لم يكن السؤال عن مشروعية توظيف الرياضة لخدمة السياسة مطروحًا؛ فغالبًا، ليس ثمة نزاهة في السياسة، وليس مطلوبًا أو منتظرًا أن يكون الساسة ملائكة، خاصة إذا عرفنا أن هذه السيدة “دبلوماسية” في الأساس، وقد تقلدت مناصب سياسية رفيعة قبل أن تصبح رئيسة البلاد، فهذه الممارسات الخطابية العاطفية، مشروعة ومعروفة ومقبولة في لعبة السياسة.
ولم يعد السؤال عن سبب هذه البروباجاندا التي صنعتها السيدة غرابار ذا جدوى بعد أن عرفنا أن الانتخابات الكرواتية على الأبواب، وأنها على خلاف دستوري مع رئيس الوزراء الكرواتي، الحاكم الفعلي لهذه الدولة البرلمانية – فيما عدا سلطات القوات المسلحة – وأن الرئيسة الكرواتية تتهم رئيس الوزراء بعدم قدرته على توظيف صلاحياته الكبيرة لتسيير شؤون البلاد على النحو المنشود.
وقد كشفت “الغارديان” في تقرير عن رئيسة كرواتيا أنها متورطة بشكل ما في قضايا فساد هرب على إثرها رئيس الاتحاد الكرواتي السابق لكرة القدم ماميش دزرافكو وذراع الرئيس الأيمن والمسؤول عن حملة دعمها في الانتخابات، إلى البوسنة والهرسك ونال لجوءًا سياسيًا هناك.
كل ما سبق مفهوم ونسمع مثله يوميًا في مواضيع الأخبار، ولكن السؤال: إذا كان الأمر على هذا النحو، لماذا اختلق مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي كل هذه الأساطير التي ليس لها أساس من الصحة عن هذه المرأة؟ ما الوظيفة – اللا واعية – التي أُشبعت من خلال هذه الضجة؟
لا بد أن ثمة “حاجةً” ما، داعبتها مشاهد رئيسة كرواتيا، وثمة رسالة ضمنية يريد الجمهور إيصالها
قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي لنا أن نسجِل ملاحظةً مهمة، وهي أننا انتقلنا على الصعيد “السوسيو – نفسي” من طور “الانبهار الجمعي الساذج” الذي كان يتجلى في تعظيم قيادات سياسية في الغرب، لا يعلم المنبهرون شيئًا عن خلفياتهم السياسية أو طريقة تدبيرهم شؤون بلادهم، لمجرد اختلاطهم بالجمهور أو قيادتهم “دراجة” إلى العمل، إلى طور اختلاق الأساطير عنهم وتصديقها وتداولها وصناعة “أبطال من ورق” منهم، وحجر الزاوية في هذا الأمر هو قبول اللاوعي الجمعي لهذه الأساطير وتناقلها دون تمحيص.
خاصة إذا وجدنا أن أكثر من تداولها من منظور اجتماعي، الفئة الأكبر في عالمنا العربي، تلك الفئة التي غالبًا لم تتلق تعليمًا جيدًا وتغلب عليها النزعة العاطفية والخضوع الكامل لسلطة (الصورة – الكلمة)، المواد الخام لصناعة الإعلام والصحافة وما يتعلق بـ”الخطابة – الجمهور”، إذًا، لا بد أن ثمة “حاجةً” ما داعبتها مشاهد رئيسة كرواتيا، وثمة “رسالة” ضمنية يريد الجمهور إيصالها.
تعثر مسيرة الربيع العربي
بعد أن كانت الآمال معلقة على ثورات الربيع العربي لإعادة فتح المجال العام وإعادة طرح سؤال السياسة، أصيب المواطن العربي العادي بما يسميه علماء النفس “اضطراب كرب ما بعد الصدمة”، إثر نجاح قوى الاستبداد السياسي في إجهاض هذه الآمال مبكرًا، وعلى نحو إقليمي؛ فانهارت، فجأة، هذه الآمال النبيلة، وقتلت سؤالات الحرية والتحول الديمقراطي والنهضة، وحل محلها سؤالات: فرص الحياة من عدمها وفرص الهجرة وانتصار الشر وغياب العدل الإلهي.
