قبل شهرين، ترجمنا في نون بوست مقالا لأستاذ العمارة المصري، محمد الشاهد، بعنوان: “من ميدان التحرير إلى إعمار سكوير” كان قد نشره بالإنجليزية على مدونته الشخصية، وقبل يومين، نشر الشاهد مقالا أكثر تفصيلية على صحيفة الغارديان البريطانية، يناقش فيه فلسفة المدينة الجديدة!
ترجمة: منة حسام الدين – ملكة بدر
في منتصف فبراير، وقع المطور الذي أشرف على بناء برج خليفة، أطول برج في العالم اتفاقًا مع وزارة الدفاع المصرية، يتم التمهيد بموجبه لبناء ميدان “إعمار” وهو مركز تجمع محوري متعدد الاستخدامات، حيث الوحدات السكنية الفاخرة، وملاعب الجولف، ومركز التسوق المفتوح للماركات العالمية الفاخرة.
ميدان “إعمار” هو جزء من مشروع مجمع “آب تاون كايرو” الذي تقيمه شركة “إعمار” ومقرها الإمارات.
أما وزارة الدفاع التي تملك النسبة الأكبر من الأراضي التي سيقام عليها مجمع “آب تاون كايرو”، فتعتبر أكبر مالك ومدير لشؤون الأراضي في مصر، فمنذ عام 1997، منح مرسوم رئاسي الجيش الحق في إدارة جميع الأراضي غير الزراعية، وحسب أحد التقديرات، تصل نسبة تلك الأراضي إلى 87% من إجمالي مساحة الأراضي في مصر.
وفي مدينة القاهرة، تكون تلك الأراضي عادة محاطة بأسوار، وفي مواقع مربحة تجاريًا، وعادة ما توضع لافتة عليها تفيد بأنه “ممنوع التصوير” وبأنها “مناطق عسكرية” بالرغم من أنها لا تشهد أي نشاطات عسكرية من أي نوع.
وتظل هذه الأراضي محجوزة بانتظار دورها في التحول إلى فنادق، أو إلى مساكن للضباط، او إلى مراكز ترفيهية فاخرة. ويعتبر ميدان “إعمار” هو آخر وأكبر المشروعات “العسكرية” المضمونة.
ومن المنتظر أن يربط طريق خاص بين “آب تاون كايرو” وشبكة الطرق الرئيسية بالقاهرة، وأن يتطلب ذلك الربط إزالة لمنازل الفقراء في منطقة “الجبل الأحمر”. ومصر لها تاريخ حافل من طرد السكان عنوة، باستخدام القوة المميتة أحيانًا من أجل تحقيق المصالح الخاصة، التي عادةُ ما يتم الإشارة إليها بـ”الدواعي الأمنية”. أما الاتفاق الذي تم عقده بين شركة “إعمار” ووزارة الدفاع المصرية فلم يحظ بتغطية في نشرات الأخبار.
وبعد ثلاث سنوات على اندلاع الثورة، وعلى طريقة رجال الأعمال كالعادة، كيف تحولنا من ميدان التحرير إلى ميدان إعمار؟
لم يكن تعريف الثورة المصرية على أنها مجرد نضال في المناطق الحضرية، لكنها كانت أيضًا تسعى لتعطيل الآليات التي أدت إلى خلق بيئة حضارية غير متكافئة في مصر. كانت أحداث ميدان التحرير احتجاجًا على التفاوت الشديد في سبل التنمية في مصر، حيث تهمل الدولة غالبية المناطق الحضارية في حين أنها تقدم تنازلات للمستثمرين الأجانب والكيانات المحلية التي ترتبط مباشرًة بأجهزة الدولة العسكرية.
خلال سنوات حكم مبارك، بدأت الدولة وعدد من رجال الأعمال المقربين من مسؤوليها في خطة تنمية أطلقوا عليها “القاهرة 2050″، وكانت تلك الخطة ستؤدي إلى طرد جماعي لآلاف الأسر، من أجل تحويل المدينة إلى أخرى سكنية راقية جيث ملاعب الجولف ومراكز التسوق، اعتمادًا على استثمارات كانت قادمة من الكويت، والسعودية، والإمارات.
ولكن الثورة تسببت في منعطف غير مرغوب فيه، ثم حصل الإخوان المسلمون على دعم قطر أكثر من السعودية والكويت والإمارات، لكن منذ أن عاد الجيش واستحوذ على السلطة في يوليو الماضي، أصبحت المعركة على الاقتصاد المصري تميل لصالح النظام القديم وداعميه. وعاد من جديد مشروع “القاهرة 2050″ للنور، والذي يتضمن “مثلث ماسبيرو” و” آب تاون كايرو”.
وفي سياق متصل، كان هؤلاء الذين يحتفلون بالنموذج الحضاري لمدينة دبي ويريدون تعميم ذلك النموذج في المنطقة يجهلون حقيقة العلاقة الخاصة بين السياسة ورأس المال في المدن الخليجية: أنهم عادةً مايكونون الأشخاص نفسهم.
توسيع ذلك النموذج في مدن مثل القاهرة، حيث للجيش دون سواه حق الوصول إلى السياسة ورأس المال المتمثل في الأراضي والموارد والانشاءات، سيكون له تأثير كارثي على الأغلبية الحضرية التي سيتم تهميشها وإزاحتها عن الطريق عندما يلزم الأمر، أو إجبارهم على العمل في ظروف غير مقبولة.
