توفي فجر يوم أمس الداعية العراقي المعروف عبد المنعم صالح العلي العزي، والمعروف باسم “محمد أحمد الراشد”، عن عمر 86 عامًا في مهجره بماليزيا. عُرف الراشد بكتاباته التنظيرية في الدعوة الإسلامية، وكان أحد كبار منظري جماعة الإخوان المسلمين.. فمن هو الراشد وكيف كانت حياته؟
الراشد، والمعروف أيضًا بلقب “أبي عمار”، وُلد في 8 يوليو/ تموز 1938 في حي الأعظمية بالعاصمة العراقية بغداد، منذ صغره كان لديه شغف كبير بقراءة المجلات الأدبية. بدأ الراشد اهتمامه بالسياسة في سن الـ 12 خلال دراسته في المرحلة المتوسطة، حيث كانت القضية الفلسطينية من أبرز اهتماماته.
وفي تلك الفترة، تأثر بفكر جماعة الإخوان المسلمين، التي بدأ يتعرّف عليها عندما بلغ الـ 13. درس محمد الراشد المرحلة الابتدائية في مدرسة تطبيقات دار المعلمين، التي تُعد من أرقى المدارس في العراق، ثم انتقل إلى كلية الحقوق في جامعة بغداد، حيث تخرّج منها عام 1962.
الانقلابات العسكرية والانخراط في فقه الدعوة
تلقى الراشد تعليمه على يد عدد من العلماء السلفيين في العراق، مثل عبد الكريم الشيخلي وتقي الدين الهلالي ومحمد القزلجي الكردي وأمجد الزهاوي ومحمد بن حمد العشافي، ثم انضم عمليًا إلى جماعة الإخوان المسلمين في مايو/ أيار 1953، وكان يسمع خطب وتوجيهات كبار الإخوان كالشيخ محمد الصواف قائد الإخوان في العراق، وقصائد شاعر الدعوة وليد الأعظمي.
ثم كان للتداعيات السياسية أثر كبير على جنوحه إلى العلم الشرعي، وخاصة في الفترة التي بدأ فيها التضييق على الإسلاميين بعد الثورة في مصر، والتي انتهت بصعود جمال عبد الناصر، وانحسار المجال أمام الإخوان المسلمين.
يقول الراشد: “حوصرنا في تلك الفترة حصارًا معنويًا شديدًا بحيث أصابنا شيء من الانعزال، وهذه العزلة قد تكون سلبية، لكن من ناحية أخرى فيها إيجابية أنها تترك لك مجالًا للتعلم والجدّ، ثم توجّهت التوجُّه العلمي بإرشاد من أساتذتنا ونقبائنا في الجماعة، وكنا نحرص على بقية العلماء السلفيين في العراق والتتلمذ عليهم، وهم قلة لأن العلماء في العراق يغلب عليهم التقليد والتصوف أحيانًا، ولأن التوجه العام للإخوان في العراق هو توجه سلفي، فقد وجهونا إلى التتلمذ على العلماء السلفيين”.
استمر الراشد في مجال العلم الشرعي والدعوة حتى اندلاع ثورة 1968 في العراق، والتي أفضت إلى صعود حزب البعث في السلطة، ثم نتج عن ذلك ملاحقة كل التيارات والأحزاب الأخرى، وبالطبع كان لجماعة الإخوان المسلمين دورها في الملاحقة، فاضطر الراشد للتواري عن الأنظار عام 1971 -حُكم عليه غيابيًا بالإعدام عام 1987-.
يستعرض الراشد معاناة الجماعة في عام 1971، حيث يقول: “في الشهر الرابع من تلك السنة، واجهت جماعتنا محنة قاسية، حيث ألقي القبض على قيادتها وعدد كبير من دعاتها، وتعرضوا لظروف قاسية، وانتهت تلك المحنة بتدخل شخصي من الرئيس أحمد حسن البكر”.
بعد تلك الأحداث، انتقلت الجماعة إلى العمل السرّي بسبب الرقابة الصارمة المفروضة عليها، وفي عام 1972 قرر الراشد مغادرة البلاد متوجهًا إلى الكويت، حيث عمل محررًا في مجلة “المجتمع” التي أصدرتها جمعية الإصلاح الاجتماعي، وكان من أبرز ما نشره فيها سلسلة مقالات بعنوان “إحياء فقه الدعوة”.
كتاباته الدعوية
على مدار حياته الطويلة، قدّم الراشد العديد من الكتب والرسائل التي تعكس أسلوبه الفني والأدبي. امتازت كتب الرشد بالصياغة الأدبية العميقة الممزوجة بالبُعد التاريخي والشرعية. يمكن ملاحظة البلاغة الأدبية والصياغة الفنية في جميع مؤلفاته، بدءًا من سلسلة “إحياء فقه الدعوة” وصولًا إلى سلسلة “استراتيجيات الحركة الحيوية”.
