في إحدى صباحات شهر كانون الثاني عام 2007، وقف عازف الكمان المشهور “جوشوا بيل” بشكلٍ شبه متنكّر لمدة 45 دقيقة في إحدى محطات مترو الأنفاق في العاصمة واشنطن، وبدأ بعزف ستّ قطع من موسيقاه الكلاسيكية المشهورة للمارّة الذين بلغ عددهم خلال تلك الدقائق ما يقارب الألف شخص، أو 1097 شخصًا على وجه التحديد. و”بيل” لمن لا يعرفه قد يكون واحدًا من أرقى عازفي الكمان المعاصرين وأكثرهم شهرةً على الإطلاق. فهل يمكنك توقّع ردود أفعال الناس معه في المحطة آنذاك؟
بالنسبة للجزء الأكبر، لم يكن المارّون يتفاعلون معه على الإطلاق. سبعة أشخاص من الألف شخص توقّفوا لسماع موسيقاه، شخص واحد فقط تعرّف عليه، في حين أنّ عددًا منهم فقط قام بتقديم بعض المال له كما جرت وتجري العادة مع أيّ عازفٍ متنقّل في العالم كتقديرٍ لعزفه وتشجيعٍ له. المال ليس موضوعنا على أية حال. الغالبية العُظمى من المارّين لم يتوقّفوا للنظر والاستماع على الرغم من أنّ الموسيقى كانت واضحةً لهم وربما شعروا بجَمالها للحظات، لكنْ ربما كان التفكير الأكثر حضورًا آنذاك في عقولهم أنّ هذا مجرّد عازفٍ عابرٍ هاوٍ لا يستحق الاستماع إليه، أليس كذلك؟
تجربة “جوشوا بيل” الشهيرة في إحدى محطات مترو الأنفاق في واشنطن
كثير من الأشخاص الذين استخدموا المترو في اللحظات التي كان “بيل” يعزف فيها، كانوا بلا شكّ في عجلةٍ من أمرهم، كأنْ يكونوا في طريقهم للعمل أو ما شابه، وهذا يُعطينا تفسيرًا خفيفًا للسبب الذي دفعهم لعدم إبداء أي انتباه أو اهتمام بعزفه البارع. وبالتالي، ربما يرجع الأمر إلى ما يُسمّى في علم النفس بظاهرة “العمى غير المقصود“، والتي تحدث عندما نركّز على شيء ما بدرجة كبيرة حتى أننا لا نلاحظ أي شيء آخر يحدث أمام أعيننا.
لكنّ الأمر في الوقت نفسه يطرح لنا العديد من الأسئلة السيكولوجية والفلسفية معًا. فمن جهةٍ قد نتساءل حقًا عن الدرجة التي يهتمّ بها الأشخاص بالمشهورين فقط لأنهم مشهورين ومعروفين بغض النظر عن ما يقدمونه، أو عن الأسباب التي تدفعنا لتجاهل أحدٍ آخر له القدرة على تقديم ما يقدّمه أولئك المشهورين لكنه لا يملك اسمًا في عالمهم العاجيّ. عوضًا عن الأشياء التي يمكن أن نفقد فرصة التمتّع بها، بوعيٍ أو بغير وعي، نظرًا لأنّنا نلهث خلف أشياء أخرى ونركض وراءها.
كمجتمع، لا نعرف كيف نكتشف ونقدّر الجمال عندما يكون أمامنا مباشرة. إما لكوننا منشغلين في زحمة الحياة اليومية أو أننا ننساق بسهولة مع الأحكام المُسبقة التي نكوّنها عن الأشياء
فكّر بالأمر من وجهة نظرٍ أخرى من واقعك. فلربّما أحببتَ يومًا أغنيةً لمغنّيها، أو لأنّها من كلمات شاعرٍ مشهور تحبّه، أو من ألحان آخر. لكن، وربّما أيضًا، قد لا تعير تلك الأغنية أيّ انتباهٍ أو اهتمام أو حتى قد تعبّر عن اشمئزازك منها في حال غنّاها شخص آخر، أو كتب كلماتها شاعر لا تحبه. نحنُ لا نناقض الجَمال والذوق الفنّي هنا، فلا ننكر أنهما متفاوتان بدرجاتٍ مختلفة بين الفرد والآخر، ما أرمي إليه هو تأثير رأينا ونظرتنا الشخصية للفنّ والموسيقى من حولنا.
قد تكون الفكرة الأساسية وراء ذلك هي أننا، كمجتمع، لا نعرف كيف نكتشف ونقدّر الجمال عندما يكون أمامنا مباشرة. إما لكوننا منشغلين أو مشغولين للغاية في زحمة الحياة اليومية، تمامًا كما حدث في تجربة “بيل” الصباحية، أو أننا ننساق بسهولة مع الصور النمطية والأحكام المُسبقة التي نكوّنها عن الأشياء والأشخاص من حولنا.
الافتراضات والأحكام التي نكوّنها عن الأشخاص قد تكون قائمة على المظهر أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي أو على درجة الشُهرة والمعرفة
التفسير الثاني قد يكون معقولًا أليس كذلك؟ فلسوء الحظ، تميل عقولنا للتكاسل عن التفكير وتكوين الأفكار جديدة أو العمل على تطوير القديمة منها، لذلك تلجأ في كثيرٍ من الأوقات إلى البحث عمّا هو موجود لديها مسبقًا أو استخدام الاختصارات والمعلومات المتوافرة لديها والتي كوّنتها في وقتٍ سابق، فتعتقد أنّها صالحة للاستخدام بغض النظر عن الموقف أو الحالة التي هي فيها.
