ما إن انطلقت شرارة التظاهرات الأخيرة في جنوب العراق التي امتدت بسرعة لتشمل جميع محافظات الجنوب والوسط، حتى انطلقت التحليلات والتكهنات عمن يقف خلفها من جهات إقليمية أو دولية، بل وحتى جهات محلية من أحزاب أو تيارات سياسية مشتركة بالعملية السياسية تريد إحراج الحكومة الحاليّة، أو اتهام جهات سياسية رافضة للعملية السياسية مثل البعثيين أو جهات إرهابية مثل داعش.
لكن العامل المشترك لجميع تلك التكهنات، أنها لا تمتلك الدليل على ذلك، على الرغم من أن التظاهرات يمكن أن تكون لصالح أحد تلك الأطراف أو أكثر من طرف.
الشيء الوحيد الذي كان يبتعد عنه من يروج لارتباط التظاهرات بدوافع داخلية أو خارجية، عدم ذكر احتمالية أن تكون تلك التظاهرات والحراك الشعبي، بدوافع ذاتية تتعلق بمعاناة الشعب العراقي التي يكابدها منذ ما يزيد على 15 سنة.
هل النظام الإيراني وراء تلك الاحتجاجات الشعبية؟
هناك من يربط الاحتجاجات الشعبية بالنظام الإيراني، كون هذا النظام يعاني من أزمة حقيقية فرضتها عليه علاقته السيئة مع الولايات المتحدة الامريكية حاليًّا إثر انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي الإيراني، وفرضت عليه عقوبات مرشحة للتصاعد قريبًا لتشمل حتى صادرات النفط الخام الإيراني، بسبب ذلك كله فإن إيران تريد أن تناور على تلك العقوبات، من خلال ردٍ يُحرج الإدارة الأمريكية.
إيران تعتبر النظام العراقي عامل استقرار لها، وخط مواجه متقدم بالنسبة لها، وتحاول استعماله في صراعها مع الأمريكان
فدعمت تظاهرات في العراق استهدفت حقول النفط العراقي لمنع صادراته، مما سيجعل أسعار النفط ترتفع عالميًا بشكل جنوني، وسيسبب أزمة اقتصادية للغرب بشكل عام ويحرج الإدارة الأمريكية مع حليفاتها، ويجعلها تُعدِل عن المضي بزيادة العقوبات على إيران، وتخففها، لكن هذه النظرية بعيدة عن الواقع، والسيناريو من المستبعد تحقيقه، وإيران تعلم بذلك، كون النظام الإيراني إذا أقدم على ذلك، فإنه سيلعب بالنار ويغامر باستقرار نظامه هو بالذات.
لأن إيران تعتبر النظام العراقي عامل استقرار لها وخط مواجه متقدم بالنسبة لها، وتحاول استعماله في صراعها مع الأمريكان، فليس من الذكاء أن تغامر بتقويض النظام العراقي الحليف لها، بتظاهرات ربما تشعل الأخضر واليابس في هذا البلد، وربما يستبدل بنظام موالٍ لأمريكا بشكل كامل، كما ليس من مصلحتها أن يتصادم المتظاهرون مع الأحزاب والميليشيات الموالية لها في العراق، المشهد الذي رأيناه بالضبط يحدث في الأيام القليلة الماضية.
النظام الإيراني يعتمد على نظام الحكم في العراق في تمرير كثير من القضايا السياسية، يعتمد على المليشيات في العراق، من خلال زجها بحروب الوكالة مع أعدائها بالمنطقة، بل وتفكر إيران بمشاغلة القوات الأمريكية في العراق بتلك المليشيات، لكيلا تتفرغ القوات الأمريكية لإيران وتجعل من العراق قاعدة انطلاق لشن هجماتها المحتملة ضد إيران.