إذن لماذا يصبح هذا الشأن بهذه الأهمية؟ أولا لأنه عندما يقوم الجيش، وهو أكبر مالك أراضي في مصر ولا تمارس عليه أي رقابة مدنية، بعقد صفقة مباشرة مع جهة لبناء مجتمع حصري له بوابات في قلب العاصمة، تصبح هذه أبعد ما تكون عن السوق الحرة. ربما تقوم الحكومة بوضع الأمر في إطار جزء من مشروعات “بناء مصر” وجذب الاستثمار، لكن الحقيقة هو أنه لا يمثل سوى فرصة أكبر أمام المشترين لينعزلوا داخل منشآت لها بوابات دون أن يكون لهم صلة بالإدارة المحلية الديمقراطية، أي أن سكان ميدان إعمار لن يضغطوا على الحكومة للحصول على خدمات وإنما سيكون تعاملهم مع الشركة بدلا من الحكومة (وهي صفقات تدر دخلا كبيرًا على جمهورية الجنرالات المتقاعدين المتنامية).
وثانيًا، هذه ليست ديمقراطية، وبالطبع ليست ثورية. فقد شملت صفقة ميدان إعمار وزارات الإسكان والتنمية المحلية والاستثمار وكافة سلطات العاصمة، وهذا التعاون سيسمح لإعمار ببناء طريقها الخاص، وفي الوقت نفسه، مازالت مؤسسات الدولة هذه نفسها فاشلة في حل مشاكل مصر الحضرية المتزايدة، معظمها سببها المباشر هو عدم كفاءة هذه المؤسسات وفقدانها كل مصداقية. ومنذ السبعينات، فشلت الدولة في تقديم الخدمات أو وضع أنظمة فعالة لإدارة المدن والتخطيط للتوسع بما يسمح لرأس المال المحلي الخاص بالنمو وفي الوقت نفسه حماية المجال العام. وبدلا من أن تحاول القيام بذلك، اتحدت كل تلك المؤسسات لتوقيع اتفاقية تتيح بناء طريق سريع خاص لمدينة خاصة.
كانت احتجاجات 2011 قد كشفت كيف يمكن للمدن أن تكون منصات للصراع، ليس فقط في تكوين شكل الفضاء الحضري وإنما أيضًا في خلق أشكال جديدة للتمثيل الديمقراطي، كما ألقت الضوء على كيف يمكن للمساحات أن تصبح مواقع للمقاومة والثورة والتغيير في حد ذاتها. ارتبط هذا الصراع مباشرة بالطريقة التي صنعت بها السلطة ورأس المال تجارب حضرية غير عادلة اقتصاديا واجتماعيا. ففي مصر، يحمل الجيش سلاحه في المساحات المدنية ولديه حق الدخول مباشرة إلى الأصول والمساحات (مثل الأراضي والأبنية بمختلف أنواعها) التي تحدد مباشرة شكل المدن وطرق تنميتها، مما يعني أنه لو وقف الناس عائقًا أمام بلدوزرات الجيش التي تذهب لإزالة منازلهم أو أعشاشهم غير القانونية، فهم يخاطرون بالوقوف أمام المحاكم العسكرية.
وبالنسبة لمعظم المصريين، فقدت المدن دورها الرئيسي باعتبارها أماكن للفرص الاقتصادية، لأن الأرض نفسها أصبحت واحدة من السلع التي يحتكرها الجيش، كما أن هناك عقود بمليارات الدولارات من أموال الدولة التي تذهب مباشرة إلى متعاقدين عسكريين دون المرور بعملية تقديم عطاءات ومناقصات مناسبة، سواء كانت صفقات بناء الطرق السريعة أو هدم العشوائيات وإزالتها أو إعادة إعمار وتنمية.
وصفقة الشراكة مع شركة آرابتيك الإمارتية للإنشاءات والتي بلغت قيمتها 40 مليار دولار لبناء مليون وحدة سكنية لمحدودي الدخل، على أرض يسيطر عليها الجيش هي المثال الأحدث للكيفية التي تسيطر بها عصبة صغيرة على البيئة الحضرية وكيف يمكن أن تشكلها. أما الشركات المرتبطة بجنرالات سابقين أو حاليين في الجيش فهي جزء من شبكة تنتج المواد الأساسية للبناء (الأسمنت وقوالب الطوب) والتي تستخدم تقريبًا في كل شيء، سواء في بناء المجمعات المرفهة المحاطة ببوابات وأسوار أو في بناء منازل تجور على الأرض الزراعية بشكل فردي وأحادي. أما المواجهات العنيفة في معظمها التي تأخذ حيزها في الميادين المصرية بين المحتجين والمجندين فهي تمثل صراع مصر على سياساتها، الاقتصادية والمكانية، بمعنى أوضح، صراع نحو مزيد من التنمية الحضارية المتساوية.
وبعد استقالة الحكومة السابقة فجأة الشهر الماضي، وتعيين وزير الإسكان السابق رئيسًا للوزراء، قام إبراهيم محلب بتعيين مصطفى مدبولي، خلفًا له في وزارة الإسكان. ومدبولي أحد رموز خطة القاهرة 2050. فهل سيقوم خبراء الإسكان والتنمية الحضرية هؤلاء بخدمة مصالح معظم المصريين قاطني المدن؟ أم سيستمروا في خدمة مصالح شبكة معينة من النفوذ السياسي والمالي؟ مشروع ميدان إعمار هو كل ما تحتاجه للإجابة عن هذا السؤال.