خلال بداية حكمها، عرفت دولة الموحدين انتشارًا كبيرًا، إذ وحدت لأول مرة في تاريخ الإسلام شمال إفريقيا (باستثناء مصر) والأندلس تحت راية واحدة، وكانت لها قوة عظمى يُحسب لها ألف حساب، فهابها النصارى والفرنجة والطامعون في حكم البلاد.
تواصل هذا النفوذ عقودًا طويلة إلى أن عرفت الدولة تراجعًا كبيرًا في منتصف عهدها، حين خسرت معارك مهمة أمام النصارى وفقدت الحصون والقلاع وتطاول عليها بعض الخارجين عنها في بلاد المغرب، وسط انشغال العائلة الحاكمة بالصراع على كرسي العرش.
سُنّت في تلك الفترة سنن خبيثة، إذ أصبح خلع الخليفة دون موجب أمرًا مُباحًا، بل وصل الأمر إلى قتل الخلفاء أيضًا كما هو الحال في بلاد المشرق، ليس هذا فحسب فأحد الخلفاء استنجد بالإسبان في حربه ضد منافسيه على الحكم مقابل التنازل لهم عن بعض الحصون في الأندلس وتمكينهم من امتيازات أخرى في المغرب.
استنجد الخليفة التاسع للموحدين بالنصارى للاستقواء على بني جلدته، فتقلد كرسي العرش بمراكش إلا أنه خسر العديد من المدن في الأندلس وفقد مدنًا وإمارات مهمة في بلاد المغرب، وبلغ تفكك الدولة في عهده مستويات كبيرة، وهو ما سنتطرق إليه في هذا التقرير الجديد ضمن ملف “نهضة الموحدين”.
إدريس المأمون
خلال فترة حكم الخليفة أبو محمد عبد الله العادل (621 – 624 هجريًا)، شهدت الدولة اضطرابًا كبيرًا، ولما رأى والي إشبيلية أبو العلاء إدريس بن يعقوب المنصور هذا الأمر، دعا لنفسه وأجابه أكثر أهل الأندلس وتلقّب بالمأمون، ودعا أهل المغرب لمبايعته ووعدهم بالامتيازات الكثيرة.
صراع على السلطة
استجاب الموحدون في مراكش لدعوة المأمون فبايعوه بعد أن قتلوا أخاه الخليفة العادل يوم 21 من شهر شوال سنة 624 هجريًا (لم تُثبت كتب التاريخ أن المأمون طلب من الموحدين قتل الخليفة العادل)، وبعثوا له البيعة عبر البريد، إلا أنهم سرعان ما نكثوا بيعتهم وبايعوا يحيى بن النَّاصِر بن الْمَنْصُور – وهو شاب صغير حتى يُحسنوا السيطرة عليه – فاضطربت الْأَحْوَال بالمغرب والأندلس وطما عباب الفتن.
بلغ المأمون ما حصل في المغرب فرفض بيعة ابن أخيه الذي تلقّب بالمعتصم بالله، وقرر التوجه إلى عاصمة الحكم مراكش لانتزاع الملك من ابن أخيه، إلا أن الفتن الدائرة في بلاد الأندلس وثورة البياسي قد أخّرت ذهابه إلى المغرب.
في الأثناء امْتنع عرب الْخَلْط وقبائل هسكورة عن بيعة يحيى ودارت بينهم وبين جيشه معارك كبرى وكان النصر حليفهم، كما ثار ضده محمد بن أبي الطواجين الكتامي بجبال غمارة، فيما استحوذ بنو مرين على ضواحي مراكش وضايقوا الموحدين في كثير من أمصاره واقتضوا جبايته.
لم يستقر الحال للخليفة يحيى، ففر سنة 626 هجريًا إلى مدينة تيمنلل (المدينة التي أسسها محمد بن تومرت وكانت بداية انطلاق دعوة الموحدين)، فأعاد أشياخ الموحدين البيعة لإدريس المأمون وكتبوا إليه يخبروه بفرار يحيى ويرغبون إليه في القدوم عليهم، ثم عاد يحيى مجددًا إلى مراكش وقتل عامل المأمون فيها، قبل أن يخرج منها مجددًا ويعسكر في جبل جليز في انتظار قدوم المأمون.
الاستنجاد بالنصارى
حتى يضمن السيطرة على كرسي الحكم، استنجد المأمون بملك قشتالة فرناندو الثالث وطلب منه تمكينه من جيش من الإفرنجة ينتقل معه إلى المغرب لمعاضدته في خططه، مقابل أن يمنحه 10 حصون مما يلي إشبيلية وأن يبني لجنده الإسبان كنيسة في مراكش إذا دخلها وأن من أسلم من جنده لا يُقبل إسلامه، وإن تنصر أحد من المسلمين فليس لأحد عليه سبيل.
