قبل أيام، انشغل الرأي العام المصري بزيارة رجل دين هندي غامض ولقاءه الرئيس عبد الفتاح السيسي وتبرعه لصندق تحيا مصر بمبلغ 10 ملايين جنيه، الأمر الذي أثار الدهشة والانتباه، خاصة أن الرجل ليس زعيمًا دينيًا من هؤلاء المعروفين للعرب والمسلمين، كما أنه ليس إسلاميًا من الطوائف المرتبطة بعلاقات ودودة مع الأزهر ورجاله، فما الذي يدعوه لتكرار زيارة السيسي والتبرع لنفس الصندوق؟!
مفضل سيف الدين، هو سلطان طائفة البُهرة، بضم الباء وليس فتحها كما هو شائع، نسبة إلى تجاراتهم الشهيرة في البُهارات، ينتسبون إلى طائفة الإسماعيلية المنحدرة من نسل إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق، وتجمع المصادر أنهم توطنوا في مصر منذ عهد الدولة الفاطمية، وهي إحدى الفرق الشيعية التي حكمت البلاد نحو مئتي سنة.
وسيف الدين رجل دائم السفر، يتحرك وكأنه السلطان “مارنجوس الأول” في الفيلم الشهير صاحب الجلالة للفنان المصري فريد شوقي، لا يخطو في جولالته الخارجية للدول التي تمتد فيها أفرع لطائفته، إلا بصحبة شقيقه الأمير قصي ونجليه الأمير جعفر الصادق وطه سيف الدين، وكأنهم حاملو أسراره وأذرعه السياسية والدبلوماسية ورؤوس وفده غير العادي، الذي يعتمد عليهم في رسم علاقات تنظيمه الخارجية، والتنقيب بعناية عن كيفية ترسيخ العلاقات، وخصوصًا في البلدان التي تحمل تاريخًا دينيًا لطائفته، وتمتد فيها دور العبادة التي يترددون عليها، وفي القلب من هذه البلدان “مصر”.
لم تكن زيارته الحاليّة لمصر، الأولى من نوعها، بل سبق له زيارة البلاد في أغسطس 2014، كانت أولى مرات ظهوره بعد تولية السيسي حكم البلاد بثلاثة أشهر، وكان حريصًا على ربط زيارته بالمساهمة المالية لصندوق تحيا مصر الذي أنشئ لإدارة العديد من المشروعات الاقتصادية وقدم وقتها 10 ملايين جنيه، ثم كرر الزيارة بعد الأولى بعامين في يوليو 2016، وتبرع أيضًا بنفس المبلغ لنفس الصندوق، ليقرر قبل أيام تكرار زيارة مصر، والتبرع أيضًا بنفس المبلغ ليصبح إجمالي تبرعات الرجل 30 مليون جنيه.
ارتبط الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، بعلاقة صداقة قوية مع زعيمهم الروحي محمد برهان الدين، فكانت هذه طريقة عبد الناصر مع الرؤساء وكل من له صفة رسمية أو دينية تحمل نفس الطابع الرسمي، الصداقة أولاً ثم المصالح ثانيًا
المتتبع لتاريخ البُهرة، سيجد أن لقاء سلطانها بالسيسي، تقليد حرصت عليه الطائفة في ترسيخ علاقاتها مع القيادة المصرية منذ ستينيات القرن الماضي، بغض النظر عن هوية من يجلس على سدة الحكم فيها، وإن كان قريبًا من توجهاتهم الدينية أم لا، فالبُهرة هجروا السياسة منذ انهيار الدولة الفاطمية، وتفرغوا للعبادة والتجارة.
ارتبط الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، بعلاقة صداقة قوية مع زعيمهم الروحي محمد برهان الدين، فكانت هذه طريقة عبد الناصر مع الرؤساء، وكل من له صفة رسمية أو دينية تحمل نفس الطابع الرسمي، الصداقة أولاً ثم المصالح ثانيًا، وهي الخلطة التي وطدت علاقة ناصر برموز القوى السياسية والدينية في العالم العربي والإسلامي، وجعلته مصدر إلهام لقيادة شبكة علاقات قوية مع مصر، استمرت حتى بعد وفاته.
