بضغوط أممية وأمريكية، يبدو أن حكومة الحرب الإسرائيلية خضعت أخيرًا وتستعد للسماح للغزيين بتلقي تطعيمات ضد شلل الأطفال في أماكن مخصصة لهذا الغرض، من غير أن تسمح بهدنة فعلية، كهدنة الأيام الستة أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن قد تكون فرصة يلتقط فيها أهالي القطاع أنفاسهم بعد 11 شهرًا من حرب الإبادة الإسرائيلية.
وما يجري الحديث بشأنه ليس هدنة مؤقتة، كما زعمت بعض وسائل الإعلام العبرية، بل مجرّد “تخصيص أماكن معينة داخل القطاع من أجل إتاحة الفرصة للتطعيم ضد شلل الأطفال”، كما جاء في بيان لمكتب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو.
وتسببت الحرب البيئية – إلى جانب العسكرية – التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد سكان غزة، في تلوث مياه القطاع، ما خلق أمراضًا صدرية وجلدية أصابت الكبار والصغار، من بينها شلل الأطفال، إذ أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، تسجيل إصابة بفيروس شلل الأطفال هي الأولى في القطاع الذي تطهر من الفيروس منذ 25 عامًا، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف).
في المقابل، أعلن جيش الاحتلال أنه سيبدأ بتقديم لقاح شلل الأطفال لجنوده في قطاع غزة، يأتي هذا القرار بعد العثور على آثار للفيروس المعدي في عينات اختبار بالقطاع، وسيجري تطعيم الجنود في أثناء الدوريات الروتينية، ما يدلل على خطورة الفيروس وخشية “إسرائيل” من وصوله إلى جنودها.
الضغط الأمريكي والأممي والمخاوف الإسرائيلية
منتصف الشهر الجاري طلبت الأمم المتحدة هدنة في غزة مدتها 7 أيام لتطعيم أكثر من 640 ألف طفل ضد فيروس شلل الأطفال، الذي اكتُشف في مياه الصرف الصحي في القطاع.
وأفادت منظمة الصحة العالمية بأن وكالات الأمم المتحدة تريد تقديم لقاح شلل الأطفال الفموي (النوع 2) للأطفال تحت سن العاشرة في وقت لاحق من هذا الشهر.
في السياق ذاته أيضًا حذرت منظمتا الصحة العالمية واليونيسف في وقت سابق من أن خطر انتشار شلل الأطفال في غزة لا يزال مرتفعًا ما لم تكن هناك استجابة عاجلة، وأكدتا الحاجة إلى إجراء جولتين على الأقل من لقاح شلل الأطفال الفموي لوقف انتقال العدوى.
يأتي ذلك بعد الكشف – الشهر الماضي – عن فيروس شلل الأطفال من النوع 2 المشتق من اللقاح في عينات الصرف الصحي بخان يونس ودير البلح.
ووفق “القناة 13” العبرية، فقد وافقت “إسرائيل” على هدنة إنسانية بضغط أمريكي في قطاع غزة، بغرض السماح بإعطاء تطعيم ضد شلل الأطفال في القطاع، مشيرة إلى أن تل أبيب وافقت على طلب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بتنفيذ هدنة في غزة، لم تحدد مدتها أو تاريخ بدءها، ليست كجزء من المفاوضات لإطلاق سراح المختطفين، بل لغرض تطعيم السكان ضد شلل الأطفال.
لكن مكتب نتنياهو نفى الموافقة على هدنة، مشيرًا إلى أن الخطة هي فقط تخصيص أماكن يسمح بها تقديم اللقاح من شلل الأطفال.
وخلال الأيام الأخيرة الماضية، حذر مسؤولون في المنظومة الطبية الإسرائيلية من إمكانية إصابة جنود إسرائيليين في غزة بشلل الأطفال ومن ثم تفشيه بـ”إسرائيل”، بعد الإعلان عن حالة إصابة بالفيروس في القطاع.
جهوزية وزارة الصحة للتعامل مع “شلل الأطفال”
يعد شلل الأطفال مرضًا شديد العدوى يسببه فيروس يهاجم الجهاز العصبي، يدخل جسم الإنسان (الطفل أو البالغ) عن طريق الفم أحيانًا، ويتكاثر في الأمعاء.
ويتسبب المرض في الإصابة بالشلل، وقد يؤدي أحيانًا إلى الوفاة بسبب إصابة العضلات المسؤولة عن التنفس بالشلل، وقد قتل هذا الفيروس الكثيرين ممن أصيبوا به قبل ظهور اللقاح الخاص به.
ووفق وزارة الصحة بغزة فإنه تم اكتشاف فيروس شلل الأطفال من خلال إجراء فحوص لعينات من الصرف الصحي بالتنسيق مع اليونيسف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة)، وأظهرت النتائج وجود الفيروس المسبب لشلل الأطفال.
وأرجعت الوزارة عودة المرض إلى الزحام الشديد مع شح المياه المتوفرة وتلوثها بمياه الصرف الصحي، وتراكم أطنان القمامة، ومنع الاحتلال لإدخال مواد النظافة، بما يشكله ذلك من بيئة مناسبة لانتشار الأوبئة المختلفة.
وقالت إن رصد الفيروس المسبب لشلل الأطفال “ينذر بكارثة صحية حقيقية، ويعرض آلاف السكان لخطر الإصابة بشلل الأطفال”، داعية إلى “وقف العدوان الإسرائيلي فورًا، وتوفير المياه الصالحة للاستخدام، وإصلاح خطوط الصرف الصحي، وإنهاء تكدس السكان في أماكن النزوح”.
وأكدت وزارة الصحة وصول مليون و200 ألف جرعة من لقاح شلل الأطفال، إلى مستودعات اليونيسيف في قطاع غزة، وجرى حفظها ضمن سلسلة التبريد اللازمة.