فالافتراضات والأحكام التي نكوّنها عن الأشخاص قد تكون قائمة على المظهر أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي أو على درجة الشُهرة والمعرفة. فأنتَ قد لا تستمع لجارك أو للرجل الذي يقطن معك في الحيّ نفسه، حتى وإنْ فاق صوته جمالَ صوت فنّانك المفضّل، نظرًا لأنك تنظر إليه بوصفه “رجل الحيّ” فقط ولا شيء آخر، وعقلك هنا لا يستطيع تصوّره كمغنٍّ أو فنّان. وربّما لهذا قالت العرب قديمًا أنّ “مغنّي الحيّ لا يُطرب”، أو حتى حين قولهم بشكلٍ أعمّ وأوسع أنْ “لا كرامةَ لنبيّ في قومه”.
فعلى الرغم ربّما من عدم وعي من قال تانك المقولتين بعلم النفس ونظريّاته، أو بالرغم من أنّها قد قيلت قبل تطوّر تجاربه بعقود طويلة، إلا أنهما فعليًا يستطيعان تصوير الطريقة التي يتعامل بها الأفراد مع الأسئلة التي طرحناها سابقًا، والطريقة التي ننظر بها للفنّ ونحكم عليه ونتعامل معه.
كيف يفسّر أرسطو ذلك؟
قبل 2300 عام تقريبًا، كتب أرسطو أهمّ عملٍ إنسانيّ عن الإقناع، متطرّقًا لأهم ثلاثة محاور أساسية لتحقيقه؛ المنطق والجمهور والتعاطف. يخبرنا المنطق أنّ الفكرة تبدو منطقية ومقبولة من وجهة نظر الجمهور والمستمعين، لذلك يجب على الفنّان أو الموسيقي، كوننا نتحدث عن الفنّ هنا، العملَ على جعل موسيقاه أو أغانيه مرتبطة بوجهة نظر الجمهور الذي يتوجّه له، أو منطقهم.
المحاور الثلاثة الأساسية لتحقيق الإقناع عند أرسطو هي المنطق والجمهور والتعاطف
أما الجمهور، فيقصد به أرسطو السمعة والشهرة والصفات التي تُعرف بها، كالمصداقية والاحترافية والثقة وسلطة الوصول التي يمكن أن تكون قوة الصوت وقدرتها على الوصول. أما التعاطف فيشير إلى الارتباط العاطفيّ أو الشعوريّ مع الجمهور، وهذا الارتباط يحتاج إلى بيئةٍ ملائمة لخلقه وصنعه، فالجمهور لا يكون على استعدادٍ دائمٍ لتلقّي رسالة الفنّ في كثير من الأحيان.
كيف نفهم رؤية أرسطو من واقع تجربة “جوشوا بيل” إذن؟ لماذا يدفع الناس مبالغ هائلة للاستماع إلى مغنٍ أو عازف ما في حين يتجاهلون جارهم العازف على الرغم من تفوّقه وقدراته؟ أو لماذا يقطعون المسافات الطويلة لسماعه في مكانٍ ما في حين يُعرضون عن ذلك صباح اليوم التالي؟
الجمهور قد لا يثق بالعازف أو المغنّي فقط، وإنما بالمؤسسة التي تدعمه أو المسرح الذي يقدّمه أو البرنامج الذي يستضيفه
قد تكون الإجابة هنا هيَ غياب الجمهور والتعاطف، كما أخبرنا أرسطو. فالجمهور قد لا يثق بالعازف أو المغنّي فقط، وإنما بالمؤسسة التي تدعمه أو المسرح الذي يقدّمه أو البرنامج الذي يستضيفه، وبالتالي فمترو الأنفاق لا يؤدي إلى شعورنا بالثقة ذلك ولا يحفّز توقعاتنا لأنْ نجد موسيقى جميلة أو غناءً رائعًا فيها، تمامًا كما الحيّ الذي يعزف فيه جارك أيضًا. وغياب الثقة هذا مبنيٌّ على الأحكام المسبقة التي كوّناها من قبل بطبيعة الحال.
وبالمثل، فإنّ تلك المسارح والمؤسسات والبرامج وصالات العرض هي بيئة مناسبة لخلق الاتصال والترابط العاطفيّ والشعوري بين الفنّان من جهة والمشاهدين أو المستمعين أو الجمهور من جهةٍ أخرى. أمّا الحيّ الصغير الذي تعيش فيه، ومحطة مترو الأنفاق، وساحة مدرستك ربما، فجميعها مساحاتٍ لا تدعم ذلك، فالصخب والحركة والإجهاد وضغط الحياة وممارساتها اليومية لا يمكن أن تؤدي إلى الشعور بذلك الترابط أبدًا. إضافةً ربّما لأنّ معرفتك الشخصية المسبقة بجارك الفنّان أو صديقك المغنّي قد تؤثّر على ذلك الترابط بالفعل.
وهكذا، ربما في المرة التالية التي تستمع فيها لعزفٍ جميلٍ أو غناءٍ رائع وأنت تعبر مترو الأنفاق أو شارعٍ ما، أو في حين استماعك لجارك الموهوب وصديق حيّك الفنّان، قد تتذكر كيف يمكن لعقولنا أن تنخدعَ بسهولة بعوامل الشهرة والمعرفة وكيف ننغرّ بالنجومية ونُعجب بالفنانين لكونهم مشهورين فقط، لا لفنّهم وموهبتهم.