وهناك من يقول إن إيران أشعلت فتيل تلك التظاهرات بقطع التيار الكهربائي الذي كانت تزوده للعراق، يفند هذا الرأي أسباب مختلفة، منها ما أعلنته إيران صراحةً، ومنها ما تم تسريبه من الاجتماعات التي عقدت بين الجانب العراقي والإيراني، التي حاول العراق فيها، إقناع إيران باستئناف تزويد العراق بالطاقة الكهربائية، إيران تحججت بأنها أيضًا بحاجة للطاقة الكهربائية في هذا الوقت من السنة، لأنها تعاني أيضًا من ارتفاع درجات الحرارة، وهناك فقرة في العقد الموقع بين البلدين، يعطي الأولوية للبلد المصدر في حالة احتياجه للطاقة الكهربائية، لكن الأسباب التي تم تسريبها تعطي انطباعًا آخر غير المعلن، وهو أن إيران كانت تريد تسديد الديون المترتبة على العراق بالعملة الصعبة.
على الرغم من أن التظاهرات تصب في مصلحة السعودية التي تجد نفسها في حالة صراع مع إيران، وتحاول تقويض نفوذها في دول المنطقة، لكن تحريض السعودية لخروج متظاهرين عراقيين ضد النظام الحاكم هناك، أمر من الصعب تصديقه
الأمر الذي لا يستطيع فعله العراق بسبب التشديدات الأمريكية على واردات إيران من العملة الصعبة، وحاول العراق تسديد المبالغ بالعملة المحلية، لكن إيران رفضت ذلك وبقوة، الأمر الذي جعل العبادي وفي ردة فعل متسرعة، إيفاد وزرائه للمملكة السعودية لتخرجه من مأزق الطاقة.
هل السعودية وراء تلك الاحتجاجات؟
هناك من يتهم السعودية وباقي الأنظمة الخليجية بالوقوف وراء تلك الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في جنوب العراق، وعلى الرغم من أن التظاهرات تصب في مصلحة السعودية التي تجد نفسها في حالة صراع مع إيران، وتحاول تقويض نفوذها في دول المنطقة، لكن تحريض السعودية لخروج متظاهرين عراقيين ضد النظام الحاكم هناك، أمر من الصعب تصديقه.
فالسعودية ليس لها أدواتها في الداخل العراقي، وأضعف من أن تقود مثل هذه التظاهرات وتديرها عن بعد، والتجربة السورية واليمنية تفيد بأن السعودية غير مؤهلة لتقود صراعًا كبيرًا مع إيران من خلال حروب الوكالة، ولا حتى الحروب المباشرة.
المملكة السعودية رحبت بالتحول العراقي من إيران إلى السعودية حينما أرسل حيدر العبادي على عجل، وزير الكهرباء العراقي ووزير النفط ووزير النقل إلى الرياض، لعقد اتفاقات تخص تزويد العراق بالطاقة الكهربائية وربطه بالشبكة الخليجية، إضافة إلى اتفاقيات تخص النقل البحري والبري والجوي، وفي ظنها أنها تستطيع أن تغتنم فرصة غضب العبادي من الموقف الإيراني، لتبعده أكثر وأكثر عن إيران، لكن اعتماد السعودية على نظام ضعيف مثل حكومة العبادي لفعل ذلك، ربما فيه تفاؤل كبير في غير محله.
إن مد اليد السعودية للشعب العراقي لكي يتخلص من حالة البؤس التي يعيشها لا يكون من خلال دعم النظام الحكم الذي تسبب بكل تلك المآسي ورمي طوق النجاة إليه
فالعبادي يرأس حكومة منتهية الصلاحية، ربما لم يتبق من عمرها سوى أيام أو بضعة أشهر في أعلى تقدير، وفوزه برئاسة الحكومة لولاية ثانية أمر مشكوك فيه، خاصة مع ظروف الاحتجاجات التي تجتاح المدن العراقية، وستأتي حكومة أخرى أكثر ولاءً لإيران وتقوض كل الجهود السعودية لسحب العراق للحاضنة العربية، لكن بعد أن تكون قد ساهمت السعودية في تثبيت أركان النظام الحاليّ وفوتت الفرصة على الشعب العراقي للتخلص من المنظومة السياسية الحاكمة حاليًّا وإلى الأبد.
إن مد اليد السعودية للشعب العراقي لكي يتخلص من حالة البؤس التي يعيشها لا يكون من خلال دعم النظام الحكم الذي تسبب بكل تلك المآسي ورمي طوق النجاة إليه.
