في الوقت الذي ركنت فيه قيادات أحزاب الموالاة في الجزائر إلى تصفية الحسابات فيما بينهما، غير مبالية بالأزمة السياسية والاقتصادية التي تعرفها البلاد، ما زاد في تعقيدها، يعمل إسلاميو الجزائر على تقريب وجهات النظر بين مختلف الأحزاب السياسية هناك لبلورة تصور لمرحلة انتقالية تُخرج البلاد من أزماتها المتواصلة منذ سنوات.
التشاور مع المعارضة
تحركات إسلاميو الجزائر تجسدت في اللقاءات التي يجريها أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد، وهو حركة “مجتمع السلم”، مع أحزاب المولاة والمعارضة، لإيجاد صيغة مشتركة تضمن التوافق على حل ينقذ البلاد ويُخرجها من أزمتها التي طال أمدها.
مؤخرًا التقى رئيس حركة “مجتمع السلم” عبد الرزاق مقري مع رئيس حزب “طلائع الحريات” المعارض ورئيس الحكومة السابق علي بن فليس الذي يعتبر من أبرز المنافسين المرتقبين للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، للتشاور في خصوص الأزمة التي تمر بها البلاد، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع السنة المقبلة.
يسعى مقري إلى تقريب وجهات النظر مع هذا الحزب الذي كان من أبرز الأحزاب التي رفضت المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة
وحزب طلائع الحريات الذي ينتمي لتيار الوسط أسسه منتصف يوليو/تموز 2015 بن فليس رئيس الحكومة الأسبق (2000 – 2003) الذي ظل يردد خلال السنوات الأخيرة مطالبًا بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة بدعوى وجود شغور في رئاسة الجمهورية بسبب مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
وكان بن فليس المنافس الأول للرئيس الحاليّ عبد العزيز بوتفليقة في انتخابات الرئاسة الأخيرة التي جرت يوم 17 من أبريل/نيسان 2014، وفاز فيها بوتفليقة بولاية رابعة بنسبة فاقت الـ80% من الأصوات، ورفض بن فليس الذي حصل حينها على نسبة 12% من الأصوات الاعتراف بالنتائج، وقال إن الاقتراع شابته عمليات تزوير واسعة النطاق، رغم أن المجلس الدستوري أكد أنه جرى في ظروف شفافة ونزيهة، وأعلن وقتها عزمه تأسيس حزب يجمع أنصاره.
بعدما كان مسؤولًا في حزب “جبهة التحرير الوطني” الحاكم الذي قادها مطلع العقد الماضي، تولى بن فليس رئاسة الحكومة من 2000 إلى 2003 خلال الولاية الرئاسية الأولى لبوتفليقة الذي كان على علاقة وثيقة به قبل انفصالهما، وبقي على رأس الحزب الحاكم وترشح لمواجهة بوتفليقة في الاقتراع الرئاسي عام 2004، لكنه لم يحصل سوى على 6.42% من الأصوات، واختفى من الساحة السياسية عقدًا من الزمان ثم ظهر مجددًا ليترشح في انتخابات الرئاسة 2014.
ويسعى مقري إلى تقريب وجهات النظر مع هذا الحزب الذي كان من أبرز الأحزاب التي رفضت المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث دعا إلى المقاطعة بسبب رفض السلطات سحب تنظيم الانتخابات من وزارة الداخلية وإسنادها إلى هيئة عليا مستقلة، ويعتبر رئيس الوزراء الأسبق الذي تحول لاحقًا إلى معارض لبوتفليقة أن الجزائر تعيش أزمة سياسية ومؤسساتية ذات خطورة استثنائية، ناتجة عن الشغور في رأس هرم الدولة.
المولاة أيضًا
لقاءات قيادة حركة “مجتمع السلم”، لم تشمل أحزاب المعارضة فقط، وإنما أحزاب الموالاة أيضًا، فالتقى عبد الرزاق مقري مع رئيس حزب “الجبهة الشعبية الجزائرية” عمارة بن يونس الموالي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة وأحد أبرز الداعين لولاية رئاسية خامسة، بمبادرة منه، وتم اللقاء بمقر الحركة بالمرادية بحضور قيادات الصف الأول للحزبين السياسيين.
وأورد بيان نشرته الحركة أول أمس الإثنين أن اللقاء تمحور حول الأوضاع السياسية والاقتصادية للبلاد، وكان فرصة لرئيس الحركة من أجل عرض أفكار مبادرة التوافق الوطني، عبر فرض الانتقال السياسي والاقتصادي الناجح.
