في 31 تموز/يوليو 2016، صرح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في لقائه على قناة أ خبر، بأن المستقبل سيشهد اتباع مؤسستي الاستخبارات القومية والأركان العسكرية لرئيس الجمهورية.
ربما كان تصريح الرئيس أردوغان آنذاك نوعاً من ضرب الخيال، فالاستفتاء على الدستور لم يكن مطروحاً في حينها، ولم يكن هناك تلك الدعاية حول صورته كقائد عام قوي يحمي حمى تركيا أمام التهديدات الخارجية، كما كان المواطن التركي لا زال يعتقد أن للجيش، على الرغم من إقدام مجموعة منه على تنفيذ انقلاب فاشل، استقلاليته التي لا يمكن المساس بها.
لكن بظهوره القوي خلال عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، وبتمريره الاستفتاء الشعبي، ومن ثم نجاحه في تحويل شكل نظام الحكم في تركيا من برلمانيٍ إلى رئاسي، وبغيرها من التحركات، التي ساهمت في إكساب إرادته وقدرته السياسية زخماً، تمكن الرئيس أردوغان من تحقيق ما كان يصرح به مسبقاً.
أظهرت الهيكلية الجديدة لمؤسسة الرئاسة تغيّراتٍ كبيرةً في آلية اتخاذ القرار التركي
وربما يتساءل المتابع العربي عن أسباب هذه الخطوة، وماهية تداعياتها المُمكنة. ولعله من المفيد قبل كل شئ الإطلاع على هيكلية مؤسسة الرئاسة التركية.
هيكلية مؤسسة الرئاسة:
أظهرت الهيكلية الجديدة لمؤسسة الرئاسة تغيّراتٍ كبيرةً في آلية اتخاذ القرار التركي، حيث باتت الوزارات مجرد مؤسسات تنفيذية، بعدما كان لها رصيد نسبي من رسم السياسات، وأضحت مؤسسة الرئاسة مطبخ صناعة واتخاذ القرار.
وقد رُسمت الهيكلية الجديدة لمؤسسة الرئاسة على النحو التالي:
ـ الرئيس:
يُمثل السلطة التنفيذية الأعلى في البلاد. يحق له صناعة سياسات البلاد على جميع الأصعد، واتخاذ القرارات التنفيذية بتفويض دستوري يظهر جلّياً في المادة 104 و105 و106 من الدستور، والتي كانت ضمن المواد المعروضة للاستفتاء في 16 نيسان/أبريل. وطبقاً لهذه المواد لا يحق للبرلمان مساءلة الرئيس ومتابعة أعماله إلا في حالة تصديق الاتفاقيات الدولية والتصديق على الميزانية.
بينما المكاتب تضطلع بمهمة المراقبة والإشراف، ترسم لجان المؤسسة الرئاسية السياسات التخصصية التي تعرض على الرئيس عدة خيارات
ـ نائب الرئيس: يُعد مستشار الرئيس الأول. كما ينوب عنه في الاجتماعات والمناسبات الرسمية.
ـ السكرتير الأول: يُنظم مواعيد وأعمال الرئيس.
ـ المكاتب: هي المؤسسات الرقابية في مؤسسات الرئاسة، حيث تُعد المهمة الأساسية لها هي متابعة أعمال اللجان والوزارات، والحرص على حيويتها وتفاعلها مع متطلبات اللحظة.
وتحوي مؤسسة الرئاسة 5 مكاتب هي:
1ـ مكتب التنسيق والمسؤولية: يُعد المسؤول الأول أمام الرئيس. تقوم مهمته الأساسية على التنسيق بين خطط وأهداف الرئيس وعمل المكاتب ومؤسسات الدولة الأخرى.
2ـ مكتب التمويل: يُناط بهم مهمة متابعة قطاع التمويل والتعامل المصرفي على الصعيدين المحلي والدولي، وتحليل تطوراته، وإعدادها في تقارير. كما يقوم بمهمة إعداد السياسات والخطط التي تجذب السيولة الدولية لتركيا.
