أثار إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، اكتمال مشروع “سد النهضة”، على الرافد الرئيسي لنهر النيل، حالة من الغضب لدى الشارع المصري، وسط مخاوف من تداعيات هذا السد على نصيب مصر من المياه وتأثيره المتوقع على مستقبل الزراعة والأمن القومي المائي.
وجاء الإعلان صادمًا بعد التصريحات الوردية الصادرة عن السلطات المصرية على مدار عشر سنوات كاملة من المفاوضات، تعهدت خلالها بعدم المساس بنصيب المصريين من مياه النيل والتصدي لأي محاولة تهدد الأمن المائي المصري، منوهة أن كل الخيارات، بما فيها الصعبة، متاحة للحفاظ على مياه الشعب المصري.
وكان آبي أحمد قد أعلن، الإثنين 26 أغسطس/آب الجاري خلال مقابلة تلفزيونية له أن سد النهضة سيكون مكتملًا بشكل نهائي وبنسبة 100%، بحلول ديسمبر/كانون الأول المقبل، كما سيتم تشغيل 3 توربينات جديدة، بجانب 4 توربينات أخرى متواجدة بالفعل، واصفًا ذلك بالإنجاز التاريخي.
وكشف هذا الإعلان بشكل واضح ومباشر عن فشل إدارة النظام المصري لهذا الملف الحيوي الذي يهدد حياة الملايين من المصريين الذين يعتمدون في المقام الأول على النيل في توفير احتياجاتهم المائية المتزايدة عامًا تلو الآخر في ظل الزيادة السكانية السنوية الكبيرة، وذلك بعدما بات السد أمرًا واقعًا.
يتزامن هذا الفشل مع كارثة أخرى تدور رحاها على الحدود المصرية الفلسطينية على مرأى ومسمع من السلطات المصرية، حيث احتلال “إسرائيل” لمحور فيلادلفيا، والإصرار على إحداث تغييرات جذرية في جغرافيته والبقاء فيه عسكريًا، بما يهدد الأمن القومي المصري، رغم تعارض ذلك مع اتفاقية السلام الموقعة بين القاهرة وتل أبيب وملحقاتها الأمنية المكملة لها، وسط مخاوف من تكرار سيناريو إدارة سد النهضة مع المحور الحدودي، والاكتفاء بلغة التهديد والوعيد والتسويف، حتى يتحول الوضع إلى أمر واقع.
سد النهضة.. فشل الدبلوماسية الناعمة
منذ اتفاق كل من القاهرة وأديس أبابا في يونيو/حزيران 2014 على استئناف مفاوضات سد النهضة بعد نحو عام تقريبًا على توقفها، في أعقاب تسريب الاجتماع الشهير الذي عقده الرئيس الراحل محمد مرسي مع بعض الشخصيات العامة في ذات الشهر من 2013، لبحث سبل الضغط على إثيوبيا لإثنائها عن فكرة إكمال بناء السد، التزم المفاوض المصري بما يعرف بـ”الدبلوماسية الناعمة”.
وعلى مدار عشرة أعوام كاملة لم تتخذ القاهرة إجراءً واحدًا ضد أديس أبابا التي أصرت على استكمال بناء السد وإتمام عمليات الملء الأربعة، مكتفية بالشعارات والتصريحات الشعبوية الرنانة، الصادرة عن رأس هرم السلطة، والتي كان يتلقفها الإعلام بمانشيتات النصر والتفوق الساحق.
الكارثة والنقطة المفصلية في مسار تلك المفاوضات كانت بتوقيع السيسي ونظيره السوداني السابق عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا السابق هايلي ديسالين في العاصمة السودانية الخرطوم وثيقة “إعلان مبادئ سد النهضة” التي عُرفت إعلاميًا باسم “اتفاق المبادئ” في مارس/آذار 2015، وهي الوثيقة التي منحت أديس أبابا الضوء الأخضر لبناء السد، كونها اعترافًا رسميًا بموافقة القاهرة على هذا المشروع.