هذه اللقاءات جاءت بعد قرابة الشهر والنصف من دعوة حركة مجتمع السلم للسلطات الحاكمة في الجزائر إلى نهج سياسة التوافق لإنقاذ البلاد
اعتبر البيان أنه ظهر خلال هذه اللقاءات تطابق كبير في تشخيص الأزمة والحلول الضرورية للخروج منها، من خلال الاتفاق على رؤية سياسية تكفل الدخول في مسار توافقي، تكون الانتخابات الرئاسية فرصة له، يضمن الاستقرار ووقف الفساد وحسن استغلال الموارد المتاحة وتوفير بيئة أعمال جاذبة للاستثمار وحرية المنافسة والمساواة في الفرص وتحقيق إصلاحات سياسية تكفل وقف التزوير وتجسيد الحريات والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، بعد العهدة التوافقية على أساس التنافس على البرامج وتحمل مسؤولية التسيير.
وتسعى قيادات في الحركة الإسلامية إلى ترتيب لقاءات مع حزبي “جبهة التحرير الوطني” الذي يقوده جمال ولد عباس، وحزب “التجمع الوطني الديمقراطي” الجزائري الذي يتزعمه رئيس الحكومة الحاليّ أحمد أويحيى، حتى تكون رؤيتهم للحل أشمل.
التوافق مع السلطة
تأتي هذه اللقاءات بعد قرابة الشهر والنصف من دعوة حركة مجتمع السلم للسلطات الحاكمة في الجزائر إلى نهج سياسة التوافق لإنقاذ البلاد من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها منذ سنوات عدة، أزمة كان لها تأثير سلبي على كل مناحي الحياة في هذا البلد العربي الذي يعتمد اقتصاده على النفط والغاز.
وقد عبرت الحركة عقب مؤتمر استثنائي لها عن استعدادها لإرساء توافق وطني لتسيير المرحلة المقبلة، ودعت الحركة إلى التوصل لتوافق وطني لتسيير المرحلة المقبلة مع السعي لإيجاد بدائل اقتصادية، وأكدت ضرورة اغتنام فرصة تعافي أسعار المحروقات في السوق الدولية لتوظيف عائداتها في التنمية الشاملة وتحسين مستوى معيشة المواطن.
عبد الرزاق مقري خلال لقائه مع عمارة بن يونس
حينها أبدى مقري استعداد الحركة للعب دور الوسيط السياسي في الوصول إلى توافق، معولًا على الدور الوسطي الذي يتمتع به حزبه لفتح مشاورات مع شركاء سياسيين لتحقيق مبادرة التوافق الوطني التي يرنو من خلالها إلى إنقاذ البلاد من أزماتها المتكررة.
الرجوع إلى الحكم؟
تمثل هذه التحركات التي شملت لقاءات مع أحزاب الموالاة والمعارضة رغبة من أكبر الحركات الإسلامية في الجزائر لإخراج بلادهم من أزمتها وإنقاذها، ويسعى مقري من خلال هذا اللقاء لإسناد السلطة وإعطائها متنفسًا حتى تتمكن من السير بالبلاد إلى بر الأمان، وفقًا لعدد من المتابعين للشأن الجزائري.
ويرى مراقبون أن توجهات عبد الرزاق مقري إلى فتح صفحة جديدة مع السلطة بدعوى التوافق بين جميع الأطراف تنم عن دراسة كبيرة لواقع البلاد الذي لا يمكن له أن يتغير دون التوافق بين مختلف الأطراف، ويقول هؤلاء إن إقدام مقري على هذه الخطوة يشير إلى أنه فتح المجال لإمكانية التداول على تصوراته مع السلطة بشأن التوافق أو الذهاب بصفة مستقلة للانتخابات الرئاسية المنتظرة في ربيع العام القادم.
تعاني الجزائر انسدادًا شاملًا يتجسد في أزمة نظام مكتملة الأركان، حسب أحزاب المعارضة
وسبق أن تلقت حركة مجتمع السلم دعوة للمشاركة في الحكومة، إلا أنها رفضت ذلك، يذكر أن هذه الحركة حازت المرتبة الثالثة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بحصولها على 33 مقعدًا من أصل 462 هو عدد إجمالي مقاعد البرلمان، بعد كل من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي.
وتعود آخر مشاركة لحركة مجتمع السلم في السلطة إلى 6 سنوات مضت، حيث أنهت الحركة في يونيو/حزيران 2012 مشاركتها في الحكومة بعد 17 سنة من العمل في صفوف الحكومات، وفي تلك السنة فكت الحركة ارتباطها السياسي مع التحالف الرئاسي الذي كان يجمعها بحزبي السلطة: جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، احتجاجًا على ما اعتبرته تزويرًا للانتخابات البرلمانية التي جرت في مايو/أيار 2012.
تحركات “حمس” جاءت في وقت تعاني الجزائر فيه انسدادًا شاملًا يتجسد في أزمة نظام مكتملة الأركان، حسب أحزاب المعارضة التي تحمّل النظام الحاكم مسؤولية تدهور الوضع العام للبلاد وانسداد الأفق التي يعيش على وقعه الشعب الجزائري، خاصة مع تنامي الصراعات داخل أحزاب المولاة، وهو ما زاد من أهميتها والانتظارات حولها، غير أن هذه التحركات تصطدم بعدم وجود رغبة لدى النظام في التغيير وفقا لعديد من المحللين الجزائريين.