3ـ مكتب الاستثمار: انطلاقاً من اسمه، هو مكتب يعمل على رفع مستوى الخطط المعروضة من أجل صياغة مشاريع استثمارية مُثمرة في تركيا. وفي إطار ذلك، يتبوء مهمة تنسيق الخطط الاستثمارية المطروحة من قبل القطاعين الخاص والعام، والعمل على تطبيقهما بعيداً عن التضارب. ويُنتظر إدارة العمل مع المؤسسات الاستثمارية الدولية.
4ـ مكتب التحوّل الإلكتروني: يعمل على تطوير المشاريع الخاصة بالتنمية التكنولوجية، ومشاريع الذكاء الاصطناعي، والأخرى المتعلقة بالأمن السيبراني.
5ـ مكتب الموارد البشرية: يضطلع بتنفيذ مهمة تطوير الموارد البشرية التركية بما يتناسب مع متطلبات العصر، بالإضافة على التركيز على اكتشاف المواهب واستغلالها في سبيل خدمة الرؤية التركية للتنمية، واستقطاب الموارد البشرية ذات المواصفات العالية، مع مراقبته لمدى تنفيذ مؤسسات الدولة آلية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
اللجان:
بينما المكاتب تضطلع بمهمة المراقبة والإشراف، ترسم لجان المؤسسة الرئاسية السياسات التخصصية التي تعرض على الرئيس عدة خيارات. وعقب موافقة الرئيس على الخيار الأنسب، تعرض اللجان سياساتها على الوزارات من أجل التنفيذ. وهذا يدل على أنها أعلى مرتبة من الوزارات التي باتت تنفيذية، ويمكن لها تقديم الاستشارات غير النهائية.
هذا وقد جاءت لجان المؤسسة الرئاسية على النحو التالي:
ـ لجنة سياسات العلوم والتكنولوجيا والتجديد.
ـ لجنة سياسات التعليم.
ـ لجنة سياسات الاقتصاد.
ـ لجنة سياسات الأمن والسياسة الخارجية.
ـ لجنة سياسات الحقوق.
ـ لجنة سياسات الثقافة والفن.
ـ لجنة سياسات الصحة والتغذية.
ـ لجنة السياسات الاجتماعية.
ـ لجنة سياسات الإدارة المحلية.
ـ الرئاسيات:
هي مؤسسات يقع تصنيفها ما بين اللجان والوزارات، فإلى جانب طرحها سياسات مُقترحة، تُعد مؤسسات تنفيذية لسياسات مؤسسات الرئاسة. وفي المرسوم الرئاسي الأول، تم ربط عدد واسع من الرئاسيات لمؤسسة الرئاسة، بل للرئيس بشكل مباشر ومستقل عن الوزارات والمكاتب واللجان. وهذه الرئاسيات هي:
ـ رئاسة الأرشيف العمومي.
ـ رئاسة مراقبة الدولة.
ـ رئاسة الشؤون الإعلامية.
ـ رئاسة الشؤون الدينية.
ـ رئاسة الاستخبارات القومية.
ـ رئاسة إدارة قصور الدولة.
ـ رئاسة الصناعات الدفاعية.
ـ رئاسة الميزانية والاستراتيجية.
ـ صندوق أوقاف تركيا.
ـ رئاسة الأركان
الوزارات:
هي الأجهزة التنفيذية في البلاد. وقد تم تقليص عددها من 26 إلى 16.
ـ وزارة الداخلية.
ـ وزارة الخارجية.
ـ وزارة الزراعة والغابات.
ـ وزارة العدل.
ـ وزارة الخزينة والمالية.
ـ وزارة العمل والخدمات الاجتماعية والعائلة.
ـ وزارة التمدن والبيئة.
ـ وزارة الطاقة والمصادر الطبيعية.
ـ وزارة الدفاع.
ـ الرياضة والشباب.
ـ الثقافة والسياحة.
ـ وزارة التعليم.
ـ وزارة الصحة.
ـ وزارة الصناعة والتكنولوجيا
ـ وزارة التجارة.
ـ وزارة المواصلات والبنية التحتية.
