ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال قمة الناتو في بروكسيل، تطرق ترامب إلى أكثر المواضيع حساسية عندما انتقد اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي. كما لجأ الرئيس الأمريكي إلى دعم تصريحاته عبر الحديث عن عديد الأخطاء الواقعية. وعمد ترامب خلال هذه المناسبة إلى تسليط الضوء على حقيقة لا جدال فيها وتزيح الستار عن بعض المفارقات الأوروبية.
ففي الوقت الذي تدعم فيه برلين العقوبات المسلطة على موسكو، تقوم العاصمة الألمانية بتشييد خط أنابيب “نورد ستريم-2”. وتجدر الإشارة إلى أن “نورد ستريم-2” عبارة عن خط أنابيب جديد للغاز يوحّد البلدين بشكل مباشر، وسيرفع في حجم الغاز الطبيعي المسال الذي تستورده ألمانيا من روسيا.
في عالم السياسة، عادة ما ينتهي التوافق حين يرتطم بالمصالح الاقتصادية. وفي هذه الحالة، يمكن الحديث عن ترامب باعتباره الطرف الذي بدأ بشن حرب اقتصادية. وفي واقع الأمر، يخفي ترامب وراء معارضته لخط الأنابيب الرئيسي “نورد ستريم-2” رغبته في بيع الغاز إلى أوروبا للحد من العجز التجاري الأمريكي.
في هذا الصدد، وعلى هامش قمة الناتو، قال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إن “الدول الأوروبية رفضت الفحم والطاقة النووية الروسية، بينما لا زالت تستورد الغاز الروسي”. وقد كانت هذه التصريحات بمثابة صفعة في وجه إحدى البلدان التي تفتخر بشكل خاص بعلاقاتها عبر الأطلسية. ولم تتوقف تصريحات ترامب عند هذا الحد، إذ أضاف أن “70 بالمائة من ألمانيا خاضعة لسيطرة روسيا عبر الغاز الطبيعي”.
يختفي وراء تبادل التصريحات بين هذه الدول تاريخ معقد تتداخل فيه المصالح السياسية والاقتصادية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وروسيا
في السياق ذاته، أشار ترامب إلى أن برلين تعتبر “سجينة” موسكو. وختم الرئيس الأمريكي حديثه قائلا إنه “كان من الواجب عدم السماح بحدوث هذا الأمر”. وفيما بعد، استغلت ميركل وصولها إلى القمة لمواجهة التنديدات التي وُجّهت لبلادها دون الخوض في التفاصيل. وفي هذا الإطار، قالت المستشارة الألمانية إن “بلادها تضع سياستها المستقلة الخاصة بها وتتخذ قراراتها بشكل مستقل”.
في الحقيقة، يختفي وراء تبادل التصريحات بين هذه الدول تاريخ معقد تتداخل فيه المصالح السياسية والاقتصادية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وروسيا. علاوة على ذلك، عادة ما تتشابك مصالح هذه الدول حين يتعلق الأمر برقعة الشطرنج المعقدة في أوروبا الشرقية؛ انطلاقا من دول البلطيق، وصولا إلى أوكرانيا ومرورا ببولندا. في الأثناء، تضع هذه الحرب آلاف الملايين من اليوروهات على المحك.
عموما، يثير خط الأنابيب الرئيسي “نورد ستريم-2” غضب الولايات المتحدة الأمريكية. ويعد خط الأنابيب المثير للجدل عبارة عن مشروع ضخم لا زال في المرحلة الأولى من البناء، وستبلغ تكلفته في حدود 9.500 مليون يورو. ويعتبر هذا الخط أيضا موازيا لخط الأنابيب “نورد ستريم-1″، الذي انطلق في العمل بالفعل. ومن المخطط أن يمتد خط الأنابيب الرئيسي، “نورد ستريم-2″، على 1.225 كيلومترا تحت بحر البلطيق. وسيربط نورد ستريم-2 حدود روسيا المطلة على بحر البلطيق بالساحل الألماني، بطريقة تمنعه من المرور عبر أي بلد آخر تابع لأوروبا الشرقية.