يبدو أن المزاج العربي لم يعد يثق في الرجال الذين يتحكمون في كل شيء دون نتائج ملموسة، وأنهم أمسوا أكثر تعاطفًا وتقبلًا، بشكل ما، لدخول المرأة المجال العام
مشهد الرئيس متوسط العمر المتألق الذي يجلس وسط الجمهور، قريبًا منهم، غير متعالٍ عليهم، داعب هذه الآمال التي كنا قاب قوسين أو أدنى من تحقيقها، إنها صرخة لا واعية، مفادها: “نريد قياداتٍ من هذا النوع”.
البطل المخلص والحلول السحرية
إلى حدٍ ما، ما زال العقل العربي الذي تستحوذ على شريحة كبيرة منه كليشيهات “دعاء يكفر كل الخطايا” “والوصفة السحرية للقضاء كل الأمراض” مفتونًا، منتظرًا للقائد النقي الطاهر الموالي للمهمشين الذي سينشر العدل ويرفع الظلم بشكل يضاهي ضغطة الزر في ألعاب الكمبيوتر، بدا ذلك واضحًا في السيناريوهات التي ابتدعها الجمهور عن القفزات التي حققتها هذه الرئيس الحكيم لشعبها، وعن زهدها في ترف السلطة وبريقها عبر بيعها أسطول الرئاسة الجوي لمساعدة بلدها.
وكل هذا غير حقيقي بالمرة، ويبدو، أيضًا، أن المزاج العربي لم يعد يثق في الرجال، الذين يتحكمون في كل شيء، دون نتائج ملموسة، وأنهم أمسوا أكثر تعاطفًا وتقبلًا، بشكل ما، لدخول المرأة المجال العام.
نماذج تطبيقية من التاريخ
إبان حكم المماليك مصر، اشتعلت أزمة تهديد الحبشة – إثيوبيا – مصر بقطع إمدادات المياة عنها من المنبع، ولما شعر الوجدان الجمعي بالتهديد والخطر، اجترح سيرةً شعبية – سيرة سيف ابن ذي يزن – الذي تعود جذوره التاريخية إلى عصر ما قبل الإسلام، لما خلص هذا البطل عرب اليمن من سطوة “الأحباش” أسلاف أبرهة الحبشي الذي كان ينوي هدم الكعبة كما هو معلوم، فأحيت الجماعة الشعبية سيرة بطل تاريخي خلص أجدادهم من نفس الخطر الذي يهدد حاضرهم آنذاك.
يظهر في النموذج الأول آلية من آليات الدفاع النفسي الجمعي حينما يشعر بالخطر
إلى الآن، في صعيد مصر، ما زالت الجماعة الشعبية تتناقل قصةً تقول إن عبد الناصر رئيس مصر الأسبق، كان يخطط لزيارة خارجية يبحث فيها استقلال إحدى الدول، وقد تآمر عليه “الإسرائيليون”، بالتعاون مع خونة من رجاله وخططوا لاغتياله في أثناء الزيارة، ويرى أحد شيوخ الطرق الصوفية في منامه هذا المخطط، فيتصل بمكتب الرئيس الذي يحيله إلى الرئيس، فيطلعه الرجل على المخطط وينقذ حياته.
يظهر في النموذج الأول آلية من آليات الدفاع النفسي الجمعي حينما يشعر بالخطر، وفي النموذج الثاني تجسيدٌ لحالة “التماهي” التي قد يقوم بها اللاوعي الجمعي مع الظلم، فالقائد ليس سيئًا والحاشية هي السبب! والنموذج الثاني أسوأ وأكثر سلبية.