وبتتبع الهيكلية أعلاه، يُلاحظ أن اتباع رئاستي الاستخبارات بمؤسسة الرئاسة، والأركان بوزارة الدفاع، ومن ثم مؤسسة الرئاسة، هو بيت القصيد في الهيكلية.
في ضوء عملية المواءمة، عمدت مؤسسة الرئاسة إلى ربط عدد كبير من مؤسسات الدولة بها، وكان من ضمنها ربط جهاز الاستخبارات فعلياً في 25 آب/أغسطس 2017
الاستخبارات:
يُعد جهاز الاستخبارات الوطني أهم جهاز أمني بالنسبة لأي دولة قومية حول العالم. فهو مصدر المعلومات التي ترى به الدولة النور أمام الكم الهائل من التهديدات والمخاطر التي تُحيط بها. فتزويد الاستخبارات صُناع القرار بالمعلومات السرية، يرفع من قدراتهم على اتخاذ القرار الصحيح، واتخاذ الإجراءات الوقائية الاستباقية التي تخفف العواقب الوخيمة قدر الإمكان.
لقد أفضى استفتاء 16 نيسان/أبريل على بعض المواد الدستورية، إلى ظهور ما بات يُعرف باسم “عملية المواءمة” التي تعني ربط عدد من مؤسسات الدولة بالمؤسسة الرئاسية، في سبيل الوصول إلى نظام حكم رئاسي في تركيا، يكون بديلاً للنظام البرلماني الذي اتسمت فيه المؤسسات ، عادةً، بالعمل المستقل القائم على التنسيق البيوقراطي الذي يتسبب في بطئ عملية اتخاذ القرار.
وفي ضوء عملية المواءمة، عمدت مؤسسة الرئاسة إلى ربط عدد كبير من مؤسسات الدولة بها، وكان من ضمنها ربط جهاز الاستخبارات فعلياً في 25 آب/أغسطس 2017، ورسمياً من خلال المرسوم الرئاسي الأول.
في مقالٍ سابقٍ لي، أشرت إلى أن دلالات ربط جهاز الاستخبارات بمؤسسة الرئاسة تقوم على النحو التالي:
ـ توسيع صلاحيات الرئيس على نحوٍ يمكّنه من رفع مستوى رقابته وحكمه في البلاد، بحيث بات بإمكانه توجيه جهاز الاستخبارات بشكلٍ مباشر نحو إجراء تحقيقات سرية أو علنية داخل الوزارات والجيش ومؤسسات الدولة الأخرى دون الرجوع إلى البرلمان. وبهذه المعادلة، تميل كفة الميزان القوى داخل تركيا من الجيش إلى الاستخبارات، بحيث سيصبح بإمكان جهاز الاستخبارات اتخاذ الإجراء الوقائي الاستباقي الذي يرغب فيه ضد الجيش، في أي وقت، ومن دون إذن مسبق من النيابة. الأمر الذي يزيد من قبضة مؤسسة الرئاسة “المدنية” على الجيش الذي سيتحول، بفعل هذه التحركات، إلى مؤسسة تحكمها الشفافية، بعدما كان عبارة عن “صندوق مغلق” وجهاز مستقل بقراراتها وتحركاتها عن أجهزة الدولة المدنية. ويحمل عنصر تجاوز الإجراءات القضائية والنيابية أهمية عالية في قدرة الاستخبارات على تجاوز الإجراءات البيوقراطية التي كانت تعيق اكتشاف حالات التمرد داخل الجيش قبل وقوعها.
تكمن أهمية اتباع رئاسة الأركان بالمؤسسة الرئاسية في بروز ارتباط عضوي فعال وحيوي بين مؤسسات الدولة
ـ تحصين الإرادة السياسية لمؤسسة الرئاسة على الصعيدين الداخلي والخارجي بمصدرٍ حيويٍ للمعلومات. وهذا ما يعني تسريع عملية اتخاذ القرار بناءً على معلومات استخباراتية تجعل القرار المُتخذ أقرب ما يكون للصواب على الصعيدين الداخلي والخارجي، لا سيما في ظل الدور الحيوي الذي يقوم به جهاز الاستخبارات التركي في محاربة عناصر وهياكل جماعة غولن التي تتهمها تركيا “بالإرهاب” داخل أجهزة الدولة، وفي الدول الأخرى.