ومن خلال قراءة كتب الراشد، يتضح جليًا أنه لم يكن يريد تقديم نفسه كمجرد داعية، بل أديب يتقن البلاغة. وقد جاء هذا الأسلوب نتيجة قراءته الواسعة للأدب، حيث يقول الراشد عن نفسه: “عندما كنت في بداية شبابي، وقع في يدي كتاب “وحي القلم” للرافعي، فقرأته عدة مرات، بالإضافة إلى عشرات الدواوين والمجلات الأدبية، فضلًا عن كتب الفقهاء المتقدمين التي تتميز بقوة تعبيرها ورصانة جملها”. لذا، فإن كتبه تمثل مزيجًا فريدًا من الأدب والفقه، مع استشهادات بأقوال السلف والخلف، وإيحاءات ثقافية عامة تتجلى في جميع كتاباته.
أبرز مؤلفاته
في الدعوة
1- “المنطلق”.
2- “العوائق”.
3- “الرقائق”.
4- “صناعة الحياة”.
5- “المسار”.
6- “رسائل العين”.
7- “منهجية التربية الدعوية”.
في العلوم الشرعية
7- “دفاع عن أبي هريرة”.
8- “أقباس من مناقب أبي هريرة” (وهو مختصر الدفاع).
9- “تهذيب مدارج السالكين”.
10- “تهذيب العقيدة الطحاوية”.
11- “الفقه اللاهب”، وهو تهذيب لكتاب “الغياثي” للجويني.
12- “أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي” (4 أجزاء).
13-“صراطنا المستقيم”، وهي أول رسالة من سلسلة “مواعظ داعية”، وهي سلسلة جديدة تمزج الموعظة بفقه الدعوة، وستصل بإذن الله إلى 70 رسالة أو أكثر.
14- “آفاق الجمال”، وهي الرسالة الثانية من سلسلة “مواعظ داعية”.
15- “موسوعة معالم تطور الدعوة والجهاد”، في 5 أجزاء.
16- “ثلاثين رسالة أخرى من مواعظ داعية”.
17- “حركة الحياة”.
18- “إحياء الإحياء”، وهو تهذيب إحياء علوم الدين.
بعد العام 2003.. في العمل المقاوم والسياسة
عاد الراشد إلى العراق عام 2003 خلال فترة الاحتلال الأمريكي، وكان على وشك استلام الجنسية السويسرية، لكنه ترك إجراءاتها وعاد من أجل مشروع ضخم ثلاثي الأبعاد:
- مشروع المقاومة المسلحة ضد الاحتلال: ما لا يعرفه الكثيرون عن الراشد أنه كان ممّن دفعوا عجلة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، وكان يريد تأصيل منهجية عملية تربط ما بين التخطيط والدراسات، والعمل الميداني على الأرض.
فقام بالتعاون مع الفريق الركن يونس محمد الذرب، وهو قائد معركة الناصرية ضد الجيش الأمريكي عام 2003، بتأسيس مركز بغداد للدراسات العسكرية، والذي كان يضم خيرة ضباط الركن والصف، من أجل نقل خبرتهم إلى ساحات المواجهة بين المقاومة المسلحة والاحتلال، ثم تعرض المركز لهجوم أدّى إلى إغلاق مقرّه في بغداد، لكن المجهودات استمرت، وكان الراشد ينظّر للمقاومة المسلحة تحت أسماء وهمية، مثل كتاب “قمرنا العالي وشمسنا الساطعة”. - أنشأ الراشد مطبخًا سياسيًا أطّره بمركز المسار للدراسات، وكان يصدر مجلة شهرية هي “المنتقى”، تضم عقولًا سياسية عراقية، وكان المسار يتناول بالدراسة والتحليل والتوصيات آفاق العمل السياسي في العراق بعد الغزو الأمريكي.
- التأصيل الشرعي: كان الراشد هو المؤسس لهيئة علماء المسلمين في العراق، وقد جذبت العديد من المشايخ والعلماء ورواد الدعوة، على رأسهم الشيخ حارث الضاري رحمه الله.
لم تكن هذه المجهودات مجرد كتابات معزولة عن الواقع، بل كانت فكرة الراشد استثمار علاقاته وصلاته في تحويل هذه الأفكار إلى واقع على الأرض، وهذا بالطبع كان يعني التصادم مع مصالح الكثيرين في العملية السياسية، وهكذا قرر الراشد الخروج من العراق عام 2006 دون التوقف عن متابعة الشأن العراقي، وهو ما بدا جليًا في معارضته للاتفاقية الأمنية التي رأى فيها هدرًا بمجهودات المقاومة المسلحة العراقية على الأرض.
لم يتوقف الراشد عن التعامل مع قضايا الأمة حتى آخر أيام حياته، وكان مؤازرًا لعملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها كتائب القسام في السابع من أكتوبر، والتي يرى فيها أن حماس أكدت على موقعها كقدوة للحركات الجهادية العاملة.
يقول الراشد في أحد مقالاته: “اندفاعية حماس واعية ومدروسة، وامتلأت عقلانية وحسابًا رقميًا وجَبريًا، وتخطيطًا هندسيًا، وخوارط تقدم آمن، ولم تؤثر عنها مجازفة ولا نزوة، وقرارها جماعي بعيد عن استبداد الزعامات الفردية التي تلغي وجود الأقران ورفاق الدرب، كما كان قرار فتح، بل امتلأت مسيرة حماس موزونية وواقعية، فجاءت أقرب إلى السلامة، لولا أن الله تعالى كتب نوعًا من النقص على جُملة البشر، والكمال متعذر وغير وارد في خيالنا”.