من جانب آخر، يوجد قبالة هذه البنى التحتية المهمة الشركة الحكومية الروسية، غازبروم. لكن، لا تعد هذه الشركة الروسية الوحيدة في هذه المنطقة، إذ تتمركز شركات طاقية أخرى على هذه الأراضي على غرار مجموعة يونيبر الألمانية للطاقة وشركة ونترشال الألمانية، والشركة النمساوية “أو إم في”، والشركة الفرنسية إنجي، بالإضافة إلى الشركة العملاقة “شل”.
الغاز الطبيعي المسال الأمريكي: عامل حاسم
في مناسبة سابقة، عبرت واشنطن ضمنيا عن معارضتها لهذا المشروع. وخلال الصيف الماضي، وافقت الولايات المتحدة الأمريكية على فرض عقوبات على الشركات الغربية التي تعمل بالتعاون مع الشركات الروسية المملوكة للدولة. كما لم تتردد واشنطن في إظهار معارضتها لمشروع خط الأنابيب “نورد ستريم-2”. في هذا السياق، هاجم وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريكس تيلرسون، في كانون الثاني/ يناير الماضي، هذا المشروع مدعيا أنه “يقوض أمن الطاقة الأوروبي واستقرار القارة ككل”. وعلل تيلرسون تصريحاته بأن خط الأنابيب ليس إلا “وسيلة جديدة” لروسيا من أجل “تسييس قطاع الطاقة”.
لا ترتبط معارضة واشنطن لمشروع “نورد ستريم-2” الروسي بجملة من الأسباب الجيوسياسية فقط. فبفضل تقنية التصديع المائي، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تصبح ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، بعد قطر وأستراليا. وتؤمن إدارة دونالد ترامب أن الغاز الطبيعي المسال يمثل أحد أهم العوامل القادرة على تعزيز الميزان التجاري العاجز، في مواجهة الاقتصاديات الأخرى على غرار الصين وألمانيا.
أكد بعض المراقبين الدوليين أنه من الصعب أن تغير ألمانيا موقفها الحالي تجاه المشروع الروسي، رغم أن خط أنابيب الغاز الجديد لن يحد من تبعية ألمانيا والاتحاد الأوروبي لروسيا على مستوى إمدادات الغاز
من جانبها، أكدت المستشارة الألمانية، أنجلينا ميركل، في العديد من المناسبات، أن “نورد ستريم-2” هو مشروع اقتصادي بامتياز، ويجب إبقاءه بمنأى عن السياسة. وأوضح الخبراء أن هذا المشروع سيضمن للدولة الألمانية إمدادات مستقرة من الغاز، من خلال الاستغناء عن الدول الوسيطة، خاصة بعد النزاعات التي نشبت بين روسيا وأوكرانيا بسبب الغاز. فضلا عن ذلك، من شأن هذا المشروع أيضا الحد من ارتفاع أسعار الغاز. كما يمكن لألمانيا أن تصبح مركزا لتوزيع الغاز في القارة الأوروبية وذلك من خلال شراء كميات كبيرة منه تفوق احتياجاتها، لتقوم فيما بعد ببيع هذه الفائض إلى دول أوروبية أخرى.
من جهة أخرى، أكد بعض المراقبين الدوليين أنه من الصعب أن تغير ألمانيا موقفها الحالي تجاه المشروع الروسي، رغم أن خط أنابيب الغاز الجديد لن يحد من تبعية ألمانيا والاتحاد الأوروبي لروسيا على مستوى إمدادات الغاز. والجدير بالذكر أن مشروع “نورد ستريم-2” أضحى مسألة مثيرة للجدل خاصة في خضم المواجهة التي تعيشها روسيا مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ووفقا لدراسة أجراها مركز أبحاث بروجل الأوروبي، تنشط شبكة أنابيب الغاز الروسية حاليا بنسبة 60 بالمائة. كما أنه من المتوقع أن يشهد طلب دول أوروبا الغربية على إمدادات الغاز ارتفاعا طفيفا تدريجيا على مدار السنوات الخمسة عشر القادمة.