ـ عكس صورة عزم مؤسسة الرئاسة نحو إجراءات عدد من التغييرات التكتيكية التي تخذ تركيا نحو تطبيق نظام رئاسي قوي على صعيد استراتيجي.
وفي ربط الاستخبارات بمؤسسة الرئاسة مباشرة، وربط الأركان بوزارة الدفاع التابعة بدورها لمؤسسة الرئاسة، دلالة كبيرة تعكس، على الأرجح، عزم مؤسسة الرئاسة في إعلاء شأن الاستخبارات المراقب لجميع مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، على حساب الأركان، في سبيل إعلاء شأن الحكم المدني في البلاد.
رئاسة الأركان:
من بين الرئاسيات التابعة لمؤسسة الرئاسة، رئاسة الأركان هي الرئاسة الوحيدة التي تم ربطها بوزارة مدنية. وعلى الأرجح، يأتي ذلك في إطار مسعى الرئيس الدولي لحصر استقلالها وتحركاتها تحت حكم سياسي مدني.
وتكمن أهمية اتباع رئاسة الأركان بالمؤسسة الرئاسية في بروز ارتباط عضوي فعال وحيوي بين مؤسسات الدولة، يكفل اتخاذ قرار سريع ومتفاعل مع تغيّرات الواقع. وقد أدى العمل العضوي المتناسق بين رئاستي الأركان والاستخبارات إلى تحقيق عملية “غصن الزيتون” نجاحاً ملموساً خلال فترة زمنية قصيرة، بحسب ما أشارت إليه صحيفة “ستار” الموالية للحكومة، في تقريرها “عمل مشترك بين الاستخبارات ورئاسة الأركان في عملية غصن الزيتون”.ويُشار أيضاً إلى النجاح الذي يحققه العمل المشترك في عملية “قنديل” الجارية شمالي العراق في الوقت الحالي.
الرئيس المدني هو من بات يتخذ القرار العسكري، ووزير الخزينة المالية بات يُدير الميزانية العسكرية بشكلٍ مباشر، ووزير التربية التعليم سيقوم بتأسيس معايير عملية ونوعية للالتحاق بالجيش
أيضاً، في اتباع رئاسة الأركان بمؤسسة الرئاسة، إلى جانب إعادة هيكلة المجلس العسكري الأعلى، المُناط به قرارات التعيينات العسكرية، ومجلس الأمن القومي الذي يُعد أعلى هيئة أمنية في البلاد، بما يتضمن تواجد وزرين مدنيين، وبما يُبقيها تحت سيطرة الرئيس، دلالة على أن الوصاية العسكرية أصبحت من الماضي، وأضحى هناك حكم مدني شبه كامل.
فالرئيس المدني هو من بات يتخذ القرار العسكري، ووزير الخزينة المالية بات يُدير الميزانية العسكرية بشكلٍ مباشر، ووزير التربية التعليم سيقوم بتأسيس معايير عملية ونوعية للالتحاق بالجيش، وسيعمل على تغيير منهج التعليم الذي غرس في عقل ابن المؤسسة العسكرية التركية أنه هو “حامي المبادئ التأسيسية للوطن القائمة على العلمانية الأتاتوركية ضد الأعداء الخارجيين والخصوم الداخليين الذين يتبوؤن مناصب عليا في البلاد، ويسعون للخروج عن أطر المبادئ التأسيسية”. هذه القاعدة وغيرها مُستقاة من المنهج التعليمي للجيش الذي يشكل “خطاب أتاتورك للشباب” أهم قاعدة فيه. ولتغييره أهمية عالية في مواجه تحدي انقلاب جديد.
في النهاية، منذ تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم عام 2002، وهو يسعى لرفع شأن الحكم المدني أمام الحكم العسكري. وبعد دسترة الحكم المدني الذي بات متفوقاً على الحكم العسكري، نتيجة استفتاء 16 نيسان/أبريل 2017، صار من الطبيعي أن نرى تغييرات تكتيكية دورية تحصن الحكم المدني على الحكم العسكري