا، ينبغي أن تمتثل مناطق مرتفعات الجولان إلى الاتفاق المبرم سنة 1974. لا تمنعونا من مكافحة الإرهاب، وسنعمل على ضمان مصالحكم”. وأشار الزعيم الروسي إلى أن إسرائيل والولايات المتحدة ترعيان المعارضة المسلحة التي يشتبه في تعاملها مع جبهة النصرة.
أما فيما يتعلق بطهران، فقد حافظ الرئيسيين على مواقفهما الخاصة. وذكر بوتين أن روسيا ستواصل العمل على تحقيق تسوية سياسية في سوريا في إطار مفاوضات أستانة التي يشارك فيها أهم اللاعبين الإقليميين في سوريا (تركيا وروسيا وإيران)، بالتنسيق مع بعض الدول (الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والأردن، والمملكة العربية السعودية). ومن جانبه، أكد دونالد ترامب أنه لن يسمح لإيران بجني ثمار نجاح الولايات المتحدة في محاربة تنظيم الدولة، مشددا على دور بلاده في هزيمة تنظيم الدولة. لكن بوتين، الذي تحدث في العديد من المناسبات عن دور روسيا في محاربة تنظيم الدولة، التزم الصمت هذه المرة، حيث ارتأى عدم الدخول في جدال مع نظيره الأمريكي.
فيما يتعلق بالأزمة السورية، تطرق الزعيمين إلى مسألة المساعدات الإنسانية. وذكر بوتين أنه ناقش هذه المسألة خلال المحادثات الأخيرة التي جمعت بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مضيفًا أن روسيا مستعدة لوضع خدمات طائرات النقل العسكرية التابعة لها على ذمة الدول الغربية من أجل ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى سوريا. علاوة على ذلك، ذكرت وزارة الدفاع الروسية أن بعض طائراتها على غرار، “إليوشن إي أل- 76” “وأنتونوف أن- 124” تستطيع تولي مهمة تسليم المساعدات، إلا أن المسألة لها بعد سياسي.
خلال المؤتمر الصحفي المنعقد في هلسنكي، أضاف دونالد ترامب أن الغاز المسال الذي سيمر عبر الولايات المتحدة سيصبح منافسًا جديًا للغاز الروسي في أوروبا
وفقا للمعلومات الرسمية الصادرة عن الجيش الروسي في 16 من يوليو/ تموز 2018، فإنه منذ بداية عملية التسوية السياسية تم تسجيل حوالي 1866 عمل إنساني وتسليم 2795 طن من المساعدات إلى السكان. وبمساعدة مركز المصالحة الروسي بين الأطراف المتحاربة، تمكنت 140 حافلة تابعة للأمم المتحدة من الدخول إلى الأراضي السورية، حاملة مساعدات إنسانية يتجاوز حجمها 18 ألف طن.
الولايات المتحدة تضغط من أجل الغاز
خلال المؤتمر الصحفي تطرق الزعيمين إلى الحديث عن خط أنابيب نورد ستريم 2، حيث شدد دونالد ترامب على أن الولايات المتحدة تعارض هذا المشروع، لا سيما أنه لا يخدم مصالح ألمانيا. في الأثناء، أفاد ترامب، أنه “يتوجب علينا التنافس من أجل خطوط أنابيب الغاز، وسنفوز في ذلك، على الرغم من أن روسيا تتفوق بجملة من المزايا. ناقشت هذه المسألة بلهجة حادة مع أنجيلا ميركل، التي ترى في روسيا مصدرا لضمان تزويدها بالغاز”.
في وقت سابق، ذكر الرئيس الأمريكي أن هذا المشروع يجعل من ألمانيا في تبعية لروسيا. وخلال المؤتمر الصحفي المنعقد في هلسنكي، أضاف دونالد ترامب أن الغاز المسال الذي سيمر عبر الولايات المتحدة سيصبح منافسًا جديًا للغاز الروسي في أوروبا. والجدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي لم يتطرق إلى مسألة نقل الغاز عبر أوكرانيا. من ناحية أخرى، أورد بوتين أن روسيا مستعدة لمواصلة نقل الغاز عبر أوكرانيا بعد الانتهاء من مشروع “نورد ستريم 2″، في حال تمكنت غازبروم نافتوغاز من حل خلافاتهما.
للمرة الأولى، ربطت السلطات الروسية بين ترتيبات مرور الغاز بعد سنة 2019 وإجراءات التحكيم في العقود التي تنتهي صلاحيتها سنة 2019. ففي الغالب، ستعقد المحادثات الثلاثية الأولى مع المفوضية الأوروبية بشأن استمرار مرور الغاز عبر أوكرانيا في 17 من يوليو/ تموز.
ذكر بوتين أن روسيا لم ولن تتدخل في الشؤون الداخلية الأمريكية، بما في ذلك الانتخابات
اشترطت برلين عبور الغاز عبر أوكرانيا مقابل دعمها لمشروع “نورد ستريم 2” وذلك في إطار المناقشات بشأن المشروع. وبدورها، وافقت روسيا على عدم التخلي عن المعبر الأوكراني وذلك سنة 2015. في المقابل، يثير مشروع “نورد ستريم 2” إزعاج دونالد ترامب، لا سيما وأن الغاز الروسي يستطيع من خلاله الوصول إلى شمال غرب أوروبا، ما يسمح له بالدخول إلى الأسواق التي تستهدفها الشركات الأمريكية للغاز الطبيعي المسال.