وفي أعقاب تلك الاتفاقية بدأ الإثيوبيون الترويج لمشروعهم والحصول على الدعم الدولي المطلوب لتمويل بنائه، والذي كان يشترط موافقة دولتي المصب: مصر والسودان، لمنح الحكومة الإثيوبية التمويل اللازم، أي أن تلك الوثيقة كانت “الهدية” التي قدمتها مصر لإثيوبيا لتمرير أكبر مشروع في تاريخها الحديث، وفي نفس الوقت المستند الرسمي الذي لا يمنح المصريين حق الاعتراض على هذا المشروع.
وما إن استفاق النظام على تلك الكارثة، حتى حاول تحسس خطواته وتحركاته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدما ورط الدولة والشعب ووضع أمنهم المائي على المحك، فبدأ في طرق باب المجتمع الدولي، تارة على أعتاب الولايات المتحدة، وأخرى لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكنها المحاولات التي كانت أقرب للاستجداء، لأن الموافقة المصرية في 2015 أنهت الأمر مبكرًا، وأوصدت الأبواب أمام أي محاولة لتدارك الأمر.
ومنذ 2015 وحتى اليوم، ويعزف المفاوض المصري على أوتار القانون الدولي واللوائح الخاصة باتفاقيات مياه النيل، لكنها الأوتار التي لم يصغ لها الإثيوبيون الذين لم يرفضوا الهدية الثمينة التي قدمها لهم النظام المصري بقيادة السيسي، وانخرطوا في سباق مع الزمن لإنهاء مشروعهم القومي الذي بات ينظر إليه آبي أحمد وحكومته على أنه مسألة حياة أو موت بالنسبة له في ظل صراع النفوذ مع المعارضة داخليًا.
وأمام هذا المشهد تبنى النظام المصري خطابًا شعبويًا هشًا، حاول من خلاله وعبر أذرعه الإعلامية التقليل من الكارثة التي ارتكبها بتوقيعه على اتفاقية المبادئ، ومنح أديس أبابا الوقت الكافي لإتمام المشروع، عبر استراتيجية التسويف والدبلوماسية الناعمة، حتى التهديدات التي باتت تصدر عنه بين الحين والآخر، تعاملت معها الحكومة الإثيوبية من باب الشو والاستعراض وامتصاص غضب الشارع المصري دون أي رد فعل يتناسب وحجم تلك التهديدات.
وبعد عشر سنوات كاملة من المفاوضات الجافة والعقيمة والتسويف الإثيوبي الممنهج، والوعود التي لا تتوقف بالحفاظ على حصة المياه التقليدية، وجد النظام المصري نفسه أمام أمر واقع، سد على مشارف إتمام بنائه، احتجاز كميات كبيرة من المياه أمام خزان السد، وهو ما دفعه للبحث عن البدائل، والتعامل مع الموقف على أنه أمر واقع لا محالة، فاضطر إلى إجبار المواطنين على التقشف وشرب مياه الصرف الصحي المعالجة، والاضطرار إلى تغيير الدورة الزراعية وتحميل الدولة فوق طاقتها كلفة اقتصادية باهظة للتعاطي مع تداعيات هذا المشروع، هذا بخلاف تعريض حياة الأجيال القادمة للخطر في ظل تزايد الاحتياجات وتناقص الموارد وافتقاد الرؤية لتحديات المرحلة المقبلة.
محور فيلادلفيا.. هل يتكرر ذات السيناريو؟
يتزامن الإعلان الإثيوبي بشأن اكتمال بناء سد النهضة والجزم رسميًا بفشل إدارة الجانب المصري لهذا الملف وتعريض حياة أكثر من 100 مليون مواطن لمخاطر الفقر المائي، مع تهديد آخر، لا يقل خطورة عما يمثله السد الإثيوبي، قادم هذه المرة من الحدود الفلسطينية، حيث إصرار دولة الاحتلال على التمركز في محور فيلادلفيا المشمول باتفاقية السلام مع “إسرائيل”، والإبقاء على قوات جيش المحتل بداخله على بعد أمتار قليلة من الأراضي المصرية.
ويعد هذا المحور الذي يمتد على الشريط الحدودي بين غزة ومصر بطول 14 كيلومترًا وبعرض 100 متر، منطقة عازلة خاضعة لاتفاقية السلام الموقعة بين مصر و”إسرائيل”، لا يجوز فيها إلا نشر قوات محدودة العدد والعتاد، الأمر الذي يجعل احتلال “إسرائيل” له خرقًا مباشرًا لتلك الاتفاقية وملاحقها الأمنية، فضلًا عما يمثله الانتشار العسكري الإسرائيلي به من تهديد مباشر وعلني للأمن القومي المصري.