عبر المأمون وجنود بمعية أكثر من 12 جنديًا نصرانيًا الجزيرة الخضراء إلى سبتة في شهر ذي القعدة سنة 626 هجريًا (يقول ابن عذارى إن عدد الجنود النصارى كان لا يتجاوز 500 فارس، فيما يكتفى ابن الخطيب بأن يصف هذه القوة بأنها “جمع من فرسان الروم “)، وبذلك يكون أول من أَدخل جند الفرنج أرض المغرب واستخدمهم بها، ما كان وقعه كبيرًا على مستقبل الدولة.
التقى جيش المأمون بجيش يحيى قرب مراكش، فكان الانتصار حليف المأمون ومن معه من النصارى، فدخل العاصمة وجلس على كرسي العرش وأخذ البيعة العامة والخاصة من جديد، فكان بذلك الخليفة التاسع لدولة الموحدين.
أول عمل قام به المأمون في مراكش هو قتل أشياخ الموحدين الذين نكثوا بيعته وخلعوا الخليفة الذي قبله وقتلوا أخاه، وقيل إن عددهم بلغ بعض المئات، فتضاءلت بذلك مشيخة الموحدين، وضعف نفوذها القوي بعد أن كانوا مسيطرين على الحكم.
وما إن جلس المأمون على الحكم حتى مكّن ملك قشتالة ما تم الاتفاق عليه ومنحه القلاع التي طلب في الأندلس، كما أذن للنصارى القادمين معه ببناء كنيسة وسط مراكش وضربوا بها نواقيسهم وكانت الكنيسة في الموضع المعروف بالسجينة.
يُذكر أن خلفاء الموحدين قاوموا انتشار المسيحية منذ بداية دعوتهم لصالح انتشار الإسلام في المغرب والأندلس والتمكين لدين الله، فخفت صوتهم وقل انتشارهم، إلا أن الخليفة إدريس المأمون أعاد فتح الباب إليهم مجددًا.
تبرأ من عقيدة ابن تومرت
قبل توليه خلافة الموحدين، عُرف عن إدريس المأمون حفظه للقرآن الكريم وتمكنه من علوم الدين، وكان يعني عناية خاصة بتدريس كتاب البخاري، وكتاب الموطأ، وسنن أبي داود، كما كان كاتبًا بليغًا واسع المعرفة بالأدب وهو ما يفسر قراراته بشأن عقيدة الأب الروحي للموحدين محمد ابن تومرت.
صعد الخليفة الموحدي التاسع إدريس المأمون المنبر بجامع المنصور، فخطب في الناس ولعن ابن تومرت الملقب بالمهدي المنتظر وقال: “لَا تَدعُوهُ بالمهدي المعصوم وادعوه بالغوي المذموم أَلا لَا مهْدي إِلَّا عِيسَى وَإِنَّا قد نَبَذْنَا أمره النحس..”، وفق ما جاء في كتاب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للمؤرخ أحمد بن خالد الناصري.
كتب إدريس المأمون إلى جميع عمالته بمحو اسم ابن تومرت من السكة والخطبة وتغيير سننه التي ابتدعها للموحدين وجرى عليها، ومنها النداء للصلاة باللغة الأمازيغية وزيادته في أذان الصبح، كما أمر بتدوير النقود التي ضربها ابن تومرت مربعة.
وقال في كتابه: “قد أزلنا لفظ العصمة عمن لا تثبت له عصمة، فلذلك أزلنا عنه رسمه، فيمحى ويسقط ولا يثبت.. وإذا كانت العصمة لا تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظنُّ بمن لم يدِر بأي يدٍ يأخذ كتابَه. أُفٍّ لهم قد ضَلوا وأَضَلُّوا، ولذلك َولُّوا وذُلُّوا، ما تكون لهم الحجة على تلك المَحَجَّة؟”.
ونوه إدريس المأمون بأن الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور كان قد عزم على التبرؤ من عقيدة المهدي بن تومرت لولا وافته المنية، ويُذكر أن أبي يوسف كان شديد الحذر من أشياخ الموحدين القائلين بعصمة ابن تومرت وإنما أبقاهم في مجلس حتى يحافظ على تماسك الدولة الفتية حينها.
انفصال إفريقيا عن الدولة الموحدية
حاول إدريس المأمون المسك بزمام الأمور وإعادة ترتيب البيت الداخلي للموحدين، إلا أن العقد قد انفرط والدولة بدأت بالتفكك وخسارة روحها الفتية وعزيمتها الماضية، نتيجة ما شهدته في السنوات الأخيرة من صراع على السلطة وهزائم كبرى أمام الطامعين.
