“كنزي استشهدت.. روحي للإسعاف لإنك بتنزفي إلحقي حالك”.. لم يقبل قلب الأم تصديق أن بكرها نال منها صاروخًا إسرائيليًا فقتلها، ركضت بين الغبار الكثيف والرؤية المعدومة في وضح النهار، تبحث عن ابنتها التي لا تتجاوز الـ 4 سنوات بين الركام، كانت الدماء تتساقط من وجهها الذي اخترقته شظايا الصاروخ، لم تعبأ لألمها المبرح، واصلت البحث فوجدتها بعد عناء لكن مظهرها كان يوحي باستشهادها، فناولتها للمسعف وقالت: “أرجوك.. رجعلي بنتي عايشة”، توجّه بها نحو ثلاجات الموتى إلا أن النبض عاد من جديد، فعاشت، لكن بقطعة مفقودة من جسدها.
هنا نحكي مع أم فلسطينية تُدعى يسرى الخيري، عاشت وطفلتها المحرقة، أصيبت الأم، واستشهد والدها، وأصيبت ابنتها كنزي آدم المدهون إصابة خطيرة للغاية، فقدت على إثرها يدها اليمنى، فماذا يعني أن تكوني أمًّا لطفلة مبتورة اليد؟ ماذا ستجيب الأم عن سيل الأسئلة منها “وين إيدي؟”، تحكي لنا يسرى عن تفاصيل الموت المحقق الذي نجت منه كنزي، لكنه ترك لها علامة لا يمكن تجاوزها!
نصف برميل من المتفجرات
في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ألقى الجيش الإسرائيلي نصف طن من المتفجرات على المنزل الملاصق للبيت الذي لجأت إليه يسرى وعائلتها في دير البلح، بعدما نزحوا من شمال غزة.
تقول يسرى لـ”نون بوست”: “كنت جالسة رفقة شقيقاتي داخل البيت لحظة القصف وبين يدي ابنتي الرضيعة لين، وابنتي البكر كنزي رفقة جدّها في حديقة المنزل تلعب، وفجأة لم أرَ سوى الغبار والحجارة تتناثر في المكان حتى أننا بتنا لا نرى بعضنا، أُصبت بشظية فوق العين، وبشظية في وجهي فغرت الوجه بشكل عميق، تركت طفلتي لين مع أختي وخرجت للبحث عن ابنتي كنزي”.
كانت حديقة البيت أشبه بمدينة الأشباح بعد القصف، اختفى كل شيء وظهر الركام الذي أخفى وجوه من كانوا بالمكان، ظلت يسرى تبحث عن كنزي وهي مؤمنة أنها حية ترزق، قال لها شقيقها: “خلص استشهدت”. لم تستمع له أبدًا حتى وجدتها، حملتها وركضت نحو مشفى شهداء الأقصى الواقع في دير البلح، لم تنتبه إلى يدها المفقودة من غباشة الدماء التي تتناثر من وجهها، وهول الفاجعة.
تكمل يسرى “كان جميع من رآني وأنا أحملها وهي غارقة بالدماء يعلم أن يدها مبتورة، جاء زوجي لنا بعدما تم تبليغه بالخبر فهو يقطن مع عائلته في مدينة النصيرات، طمأنني عليها وقال لي: لا تخافي كنزي حية، ثم بدأت عملية تقطيب جروح وجهي بعد إخراج الشظايا، فكان ألمي لا يُحتمل إذ يتم تقطيبي دون بنج، لعدم توافره في المشفى”.
“بدناش إيدها.. إلها يد ثانية”
جاءتها أختها والطبيب يواصل عملية التقطيب، فقالت: “بابا استشهد يا يسرى.. بابا مامتش من السرطان.. مات شهيد”. صمتت ثم ردّت: “ربنا اختار له ميتة تليق به.. شهيد”. ثم سألتها: “وكنزي!”، فردّت: “حية”. فقاطعها شقيقها: “يدها مبتورة”. فردّ زوجها: “لا كُسرت”.
عاودت وسألت زوجها: “شو صار بكنزي.. بنتي يدها مبتورة عنجد؟”، فأجاب: “بدناش إياها الإيد الها إيد ثانية الحمدلله.. احمدي الله كنا مفكرينا مستشهدة”.
لم تبكِ يسرى وقتها أبدًا، فقد فقدت الأب، وفقدت عضوًا هامًّا في جسد ابنتها، لكنها لا تستطيع إعلان التمرد وترك العنان لدموعها، كان وقع الأمر قاسيًا عليها، في اليوم التالي علمت حالة كنزي بالضبط، فكان لديها كسر بالحوض والفخذ والرقبة، وكسر بالجمجمة، وفروة رأسها لم تكن موجودة.
تقول يسرى لـ”نون بوست”: “أجرت كنزي 9 عمليات، لكن الإمكانيات في مشفى شهداء الأقصى لم تكن بالقدر المطلوب لكنهم فعلوا ما بوسعهم، آخر عملية أجروها كانت في المثانة حيث كانت معدتها على وشك الانفجار”.
“يدك سبقتك للجنة”
ما الذي فعلته كنزي حينما أدركت يدها المتبورة؟ تجيب الأم بصوت منهك: “ظلت تقول: أين يدي؟”، وتبكي، وكلما زارها أحد تنظر إلى يده اليمنى ثم إلى يدها وتردد “يدي مفقودة” بشكل مستمر، ونحن لا نعلم ماذا نقول، نتهرب من سؤالها دائمًا ونرد: “يدك سبقتك نحو الجنة”.