من ناحية أن ما تراه السعودية، ربما لا يتفق مع ما تراه دولة خليجية أخرى مثل الكويت التي شعرت بالخطر من اتساع نطاق الاحتجاجات الشعبية في الدولة الجارة له، وفي مدينة مثل البصرة التي لا تبعد عن الكويت سوى بضعة كيلومترات.
فهي تخشى تصدير الفوضى إلى داخل الكويت، كما تخشى تدفق اللاجئين إليها إذا تأزمت الأمور في العراق وتحولت الاحتجاجات إلى صراع مسلح، فالكويت غير قادرة على حماية بلدها من الفوضى، وغير قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من النازحين ربما سيتدفقون إلى أراضيها، لا نقول إن الكويت تدعم النظام العراقي لأنها راضية عنه، لكنها تعتبر أن حدودها مع العراق في حقيقة أمرها هي حدود مع إيران، كما عبر عن ذلك أحد نواب البرلمان الكويتي؛ الأمر الذي جعلها تعزز قواتها على الحدود الفاصلة بين البلدين كإجراء احترازي ضد أي تطورات لا تُحمد عقباها.
هل تركيا لها علاقة بموضوع التظاهرات؟
ربما تركيا آخر دولة لها علاقة بالأحداث التي تجري في الجنوب العراقي، فليس من مصلحة تركيا التي ترتبط بالعراق بعلاقات تجارية كبيرة، أن يتغير النظام هناك أو يدخل في فوضى كبيرة، لأنه سيؤثر على مستوى التبادل التجاري بينها وبين العراق الذي في أغلبه لصالح تركيا، وربما تركيا تخشى إذا ساءت الأمور في العراق أن يُصدر لها كم كبير من النازحين هي في غنى عنه، فهي ما زالت تعاني من تجربة اللاجئين السوريين في تركيا.
ستجد الولايات المتحدة الفرصة سانحة لاستثمار هذا التوجه الشعبي لإحداث تغير حقيقي في المنظومة السياسية الحاكمة في العراق
وماذا عن اللاعب الأمريكي؟
يبقى اللاعب الكبير هو الولايات المتحدة الأمريكية التي تراقب عن كثب كل صغيرة وكبيرة تحدث في هذا البلد، وكما نعلم أن واشنطن فقدت كثيرًا من نفوذها في العراق بعد توغل النفوذ الإيراني فيه، وبالتالي فإن تأثيرها على تحريك الشارع ربما هو من الضآلة بحيث لا يذكر.
ورغم أن هذا الحراك سيعود عليها بالنفع الكبير، فليس من السهل القول إنها المسؤولة عنه، لكن إذا استمر هذا الحراك وتجاوز عتبه الشهر الواحد، فسنرى جهودًا كبيرةً لاستثمار الحراك من الولايات المتحدة وتوجيهه لخدمة مخططاتها بالمنطقة.
وربما تلتقي تلك المخططات الأمريكية ولأول مرة مع ما يطمح له الشعب العراق، فالشعب العراقي الذي خرج في هذه التظاهرات وهو يرفع شعارات الموت لأحزاب ومليشيات إيران، ستجد الولايات المتحدة الفرصة سانحة لاستثمار هذا التوجه الشعبي لإحداث تغير حقيقي في المنظومة السياسية الحاكمة في العراق، من خلال دعم انقلاب عسكري أو على الأقل غض النظر عن حدوثه، وإذا لم يتحقق هذا السيناريو فليس غريبًا على الولايات المتحدة أن تدعم فوضى تعم المناطق ذات الغالبية الشيعية، وتغذي صراعًا شيعيًا – شيعيًا سيسهم لا محالة في تقويض النفوذ الإيراني في هذا البلد.
ومن هذا كله نعتقد أن الحراك الحاليّ في جنوب ووسط العراق ما زال حراكًا شعبيًا عراقيًا خالصًا، لكن إذا اشتدت تلك التظاهرات وأسهمت بإضعاف النظام العراقي، فمن المرجح أننا سنشهد تدخلات إقليمية أو دولية عديدة تحاول توجيه التغير الذي سيحصل تجاه مصالحها.