البداية كانت مع إعلان جيش الاحتلال سيطرته العسكرية الكاملة على المحور في 29 مايو/أيار الماضي، وهي الخطوة التي استفزت الجانب المصري، والذي كان يتوقع معها اتخاذ إجراءات رادعة، على الأقل دبلوماسيًا، لإجبار نتنياهو وجيشه على التراجع عن تلك الخطوة، لكن الأمور لم تكن كما كان يظنها الشارع المصري.
وخرجت على لسان الجانب المصري، مسؤولين وإعلاميين، تحذيرات للجانب الإسرائيلي بنتائج هذه الخطوة، والمطالبة بالتراجع عنها فورًا، تجنبًا لأي تهديد محتمل في مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية، وتعريض اتفاق السلام بين البلدين لمخاطر وجودية، لكنها التحذيرات التي قوبلت بغرور إسرائيلي وعنجهية متطرفة، إذ أكد رئيس وزراء الاحتلال بنفسه خلال مقابلة أجراها مع القناة 14 العبرية، الإثنين 15 يوليو/تموز الحالي، أن “إسرائيل” ستبقى في المحور، ولن تنسحب منه.
حتى التقديرات الأمنية الإسرائيلية التي تحذر من تداعيات هذا التطور على مستقبل العلاقات مع مصر، لم يلق لها نتنياهو بالًا، إذ نقلت عنه وسائل إعلام عبرية خلال اليومين الماضيين قوله إنه لا يهمه موقف المؤسسة الأمنية والعسكرية بشأن محور فيلادلفيا، وأنه مصمم على السيطرة عليه بأي طريقة كانت.
وتلت تلك الخطوة العديد من الانتهاكات الإسرائيلية بحق السيادة المصرية، منها شن العملية البرية في رفح رغم تحذيرات القاهرة، والتحرش بالجنود المصريين على الحدود ما أسفر عن سقوط اثنين منهم، هذا بخلاف الاستفزاز الناجم عن تدمير بوابة المعبر ورفع العلم الإسرائيلي على ظهر المدرعات والدبابات المارة من على الشريط الحدودي مع مصر، والشروع فعليًا في إجراء بعض التغييرات في المحور وتعبيد طرقاته، ما يعني تأكيد نية الاحتلال البقاء فيه، ضاربًا بكل التهديدات المصرية عرض الحائط.
وأمام تلك الاستفزازت والانتهاكات لم تجرؤ السلطات الحاكمة في مصر على استخدام ورقة واحدة من أوراق الضغط التي بحوزتها، مكتفية بدبلوماسيتها الناعمة المعهودة، في ضوء مقاربات خاصة لدى النظام، يحقق من خلالها مصالح ومكاسب خاصة على حساب وزن مصر الإقليمي وثقلها السياسي والعسكري، بل وتعريض أمنها القومي وسيادتها الوطنية للخطر.
الغريب هنا أن الإعلام المصري وبعض المحسوبين على نخبته السياسية والعسكرية، حاولوا ابتلاع الانتهاكات الإسرائيلية بترديد بعض المزاعم للتقليل من عدم رد النظام المصري، على رأسها أن ما يحدث في غزة بصفة عامة يمس في المقام الأول الجانب الفلسطيني، ثم تطور الأمر بنفس السردية في تبرير ما يحدث في رفح، وصولًا إلى احتلال معبر فيلادلفيا، حيث خرج بعض الجنرالات ليؤكدوا أن ما حدث لا يمس اتفاقية السلام وأنه أمر فلسطيني في المقام الأول.
المثير للقلق هنا حجم التشابه الكبير بين تلك السرديات الانبطاحية، ومحاولات تمرير الفشل في إدارة ملف محور فيلادلفيا بمزاعم واهية، مع تلك التي تبناها النظام إزاء إدارته لملف سد النهضة، وسط مخاوف من تكرار ذات المصير.. فهل ينتظر المصريون حتى فرض الكيان المحتل الأمر الواقع على الشريط الحدودي كما فرضت أديس أبابا الوضعية ذاتها بشأن سد النهضة؟