تخبرنا يسرى أن طفلتها ذكية جدًّا وتصرفاتها أكبر من عمرها، لاحظت غياب جدّها عنها فظلت تسأل عنه، ولم يجرؤ أحد في البداية على الردّ عليها والقول إنه استشهد. وبعد أيام من التساؤلات أجابوها أن جدها في الجنة مع يدها.
يذكر أن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أكدت في بيان لها، أن أعداد حالات بتر الأطراف عند فئة الأطفال وصلت إلى أكثر من 4 آلاف طفل. وفي المجمل ارتفعت إلى ما يزيد عن 10 آلاف في مختلف محافظات القطاع منذ بدء الإبادة الجماعية.
وعن الأطفال مبتوري الأطراف يقول الطبيب البريطاني من أصول فلسطينية غسان أبو ستة: “هذه أكبر مجموعة من مبتوري الأطراف من الأطفال في التاريخ”. عمل أبو ستة لمدة 43 يومًا في قطاع غزة ضمن طاقم منظمة أطباء بلا حدود، وكانت تصله الحالات على التوالي، حتى أنه في مرة لم يغادر غرفة العمليات لمدة 3 أيام، ووصف الأمر يومها: “لقد بدا الأمر وكأنه مشهد من فيلم عن الحرب الأهلية الأمريكية”.
كان أبو ستة يجري حوالي 6 عمليات بتر في اليوم، إذ قال في حوار صحفي سابق: “أحيانًا لم يكن أمامي خيار طبي سوى البتر، بسبب قلة الإمكانيات الطبية الأساسية في غزة، ومن دون القدرة على كيّ الجرح فورًا خلال العمليات تظهر الغرغرينا والعدوى فنضطر إلى البتر، كما أن الحصار المفروض من قبل الإسرائيليين على بنك الدم أسهم في ارتفاع حالات البتر، إذ لم نتمكن من إجراء عمليات نقل الدم”.
“فور بتر جزء من جسد الطفل المصاب يتم وضعه داخل صندوق صغير من الورق المقوى، وكتابة الاسم وماهية الجزء المبتور ثم دفنه”، بحسب أبو ستة.
تجاوز الخطر
في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أُدرج اسم كنزي على قائمة الأطفال المقبولين للسفر للعلاج بالخارج، فسافرت رفقة والدها، ولم يُسمح بالسفر ليسرى كونهم يشترطون خروج مرافق واحد، فبقيت في غزة مع طفلتها لين التي لم تتجاوز الـ 3 أشهر آنذاك.
تبيّن يسرى: “سافروا نحو القاهرة ومكثوا 3 أسابيع ثم جاءها القبول للعلاج في تركيا، فحصلت على عناية طبية ممتازة، تجاوزت هناك المرحلة الحرجة وأصبحت تتحرك بشكل طبيعي بعد جبر كل كسورها، وإزالة البلاتين من جسدها، وأجرت عملية تجميل في فروة الرأس وبعدها بات الشعر ينبت من جديد”.
قبل إصابتها كانت تتمنى كنزي أن تنتهي الحرب ليعود جدّها ويصطحبها لدروس السباحة، لكن لم تسمح “إسرائيل” للطفلة بتحقيق حلمها وقتلت جدّها وبترت يدها.
تكمل الأم حديثها: “كان والدي مريضًا بالسرطان وانتصر عليه قبل استشهاده بفترة وجيزة، ورغم مرضه يصرّ دائمًا على أخذ كنزي لدورة السباحة بنفسه، إذ كان يعود من جلسات الكيماوي من الضفة الغربية إلينا مباشرة ليأخذها إلى الدروس، كانت علاقتهما استثنائية، لم أرَ أحدًا بحياتي يحب أحفاده كحبّ أبي لطفلتي”.
كان لدى يسرى هاجس بأنها ستفقد والدها، يوم الاستهداف التقطت له صورة مع رضيعتها لين، وشعرت أنها الأخيرة، رحل والدها وبقيت كنزي تكرر لهم حلمها الذي تراه في المنام: “شفت جدو لابس أبيض وبحضني كتير ومعاه إيدي اليمين بالجنة”.
مؤخرًا، توجّهت كنزي مع والدها لأداء العمرة، وحينما سألتها والدتها: “ماذا كان دعائك هناك؟”، ردّت: “دعيت جدو يصحى من الموت عشان أحضنه كتير كتير لإنه اشتقتله”.
تتواجد الآن يسرى رفقة لين في القاهرة منذ أبريل/ نيسان الماضي للعلاج، وتنتظر فرصة لتجتمع بزوجها وكنزي بعد فراق دام قرابة الـ 10 أشهر، تنهي حديثها عن أمنياتها: “آمل أن تركّب كنزي طرفًا صناعيًا ذكيًا حتى تستطيع التعامل معه بسهولة، أما عن أمنياتي المستقبلية أودّ لها أن تكون طبيبة وأراها في أعلى المراتب”.
تجدر الإشارة إلى أن حالات بتر الأطراف تحتاج رعاية من نوع خاص لا تتوفر في قطاع غزة، إذ يحتاج الأطفال مبتورو الأطراف إلى عناية طبية كل 6 أشهر، وعمليات جراحية مستمرة، حيث يلزم كل طرف من 8 إلى 12 تدخلًا جراحيًا. كما أن الجيش الإسرائيلي دمّر مشفى حمد، وهو الوحيد في غزة المتخصص في تصنيع الأطراف الاصطناعية وإعادة التأهيل.