الرئيس جمال عبدالناصر مع رئيس الروحي للبُهرة محمد برهان الدين
بعض المصادر تؤكد أن عبد الناصر كان يصادق جميع الزعماء الدينيين السلميين ـ من غير المنخرطين في السياسة ـ حتى يثبت أن عداءه مع جماعة الإخوان المسلمين سياسي وليس دينيًا، فكانت صوره تنشر بكثافة حال لقائه أي زعيم ديني، لذا حرص منذ بداية لقائه ببرهان الدين، على تقديم كل سبل الرعاية لطائفة البُهرة سواء في مصر أم الوافدين إليها للعمل أو العبادة.
مع تطور الأحداث واشتعال الصراع أكثر وأكثر مع الإخوان، نهاية بتدبير محاولة اغتيال فاشلة لعبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية، لجأ النظام الناصري إلى البطش بجميع الحركات الدينية، فسلب الحرية من الجميع حتى ممن ناصروه وعلى رأسهم البُهرة، ومنع التيارات الإسلامية بمختلف توجهاتها من التجمهر أو التجمع في أي مكان، وإثر ذلك لجأت الطائفة السلمية إلى الابتعاد تمامًا عن الصورة، واختفت حتى عن زيارة المساجد التاريخية، وكما ظهرت في الحياة العامة سريعًا، انتهت بشكل أسرع.
كان الظهور الأكثر فاعلية لها، في قيادتها عملية ترميم مساجد القاهرة الكبرى، وتولي محمد برهان الدين، الزعيم التاريخي للطائفة تنفيذ خطة ترميم الجامع الأنور أحد أعظم وأفخم المساجد الفاطمية في القاهرة
بعد وفاة ناصر واتت الفرصة من جديد إلى البُهرة، كان الرئيس الأسبق أنور السادات لديه مسحة دينية ظاهرة، تعلى جبهته “زبيبة الصلاة” تشير للعوام إلى ورع الرجل واتجاهه الديني الواضح، هو الآخر استغل ذلك جيدًا وأصبح يطلق على نفسه “الرئيس المؤمن”، فعادت الطائفة إلى الشوارع وكثفت من وجودها بتصريح رسمي من أجهزة الدولة العليا، واستفادت من دعم السادات لها حينما كان نائبًا لعبد الناصر، بل بعض المصادر التاريخية تؤكد أن السادات كان حلقة الوصل بين ناصر والبهرة.
الرئيس المصري أنور السادات
كان الظهور الأكثر فاعلية لها، في قيادتها عملية ترميم مساجد القاهرة الكبرى، وتولي محمد برهان الدين الزعيم التاريخي للطائفة تنفيذ خطة ترميم الجامع الأنور أحد أعظم وأفخم المساجد الفاطمية في القاهرة، وإثر ذلك حرص السادات على تكريمه بأعلى وسام مصري “وشاح النيل”، في أول عام له بحكم مصر 1971، وظلت الطائفة متوهجة في العمل الديني والإسلامي، وحريصه في الوقت نفسه على الاقتراب من السطة وأجهزتها الرسمية.
في عام 1981، كانت الطائفة على موعد مع مطاردات جديدة، قُتل السادات في عرض عسكري خلال ذكرى حرب أكتوبر التي نال بسببها لقب بطل الحرب والسلام وجائزة نوبل، فضُيق على سائر الجماعات الإسلامية، وزج بالإخوان في السجون، ومعهم رموز الحركات الإسلامية وغيرها، وكالعادة لجأت البُهرة إلى الابتعاد تمامًا عن الصورة، انتظارًا لما سيحدث.
طوال ما يقرب من 25 عامًا اختفت الطائفة تمامًا لتعود بعد حالة الانفتاح الشكلي في السياسة والحريات عام 2005
كان محمد حسني مبارك الرئيس الأسبق الذي تخلى عن منصبه جبرًا، إثر ضغوط شعبية هائلة ولدت من رحم ثورة 25 يناير، مختلفًا عن سلفيه ناصر والسادات، لم يكن يحب الرجل العلاقات المباشرة مع تلك الطوائف، وخصوصًا التي تختلف في العقيدة مع الأزهر، كان مسالمًا أو بيروقراطيًا إن شئنا الدقة إلى درجة معقدة، وهو ما أدركته الطائفة جيدًا، فابتعدت عن الظهور بنفس الكثافة التي كانت عليها أيام ناصر والسادات.
