بعد يومٍ واحد من بيان مكتب رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي ينفي موافقته على تغيير الوضع القانوني في المسجد الأقصى وبناء كنيس يهودي كما صرح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، جاء ردّ حكومة الاحتلال سريعًا لمراضاة بن غفير، فأعلنت رسميًا تمويلها خطط اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى.
قالت وزارة التراث في دولة الاحتلال في نص الإعلان إن هدفها من هذه الخطوة “أن يكون من الممكن التعرف إلى التراث اليهودي لجبل الهيكل دون روايات تروج لمعاداة السامية”، أي أن الميزانية عمليًا ستخصص لإنتاج وترويج رواية صهيونية إحلالية تتحدث عن المسجد الأقصى باعتباره هيكلًا، وستصبح هناك رواية رسمية لمشروع الإحلال الديني في الأقصى، بعد أن كان متروكًا لمجموعة كبيرة من المنظمات والجماعات التي تدعمها حكومة الاحتلال وتحافظ على مسافة منها.
التمويل ليس جديدًا!
ليس أن الحكومة لم تكن تمول سابقًا اقتحامات المستوطنين أو تدعمها، بل إنها المرة الأولى التي تعلن عن ذلك رسميًا، فبعد عام 1996، حين كانت السياسات الإسرائيلية تتحفّظ على قيام المجموعات اليهودية المتطرفة مثل “أمناء جبل الهيكل” بزيارات جماعية واستفزازية ومدنِّسة للمسجد الأقصى، أصبح أفراد الشرطة الإسرائيلية مرافقين ومنظِّمين ومدافعين عن هذه الزيارات، التي هدفت إلى تثبيت وجود يهودي دائم في المسجد الأقصى.
ولتسهيل وتشجيع الزيارات، أزالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي اللافتات التي وُضعت بعد عام 1967، والتي تمنع اليهود من دخول المسجد الأقصى أو الصلاة فيه، وكانت من أبرز وأخطر الجماعات الداعمة للاقتحام بشكل مستمر: أمناء جبل الهيكل، ونساء من أجل الهيكل، وحرّاس الهيكل، وعصبة الدفاع اليهودية “كاخ”، والحركة من أجل بناء الهيكل.
وليس وصولًا إلى إضفاء الطابع الرسمي على اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، مع ما فعله رأس الحكومة عام 2000، حين قام رئيس وزراء الاحتلال، أرئيل شارون، وأعضاء من حزب الليكود، جنبًا إلى جنب مع 1000 حارس مسلح، باقتحام المسجد الأقصى والتجول في ساحاته، معلنًا أن “الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية”.
منذ سنوات، ومع وصول اليمنيين المتطرفين إلى مراكز صنع القرار في حكومة الاحتلال، أصبحت جماعات الهيكل – التي تقود وتنظم اقتحامات المستوطنين في المسجد الأقصى – أداة مهمة وسلاحًا لدى حكومة الاحتلال بغية تنفيذ مخططاتها المتعلِّقة بالقدس المحتلة والأقصى، حيث إنها تحظى بدعم حكومي مادي وسياسي ومعنوي.
وعلى مدار سنوات، حققت هذه الجماعات تقدمًا بشأن الأقصى، وخاصة على صعيد تكثيف الاقتحامات ومحاولة أداء صلوات تلمودية، ونجحت في افتتاح 200 كنيس في الأوقاف الإسلامية جميعها ملاصقة لحائط البراق في الحرم القدسي الشريف، كما تمكّنوا من بناء كنيس كبير ومعهد الهيكل لتدريب التلاميذ على التطرف والمعتقدات الدينية الخاصة بهم.
تمويل هزيل لمكاسب سياسية
لا يمكن النظر نسبيًا إلى التمويل الذي منحته الحكومة لاقتحام المستوطنين باعتباره عطاءً جزيلًا بقدر ما هو تحقيق لمكاسب سياسية تريدها الحكومة، فالتمويل الذي تم اعتماده هزيل وقيمته مليوني شيكل، أي ما يوازي 526 ألف دولار، ما يعني سياسيًا نقل الدور الحكومي الرسمي من حماية الاقتحامات وتأمينها إلى تبنيها وتسييرها، وتبنيها علنًا برنامجًا وروايةً رسمية لتغيير هوية المسجد الأقصى من مسجد إلى “هيكل”، وهو إعلان كانت تتجنبه في الماضي وتحاول أن تحافظ على الغموض تجاهه.
تأتي هذه الخطوة، في ظل حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، التي كثف فيها المستوطنون – بدعم حكومي – اقتحام المسجد الأقصى بأعداد غير مسبوقة وصلت إلى 2958 مستوطنًا فيما يعرف يهوديًا “ذكرى خراب الهيكل” في 13 أغسطس/آب 2024، وشارك في الاقتحام وزير شؤون النقب والجليل يتسحاق فاسرلاوف من حزب “عظمة يهودية”، ووزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، الذي قال إن “هناك تقدمًا كبيرًا جدًا في فرض السيادة والسلطة على جبل الهيكل (المسجد الأقصى)، وسياستنا أن نسمح لليهود بالصلاة هنا”.
ومع استمرار طوفان الأقصى، الذي كانت القدس عنوانًا رئيسيًا في منطلقاته، يحاول الاحتلال خلق تحولات في القدس يمكن أن يستثمرها سياسيًا كأوراق ضغط، في المفاوضات غير المباشرة مع المقاومة الفلسطينية، بعد أن فشل بقوة السلاح أن يفرض ذلك في قطاع غزة.