اغتنم أبو زكرياء يحيى الحفصي بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي فحص اللحياني الهنتاتي، تراجع أمر الخلافة الموحدية وضعفها، واختلال سلطتها، فأعلن الاستقلال، وتأسيس الدولة الحفصية فلم يلق أي معارضة من أحد، وانقادت إليه البلاد طائعة، وكان ذلك سنة 634 هجريًا الموافق 1228 ميلاديًا، وتسمى أولًا بالأمير وجعل ذلك اللقب في صدر كتبه.
امتدت منطقة نفوذ الدولة الحفصية على شاكلة حدود إفريقية (تونس)، وانقسمت إلى عدة مناطق على رأس كل منها والٍ، أو عامل يعتمدون على مشايخ البلدان، ورؤساء القبائل، ويقوم الأمراء بتعيين الولاة والعمال من بين أقاربهم.
ينتسب الحفصيون إلى الشيخ أبي حفص يحيى بن عمرو الذي ينتمي إلى قبيلة هنتانة، وهي من أعظم قبائل مصمودة التي عاشت بالمغرب الأقصى، وكان للشيخ أبي حفص وأولاده مكانة رفيعة في دولة الموحدين وتقلدوا مناصب مهمة فيها، وعُهد إليهم ولاية إفريقية بعد أن أعادوا إليها الأمن والسلام وقضوا على فتن بني غانية.
تجاوز حكم الحفصيين منطقة إفريقية فقط، وسيطروا أيضًا على قسطنطينة وبجاية بالجزائر، فتقلص بذلك ملك الموحدين في الشرق، ومع ذلك لم يحركوا ساكنًا، فهم مشغولون بما يحصل في قصر الملك بمراكش وبالفتن التي تضرب الأندلس.
ثورة ابن هود بالأندلس
وصلت رياح الفتن والفوضى سريعًا من بلاد المغرب إلى الأندلس، ما ساهم في إرباك حكم الموحدين هناك، خاصة أن أغلب جندهم عبر مضيق طارق إلى جانب الخليفة إدريس المأمون للمشاركة في حربه ضد الخليفة السابق المعتصم بالله.
في الأثناء، ظهر سنة 624 هجريًا الموافق 1227 ميلاديًا أمير من سلالة بني هود يدعى “محمد بن يوسف بن هود” في شرق الأندلس قريبًا من مدينة مرسية، وهو من أحفاد بني هود الذين حكموا سرقسطة إبان حكم ملوك الطوائف سابقًا.
ثار ابن هود ضد الموحدين في الأندلس، واستغل تحالف المأمون مع النصارى لتأليب الناس ضدّهم، فجمع من حوله نفرًا كثيرًا، وقام أولًا بالاستيلاء على مرسية بعد أن هزم جيشها، ودعا للخليفة العباسي المنصور المستنصر بالله على منابر المساجد.
دخلت مدن كثيرة في طاعة ابن هود الذي تلقّب بالمتوكل، كقرطبة (وسط الأندلس) وبطليوس (غرب الأندلس)، واستولى على غرناطة (جنوب الأندلس) بعد 4 سنوات من بداية ثورته، فانحسر ملك الموحدين في الأندلس شيئًا فشيئًا، إلى أن خسروا حاضرة ملكهم إشبيلية والجزيرة الخضراء.
ثغر سبتة
وسط هذه الأجواء المفعمة بالسواد، ثار على الخليفة إدريس المأمون أخوه أبو موسى عمران بن يعقوب أمير سبتة، ودعا لنفسه بالخلافة وتسمى بالمؤيد بالله، وكان ذلك سنة 629 هجريًا، فجمع من حوله عددًا من مشايخ الموحدين الذين عاداهم المأمون.
تزامن ذلك مع مجاهرة قبائل فازاز ومكلاته بالعصيان وفك بيعتها للخليفة إدريس المأمون، فعاثت في منطقة مكناسة فسادًا ونشرت الفوضى دخلها، وحاصرت مكناسة ذاتها للسيطرة عليها، فحشد الخليفة جيشه، وخرج يريد تأديب القبائل الثائرة أولًا، ثم السير إلى سبتة ثانيًا.
استغل الخليفة السابق، ابن أخيه يحيى المعتصم، غياب المأمون عن عاصمة الحكم بمراكش فدخلها ومعه جموع من العرب والأمازيغ للاستيلاء عليها والجلوس على كرسي الحكم مجددًا، فاضطر المأمون للرجوع مسرعًا إلى مراكش، على اعتبار أنها أهم من سبتة، إلا أن المنية وافته قبل الوصول إليها في 9 جمادي سنة 630 هجريًا، وبويع من بعده ابنه عبد الواحد الرشيد.
أراد الخليفة إدريس المأمون القيام بإصلاحات كثيرة لإعادة مجد الدولة الموحدية، إلا أن الفتن الداخلية وتربص الطامعين بالحكم حالوا دون ذلك، فتوفي بعد 5 سنوات من توليه حكم الموحدين قضاها في محاربة أخوته وأبنائهم للسيطرة على السلطة.