نعي جميعنا أنّ الموت هو جزء من حياتنا ووجودنا، لكنّ هذه المعرفة لا تخفّف علينا وطأتها أو تجعل فكرته مقبولة، لا سيما في حال خاض المرء تجربة موت وفقدان أحد أقربائه أو أصدقائه. وعلى الرغم من حتميته إلا أنّه من المستحيل أنْ نكون على جاهزية للتعامل معه بما يحويه من مشاعر الفقد والغياب والحزن والاكتئاب وغيرها من الاضطرابات النفسية.
وعلى اختلاف نظريات علم النفس التي وُضعت لتفسير السلوك الذي قد يسلكه من يتعرّض لهذه التجربة المؤلمة، إلا أنّ ثمة إجماع كبير على أنْ كلّ تجربة لها سماتها المنفردة التي تختلف بها عن الأخرى. فهناك من يتأرجح ما بين الحزن العاديّ والحزن الشديد. وهناك من قد يصل به الأمر لإنكار التجربة والغضب من الشخص الميّت والسخط عليه لغيابه. وهناك من يتعرّض لاضطراب ما بعد الصدمة المرتبط باليأس وفقدان أي اتصال مع الحياة وما فيها من أشياء وأشخاص، الشعور الأشبه ما يكون وكأن الشخص قد فقد جزءًا من ذاته لا يستطيع إرجاعه ولا الرجوع إلى لحظات قبل فقدانه.
سينميائيًا؛ ثمّة العديد من الأعمال الكبرى التي ركّزت على الطريقة التي يمكن للموت والفقدان أن يؤثرا على نفسيّاتنا وصحتنا العقلية من جهة، وعلى الآثار التي تتركها تلك التجربة على نظراتنا للحياة والوجود وما يتعلّق بها من أسئلة وجودية عن المعنى والشكّ واليقين والإيمان واستمرارية الحياة وغيرها من جهة أخرى.
“مانشستر على البحر”: الحزن الذي يسحق القلب ويأكل الذات
معظم أفلام هوليوود التي تتحدث عن الحزن الناتج بعد الفقد أو الموت، واضطراب ما بعد الصدمة، تحاول السير في خطٍ مشترك في الحياة ينتهي غالبًا بالخروج من حالتي الحزن والصدمة، سواء بمساعدة حبيبٍ أو صديق أو بلقاء غريب ينتشله من حالته تلك، أو بالتعثّر برسالة من رسائل الحياة العشوائية التي تصوّر لنا أنها قادرة على التغيّر في أيّ لحظة. لكنّ المخرج الأمريكي “كينيث لونيرغان” بصنعه لفيلم “مانشستر على البحر“، قرّر أنْ يحكي حكاية أولئك الأشخاص الذين يحدث وأنْ يبقوا عالقين في متاهة صدماتهم وداخل شِراك أحزانهم وكآباتهم بعد تجربة الموت والفقدان في حياتهم.
“لا يوجد شيء في الداخل” هكذا يقول “لي تشاندلر”، الشخصية المحورية في الفيلم الذي أُنتج عام 2016، مشيرًا إلى قلبه بعد التقائه بزوجته السابقة صدفةً في الشارع بعد أعوام من الفجيعة التي هدت كيانه وحطّمت حياته وجلعت تفاصيل الماضي تطارده بكلّ لحظة بحيث لا يمكنه تجاوزها ولا الرجوع إليها. فقد كان أطفاله الثلاثة ميّتون بالفعل لحظة عودته لمنزله الذي أكلتها النيران مع آخر قطعة خشب فيها، بعد أنْ نسيَ غطاء المدفأة مرفوعًا قبل خروجه مخمورًا لشراء بعض الحاجيات.
الفيلم يحكي حكاية أولئك الأشخاص الذين يحدث وأنْ يبقوا عالقين في متاهة صدماتهم وداخل شِراك أحزانهم وكآباتهم بعد تجربة الموت والفقدان في حياتهم.
هو فيلم عن الألم والفقد والذنب إذن. عن تلك الفجيعة التي من هولها لا نقوى حتى على ذكرها أو الحديث عنها فنحاول بكلّ ما أوتينا من قوّتنا المتبقية الهرب من كلّ شيء والتقوقع حول النفس بصمتٍ مفجعٍ وألمٍ يملأ النفس والكيان حتى يغدو ألمًا متجسدًا في صورة بشر يتضاعف مع كلّ لحظةٍ تمرّ من حياتنا.
لي، الذي يلعب دوره بحساسية وإنسانية فائقة الممثل “كايسي أفليك”، حاول الانغلاق على ذاته بابتعاده عن عالمه الخارجيّ ومن حوله، لدرجة أنه بات يبدو أنه رجلٌ خاوٍ بلا قلبٍ أو أية مشاعر، فنراه يختلق الأسباب للشجار مع بعض الرجال في الخانة، أو الصراخ على من يعمل لديهم، دون أنْ ندري لاحقًا أنّ هذه ما هي إلا محاولات يائسة للتنفيس عن غضبٍ وألمٍ مكبوتين عميقًا جدًا في الداخل.
“كايسي أفليك” في دور “لي تشاندلر” بطل “مانشستر على البحر”
لم يحاول “لي” البحث عن طريقة للعيش بعد الصدمة التي عاشها؛ بل كان كل ما يفعله هو محاولة إيجاد المغزى من “الاستمرار بالعيش” مع فكرة تحمّله لمسؤولية موت أبنائه، وكأنه يحاول إيجاد ذلك المغزى عن طريق عقاب نفسه بلومها وتحميلها ذنب تلك المسؤولية، فاختار الاعتزال وتحقير الذات ومحاولة اختلاق الشجارات، إضافةً إلى الشرب الكثيف حتى فقدان الاتصال مع العالم الخارجيّ.