التدخل الروسي في الانتخابات
تطرق الرئيسين خلال المحادثات إلى التدخل المزعوم للخدمات الخاصة الروسية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي عاشتها الولايات المتحدة. في هذا الصدد، ذكر بوتين أن روسيا لم ولن تتدخل في الشؤون الداخلية الأمريكية، بما في ذلك الانتخابات. في الوقت نفسه، أشار بوتين إلى أن موسكو مستعدة للنظر في الأدلة التي ستقدمها واشنطن والتي من شأنها أن تثبت تورطها، مقترحا القيام بذلك في إطار فريق الأمن السيبراني الذي وافقت روسيا والولايات المتحدة على تشكيله السنة الماضية.
اتفق فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، على تأسيس هذا الفريق خلال أول اجتماع جمع بينهما في هامبورغ في يوليو/ تموز من السنة الماضية. لكن بعد مرور ساعات قليلة على هذا الاتفاق، تنصل الجانب الأمريكي منه وذلك بضغط من الجهات التي تنتقد الكرملين في واشنطن. وكان من المقرر إجراء مشاورات غير رسمية بين مسؤولي البلدين بشأن الأمن السيبراني في جنيف في أواخر شباط / فبراير 2018، لكن تم إلغاؤها في اللحظة الأخيرة بمبادرة من الجانب الأمريكي.
أما بالنسبة للأدلة، اتهمت وزارة العدل الأمريكية في 13 من تموز / يوليو الجاري، 12 عنصرا من الاستخبارات الروسية بقرصنة الانتخابات الأميركية سنة 2016. وتضم لائحة الاتهام كيفية اختراق معلومات الحزب الديمقراطي، وتسريبها على شبكة الإنترنت. وبدوره، ذكر بوتين أنه لم يطلع على الوثيقة التي تدين رجال الاستخبارات الروسية.
ذكر الرئيس الروسي أن روسيا تثير سنويا حوالي 150 قضية جنائية بناء على طلب من دول أخرى. ومع ذلك، من الصعب تقييم فعالية الاتفاق الروسي الأمريكي على أساس المعلومات العامة
وفي هذا الصدد، أعرب ترامب عن شكوكه إزاء مدى مصداقية الاستنتاجات التي توصلت إليها المخابرات الأمريكية، داعما فكرة الرئيس الروسي الذي اقترح استخدام الاتفاقية المتعلقة بالمساعدة القانونية المتبادلة في المسائل الجنائية المبرمة سنة 1999. وبموجب هذه الاتفاقية، يمكن للمدعي الأمريكي الخاص روبرت مولر، إرسال طلب رسمي إلى المدعي العام الروسي، ليتم بعد ذلك طرح بعض الأسئلة على الروس المشتبه فيهم، حسبما أوضح فلاديمير بوتين. وأكد بوتين: “يمكننا التقدم خطوة إلى الأمام، وذلك عن طريق السماح للأمريكيين بحضور هذه الاستجوابات”.
أشار بوتين إلى فاعلية هذه الاتفاقية، مضيفا أن روسيا تثير سنويا حوالي 150 قضية جنائية بناء على طلب من دول أخرى. ومع ذلك، من الصعب تقييم فعالية الاتفاق الروسي الأمريكي على أساس المعلومات العامة، حيث طالبت وزارة الخارجية الروسية في العديد من المناسبات الولايات المتحدة بتنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في هذه المعاهدة.
فعلى سبيل المثال، تجاهلت واشنطن في نيسان / أبريل من هذه السنة، هذه المعاهدة عندما حاولت روسيا الإفراج عن مواطنين روس اعتقلوا داخل الولايات المتحدة بأمر من السلطات الأمريكية، وذلك حسب ما صرحت به وزارة الخارجية الروسية. من جهتها، نفت السفارة الأمريكية في روسيا هذه المعلومات وجادلت أن الوثيقة لا تنص على نقل المواطنين الروس لقضاء عقوبتهم داخل السجون الروسية.
الكرة في ملعب الولايات المتحدة
تعليقا على سؤال طرح من قبل مراسل قناة “آر تي” الروسية بشأن الملعب الذي تقبع فيه كرة التسوية في سوريا، قدم بوتين إلى نظيره الأمريكي كرة مماثلة لتلك التي استخدمت في بطولة العالم لكرة القدم المنظمة في روسيا. ومن جانبه، قال السناتور الجمهوري الأمريكي ليندسي غراهام، معلقا على الهدية “سأفحص كرة القدم للتأكد من خلوها من أجهزة تنصت ولن أسمح بدخولها إلى البيت الأبيض مطلقا”.
مما لا شك فيه أن هذه الهدية أحيت الحادثة التي جدّت سنة 1945 عند افتتاح معسكر “آرتيك”، حيث قدم رواد سوفييت للسفير الأمريكي في الاتحاد السوفياتي أفيريل هاريمان، شعار النبالة مصنوع من خشب ثمين. وتبين لاحقا أنه تم تثبيت جهاز تنصت في الشعار من قبل المخترع السوفياتي ليف تيرمن. عموما، تم اكتشاف جهاز التنصت سنة 1952 من قبل موظف منشق عن مديرية المخابرات الرئيسية، يدعى بيوتر بوبوف. من جانبه، أعلن ترامب أنه سيعطي الكرة لابنه بارون البالغ من العمر 12 سنة.
المصدر: كوميرسانت