من ناحية أخرى، تأتي هذه الخطوات الإسرائيلية في المسجد الأقصى كخطوات إرضاء للصهيونية الدينية التي تريد تحقيق إبادة أعظم واحتلالًا أكبر وإعادة الاستيطان في قطاع غزة، لكن المستوى العسكري والأمني الإسرائيلي يعلمان عجزهما عن هذه الخطوة، فتثأر الصهيونية الدينية لنفسها، بتوسيع خططها في القدس ولاحقًا الضفة الغربية.
كذبة “الوضع القانوني”
تعيد قيادات الاحتلال الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا مصطلح “الوضع القانوني” في المسجد الأقصى، وهو ما يعارضه الباحث والمختص في شؤون القدس زياد ابحيص، الذي يؤكد أن الصفة القانونية للمسجد الأقصى لا يحددها القانون الإسرائيلي الذي يحتل فلسطين، وأن الفلسطينيين لا يعترفون أصلًا بهذا القانون الصادر من دولة تأسست على محو الوجود الفلسطيني، وطرد أصحاب الأرض من أرضهم.
ويضيف ابحيص في حديثه لـ”نون بوست”: “لكن لو رجعنا للقانون الدولي، فإنه يحدد ما يُعرف بالوضع القائم في المسجد الأقصى، أي أنه يجب أن يبقى على ما كان عليه قبل الاحتلال الإسرائيلي في 4 يونيو/حزيران 1967، أي أنه يجب أن يبقى مسجدًا إسلاميًا خالصًا تحت إدارة إسلامية تتولى إعماره ورعايته وكل شؤونه، وهذا الأصل القانوني المعمول به”.
ويشير ابحيص إلى أن الاحتلال الإسرائيلي في بدايات الأمر كان يعترف بهذا الوضع القانوني، بل حتى كان يراسل الأمم المتحدة على هذا الأساس، وأنه لا يبحث عن تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، ويعترف بالإدارة الإسلامية الخالصة، وسيمكنها من الإعمار.
لكن، نقطة المفارقة في صعود تيار الصهيونية الدينية داخل المجتمع الإسرائيلي ووصوله إلى حكومة الاحتلال، أن هذا التيار معنيٌّ بـ “الإحلال الديني”، وفق ما يصف الباحث والمختص في الشأن المقدسي، حيث أضاف هذا التيار للإحلال الصهيوني على مستوى الجغرافيا والديموغرافيا في فلسطين، فكرة جديدة باختياره مقدسات إسلامية بعينها، ويعلن نيته إزالتها من الوجود وتأسيس مقدسات يهودية مكانه، والمسجد الأقصى هو جوهر هذه الفكرة.
لتأسيس هذه الفكرة، فإن تيار الصهيونية الدينية، الذي يتزعمه إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، يرى الاستراتيجية في تقاسم المسجد الأقصى أولًا من خلال مرحلة انتقالية يكون فيها المسجد الأقصى مشتركًا بين المسلمين واليهود، ويؤسس لثلاث مشروعات مرحلية: التقسيم الزماني، ثم التقسيم المكاني، وأخيرًا التأسيس المعنوي لـ”الهيكل”، بمعنى فرض الطقوس التوراتية باعتبارها مقدمة التأسيس المادي له، وبحسب ابحيص، فإننا في السنة الخامسة للتأسيس المعنوي التي شرعوا فيها عام 2019، وانتقل الحديث اليوم إلى الفعل المادي ببناء كنيس في المسجد الأقصى المبارك.
هل تنفجر الأوضاع؟
تاريخيًا، كان المسجد الأقصى عنوان الشرارة الموقدة للانتفاضات الفلسطينية، فكانت مجزرة الأقصى عام 1990 هي شرارة إعادة بث الروح في الانتفاضة الأولى، ثم هبة النفق 1996 والتي جاءت في أعقاب حفر نفق تحت المسجد الأقصى، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000 مع اقتحام شارون للمسجد، ومنذ عام 2013 وحتى اليوم، خاض الفلسطينيون هبات وحروب آخرها معركتا سيف القدس التي جاءت ردًا على مسيرة الأعلام الاستيطانية في القدس والاعتداءات في حي الشيخ جراح المقدسي، ثم معركة طوفان الأقصى عام 2023.
لكن وفي نظرة تبدو أكثر سوادًا، أعطى ضعف التحركات الشعبية العربية والفلسطينية في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل والغضب الفاتر على حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ما يشبه الضوء الأخضر للاحتلال الإسرائيلي لتنفيذ مخططاته التي كان يحلم بها طويلًا في المسجد الأقصى، لكن الهبات الفلسطينية كان تحول دونه.
بشكلٍ عام، واجه إعلان إيتمار بن غفير بناء كنيس يهودي في المسجد الأقصى، ثم الإعلان الحكومي لتمويل الاقتحامات غضبًا داخليًا إسرائيليًا، فالإسرائيليون يدركون بطبيعة الحال أن هدوء الأوضاع نسبيًا في الجبهات الإقليمية والداخلية الفلسطينية لا يعني عمومًا ديمومتها، بل إنها تراكم في الغضب وصولًا إلى لحظة الصفر التي يصبح فيه استدراك “إسرائيل” وقدرتها على السيطرة وضبط الأوضاع أمرًا صعبًا.