أبرز خطوط أنابيب الغاز الأوروبية
كل الأطراف تخطط لخدمة مصالحها
سعت المستشارة الألمانية خلال شهر آيار/ مايو الماضي، إلى الحصول على موافقة الدولة الأوكرانية على مشروع خط أنابيب الغاز الروسي من أجل الحد من الانتقادات الواسعة، مع ضمان عدم المساس بالمصالح الأوكرانية. ولا يعد الجدل القائم حول هذا المشروع أمرا هينا، حيث أكد مركز الإصلاح الأوروبي أنه في حال تدفق الغاز، الذي يصل إلى ألمانيا حاليا من خلال أوكرانيا، عبر خط أنابيب “نورد ستريم-2″، فستتوقف الحكومة الأوكرانية عن تلقي حوالي 1.800 مليون يورو سنوياً كرسوم على نقل الغاز عبر أراضيها، أي ما يعادل 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الأوكراني.
في الأثناء، تبذل واشنطن جهودها للترويج لمنتجاتها في سوق الطاقة في القارة الأوروبية، الأمر الذي لم يشد اهتمام برلين على الرغم من تعدد العروض والفرص الأمريكية، في الوقت الذي عمدت فيه بعض الدول الأخرى إلى فسخ العقود التي تجمعها بالجانب الروسي. وعلى سبيل المثال، وقعت بولندا اتفاقية إمدادات الغاز الطبيعي المسال مع الولايات المتحدة في سنة 2017. وبموجب هذا العقد، تزود الولايات المتحدة الأمريكية بولندا بتسع ناقلات غاز طبيعي مسال على مدار خمس سنوات متتالية. ومن المقرر أن ترسو هذه الناقلات في المرفأ البولندي الجديد الواقع في شفينويتشيه على ضفاف بحر البلطيق، الذي يعد من أهم منشآت البنية التحتية الغازية في بولندا.
في الأثناء، لا زالت الولايات المتحدة الأمريكية في محادثات مع دول البلطيق الثلاث؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، الرافضة لمشروع “نورد ستريم-2” الروسي، والتي عبرت عن خوفها من روسيا خاصة في ظل تبعيتها لها على مستوى إمدادات الطاقة. وخلال نيسان/ أبريل الماضي، سافر رؤساء دول البلطيق، كيرستي كاليولايد، وريموندز فيجونس وداليا غريباوسكايتي، إلى واشنطن من أجل لقاء الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. ولعل إمدادات الغاز كانت من بين القضايا الرئيسية على جدول أعمال هذا اللقاء.
تطمح بولندا في أن تصبح موزعا للغاز الطبيعي في القارة الأوروبية وهو ما سيعود عليها بالكثير من الفوائد المالية من خلال فرض الرسوم والضرائب
خلال السنوات الأخيرة، عملت دول البلطيق الثلاث على ربط قنوات إمدادات الغاز فيما بينها، وحتى مع دول أخرى على غرار فنلندا وبولندا. علاوة على ذلك، عمدت هذه الدول إلى استيراد الغاز من النرويج وإنشاء محطة إعادة تحويل الغاز في الميناء الواقع في مدينة كلابيدا الليتوانية. كما تدرس هذه الدول الثلاث بناء ميناء “بالديسكي” الجديد في إستونيا.
من جهتها، اقترحت وارسو، العاصمة البولندية، بناء خط أنابيب تربطها بالنرويج، ويمكن أن يحمل الغاز من بولندا إلى وسط وشرق أوروبا. وتطمح بولندا في أن تصبح موزعا للغاز الطبيعي في القارة الأوروبية وهو ما سيعود عليها بالكثير من الفوائد المالية من خلال فرض الرسوم والضرائب. أما المجر وسلوفاكيا فأعربتا عن نيتهما في بناء خط أنابيب للغاز يربط بين الشمال والجنوب الأوروبي لتسهيل وصول الغاز من رومانيا وبلغاريا إلى أراضيهما.
المصدر: الكونفدنسيال