اكتفى البُهرة بتنظيم بعض الزيارات الفردية إلى الأماكن الدينية، كانت كوابيس غضب الدولة تحاصرهم خصوصًا في ظل ابتعاد الرئيس عن الصورة وترك الأمن يتصرف في هذه الملفات كما يحلو له، طوال ما يقرب من 25 عامًا اختفت الطائفة تمامًا لتعود بعد حالة الانفتاح الشكلي في السياسة والحريات عام 2005، واستشعرت الطائفة بخبرتها أن الوقت حان لاسترداد نفوذها في مصر.
دبر محمد برهان الدين سلطان الطائفة زيارة إلى مصر، تواصل مع الأجهزة السيادية التي يتملك سجلاً طيبًا معها، وطلب منهم احتضان الطائفة من جديد، ووجد مستشارو مبارك الفرصة سانحة لإظهار الوجه الروحي للرئيس الأسبق، وخصوصا قبل نحو 3 أعوام من انقضاء فترة الرئاسية الثانية، التي كانت ستنتهي عام 2010.
عمل البُهرة بنهم للحفاظ على ما تبقى من آثار الدولة الفاطمية بعمقها التاريخي والسياسي والديني
سُمح لبرهان الدين بزيارة مساجد آل البيت وغيرها، وبعدها دُبر له لقاء مع مبارك في مدينة شرم الشيخ، وخرج الطرفان بالنتيجة التي توفر لهما ما يريدان، برهان حصل على توكيل برعاية الأضرحة ومساجد آل البيت، وإعادة السياحة الدينية التي ترعاها طائفة البُهرة، وحصل مقابل ذلك على وشاح النيل للمرة الثانية، بينما أعاد مبارك تسويق نفسه باعتباره راعيًا للدين وحاميًا له مرة أخرى.
ظهر البُهرة بقوة في تلك الفترة، عرفتهم جميع الشوارع والحارات المصرية وخاصة العتيقة منها والفاطمية على وجه الخصوص، لم يتركوا مسجدًا ينتمي لمصر الفاطمية إلا وكان على أجندتهم لتجديده وصيانته وفق أحدث الطرق العلمية في ترميم المباني الأثرية، عمل البُهرة بنهم للحفاظ على ما تبقى من آثار الدولة الفاطمية بعمقها التاريخي والسياسي والديني، فيما منحتهم السلطات المصرية صلاحيات كبيرة في قيادة عملية ترميم الآثار الإسلامية، بداية من الجامع الأقمر والجيوشي ومسجد اللؤلؤة، نهاية بضريح السيدة زينب ومقصورة السيدة رقية.
البُهرة عن قرب
يقول البُهرة دائمًا إنهم أحفاد الفاطميين، تفرقت بهم السبل بعد سقوط الدولة الفاطمية في مصر، بعضهم ذهب إلى اليمن، وآخرون استقروا بالعراق وشبه الجزيرة العربية، التجارة عندهم الخط المفضل للحفاظ على درجة النعيم والثراء ذاته الذي كانوا عليه من قدم السنين، ورغم انتسابتهم للدولة الفاطمية المصرية، ذاع صيتهم ولم يكونوا دعوتهم في شكلها الحاليّ إلا من الهند التي وصلوا إليها عن طريق تجارتهم، عبر خط سير قديم كان يربط اليمن بالهند، وتدريجيًا ومع السجل غير العنيف للحركة، أصبحت من أكبر الطوائف الإسلامية في الهند.
يمثل البُهرة الصورة المضيئة والمعتدلة للمذهب الإسماعيلي، مع أن طقوسهم وثيقة الصلة بطقوس الشيعة الإثني عشرية، فقط تبقى بعض الاختلافات في قضية الإمامة التي لا يعترفون منها إلا بـ6 أئمة من الإثنى عشر، بينما يشتركون مع السنة في توقير زعيمهم حد التقديس، ويسمى في ثقافتهم “البرهان” ويتعصبون بشدة لمذهبهم سواء روحيًا أم شكليًا، لدرجة أن زيهم لم يتغير منذ بداية تدشين الطائفة رجالًا ونساءً، لذا يمكن تفريق البُهري أو البُهرية بمنتهى الدقة عن جماعة التبليغ والدعوة وهي أقرب الطوائف الإسلامية إليهم من حيث المظهر الخارجي.
البهرة مثل الشيعة، وربما أكثر خصوصية، فهم لا يدخلون دورعبادة السنة ولا يدخلون مساجد الشيعة أيضًا، وبيت الله في ثقافتهم يسمى بالجامع خانة، ودونه لا تصح الصلاة ولا يجب أن تؤدى بالأساس.