الفيلم مزيج دراميّ من الألم الذي زادت حدّته لحظات الصمت الطويلة والموسيقى التصويرية الأسطورية المستخدمة تعبيرًا عن البكائية والنواح، ومحاولة تشتيت العقل عن التفكير في المأساة والفجيعة. وتمامًا كما يبدأ الفيلم ونحن لا نفهم صمت “لي” وغضبه وغرابة أطواره، فإنه ينتهي ونحن كلّ ما نودّه هو أن نرتّب على ذلك الكتف الذي هدّه الألم وسحقه الشعور الذنب، تمامًا كما نودّ لو كان بإمكاننا أنْ نحمل عنه قدرًا ولو يسيرًا من حزنه الذي أغرقه طويلًا فبات جزءًا لا يتجزأ من شخصه وذاته.
“انهيار الدائرة المكسورة“: الشكّ واليقين ما بعد الموت والفقدان
قد لا نكون نبالغ حين قولنا أنّ هذا الفيلم يعدّ من أكثر الأفلام المليئة بجرعات الألم غير المحتَمل أبدًا، حتى أنك قد لا تستطيع أبدًا منع دموعك أبدًا. فما بين طيّات الحكاية العادية لأيّ شابيْن في مقتبل عمريهما يلتقيان بفعل صدف الحياة الكثيرة، يكمن ذلك المصير الذي يربط البشرية جميعها ببعضها البعض، المصير الأشبه بدائرة مُحكمة الإغلاق تبدأ بالخَلق والنشوء وتسير نحو الارتقاء ومن ثمّ الفناء والموت، وما بين هذه المراحل جميعها فثمّة الكثير من التساؤلات التي سنبقى دومًا نبحث عنها، عن الحبّ والأمل والموت والخسارة والله والحكمة الإلهية والذّنب والإيمان والأحلام والمعنى وغيرها الكثير.
دورة الحياة المليئة والصاخبة تلك نشاهدها على الشاشة لما يُقارب الساعتين من خلال بطليْ الفيلم البلجيكيّين “ألاباما” و”ديديه” اللذين يبدآن حياتهما كالكثيرين غيرهما من خلال نفس الدائرة التي تبدأ بالحبّ والزواج والإنجاب، إلى أنْ تبدأ حدودها بالانكسار والانهيار بمرض فتاتهما الصغيرة بالسرطان ومن ثمّ موتها.
يتأرجح الفيلم بلا هوادة بحيويةٍ وفرحٍ، فحياة البطلين كانت قائمة على الأغاني والطرب والأصدقاء والسهرات قبل أنْ يغرق إلى أعماق الحزن مع مرض الفتاة وفترات علاجها الكيميائي، ثمّ موتها الذي بدأ معه أقوى أسئلة الفيلم الوجودية والتأرجح الأليم ما بين الشكّ واليقين بين البطلين.
فموت الفتاة يُفضي إلى العديد من الانهيارات في داخل الأم من جهة، وفي علاقة الاثنين ببعضهما البعض من جهةٍ أخرى. إذ تبدأ “ألاباما” بلوم نفسها على الموت، ثمّ لاحقًا لوم زوجها لأنه لم يستقبل خبر حملها بجنينٍ منه بالفرح والبهجة في بادئ الأمر في إشارةٍ واضحة إلى وصولها لقمة يأسها من حياتها ومما حولها.
لفيلم هو رحلة للبحث عن الذات والمعنى في الوجود المحكوم بالموت والفناء، وما يتخلّل تلك الرحلة من تساؤلات وتجارب تتعلق بالشكّ واليقين والإيمان باستمرارية الحياة ومغزاها
فعلى طول لحظات الفيلم، يحاول أبطاله خلق يقينهم الخاص كي يثبتوا ذاتهم ويجدوا المعنى من حياتهم. فتستمدّ “ألاباما” يقينها من نجاحها في التجارب الإنسانية التي تخوضها، وبمجرد فشلها في إحداها تسعى لنسيانها من خلال اللجوء لوشمٍ في جسدها فوق وشمٍ قديم كانت قد وضعته في بداية التجربة، وهكذا تنظر للوشم وآلامه كوسيلة للتطهير من الخطايا وإيجاد الذات كي تستمرّ الحياة. وما إنْ امتلأ جسدها بالسواد نتيجة الوشوم، تماشيًا مع موت ابنتها، حتى آثرت الانتحار. على عكس زوجها الذي يرى أنّ ذروة التجربة الإنسانية كامنة في الاستمرار وبتراكم التجارب بغض النظر عن نهايتها ومآلاتها.
“فيرل بايتينز” ممثلة ومغنية بلجيكية أدت دور البطولة في “انهيار الدائرة المكسورة”
موت الطفلة عند ألاباما هو فشل تجربة زواجها وعلاقتها التي كانت تنظر إليها على أنها أوج تجاربها وأعظمها، ومع تجربة الموت تلك تصدّع يقينها وإيمانها باستمرار الحياة وجدواها ومغزاها. أما اليقين لدى ديدييه فيتمثل بالتمسك بالحياة والبحث عن المعنى عن طريق التجارب وإشباع الذات بالعديد من المغامرات بغض النظر عن مدى نجاحها وفشلها. الفيلم بالنهاية هو رحلة للبحث عن الذات والمعنى في الوجود المحكوم بالموت والفناء، وما يتخلّل تلك الرحلة من تساؤلات وتجارب تتعلق بالشكّ واليقين والإيمان.