وذكر الدكتور ماهر شامية الوكيل المساعد لوزارة الصحة أنهم في انتظار دخول لقاحات شلل الأطفال لشمال قطاع غزة، لا سيما أنهم أتموا الاستعدادات لتلقيح الأطفال بمجرد وصولها.
وتنقل “نون بوست” عن شامية أن وزارته في شمال قطاع غزة حيث يتواجد، على جهوزية عالية للتعامل مع لقاحات فيروس شلل الأطفال، ولديها ثلاجات موصولة بإمداد كهربائي متواصل عبر الطاقة الشمسية لحفظها، مشيرًا إلى أن الفرق جاهزة وفق المخطط المرسوم مع جنوب القطاع.
ولفت إلى أنه جرى تدريب الطواقم الطبية منذ 10 أيام للتعامل مع اللقاحات وتطعيم الأطفال، لكن المعيق الأساسي في التنفيذ هو الوضع الأمني وصعوبة تحرك الطواقم الطبية بين شمال وجنوب القطاع.
ووفق مخطط وزارة الصحة كما يقول شامية، فإن حملة التطعيم ستكون مدتها 3 أيام وستشمل الأطفال حتى سن العاشرة.
لماذا الإعلان عن هدنة من أجل فيروس شلل الأطفال؟
بعد أيام قليلة ستدخل الحرب على غزة شهرها الحادي عشر، حيث المزيد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين العزل في بيوتهم وخيامهم، عدا عن عمليات النزوح اليومية والانتهاكات التي توصف بـ”اللانسانية”، ومع ذلك لم تستجب “إسرائيل” لأي ضغوط من أجل وقف إطلاق النار، ما يثير التساؤل: لماذا استجابت لتخصيص أماكن للهدنة من أجل التطعيمات لفيروس شلل الأطفال؟
تقول المحللة والكاتبة السياسية ريهام عودة: “جاء الإعلان عن هدنة من أجل شلل الأطفال بسبب تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، ووجود أمل ضعيف للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار طويل الأمد، أدى ذلك إلي انتقادات كبيرة من مؤسسات دولية تعمل في مجال حقوق الانسان وعلى رأسها الامم المتحدة ضد إسرائيل”.
وأوضحت عودة خلال حديثها لـ”نون بوست” أن المؤسسات الدولية تلوم الإدارة الأمريكية على عدم تأثيرها على “إسرائيل” لصالح هدن إنسانية للمدنيين، لذا وجدت الإدارة الأمريكية أنه حان الوقت لعمل هدنة مؤقته لصالح المدنيين من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة الأطفال، الذين انتشر بينهم شلل الأطفال بسبب عدم إدخال التطعيمات اللازمة للأطفال إلى غزة وعدم قدرة الطواقم الصحية على القيام بمهامها في ظل القصف الإسرائيلي المستمر.
وأشارت إلى أن الإدارة الأمريكية شعرت بالحرج من الانتقادات الدولية بشأن عدم الضغط على “إسرائيل” للموافقة على هدنة مؤقتة مخصصة لإنقاذ أطفال غزة، وقضاء الوقت في مفاوضات فاشلة لم ينتج عنها أي قرار لصالح المدنيين في غزة.
وعن سؤال “هل الهدنة من أجل التطعيم ضد شلل الأطفال تأتي في سياق حماية الجيش الإسرائيلي من الإصابة؟” تجيب عودة وفق متابعتها: “الجيش الإسرائيلي يخضع لرقابة صحية مشددة من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ولكن تمت الموافقة على ذلك حتى تتجنب إسرائيل حملة دولية ضدها قد يتم تنظميها من مؤسسات صحية عالمية تتهمها بمساهمتها في انتشار أوبئة وأمراض خطيرة مما يحرجها أمام الرأي العام العالمي”.
وتابعت: “تجنبًا لإحراج إسرائيل فقط، وقف النار في الأماكن التي سيتم تخصيصها لتطعيم الأطفال، ما يدلل على نيتها استكمال عملية القصف الجوي والمدفعي بعد انتهاء فترة التطعيم”.
بعد مرور أسابيع قليلة من الحرب ظهرت أمراض جلدية وتنفسية وفيروسية على النازحين خاصة، لكن لم تحرك “إسرائيل” ساكنًا، ما يدفع للتساؤل “لماذا هدنة من أجل شلل الأطفال؟” وهنا تعقب المحللة السياسية عودة بالقول: “الأمر متعلق بالأطفال ويدخل ضمن إتفاقية حقوق الطفل الصادرة من الأمم المتحدة، وكون إسرائيل عضوًا في الأمم المتحدة، لا تستطيع أن تبرر لنفسها قانونيًا منعها لتطعيم أطفال غزة من فيروس شلل الأطفال، وإلا سيتم اتهامها بقتل أطفال غزة عمدًا ومساهمتها بنشر أوبئة خطيرة قد تنتشر خارج قطاع غزة مما يهدد الصحة العامة على المستوى الإقليمي و ليس على مستوى غزة”.
ومنذ الإعلان عن هدنة من أجل تطعيمات شلل الأطفال تفاءل الغزيون كثيرًا من أجل حدوث هدن أخرى تؤدي لوقف إطلاق النار، وهنا تشير عودة إلى أنه نظرًا لإصرار نتنياهو على عدم وقف الحرب قد تلجأ “إسرائيل” إلى الهدن لتتخلص من الضغط العالمي عليها، الذي يطالبها بإيقاف النار دون تقديم تنازلات لحماس بشأن محور فيلادلفيا وحاجز نتساريم.
وعن موقف حماس، قال عزت الرشق عضو المكتب السياسي إن حديث المجرم نتنياهو عن تخصيص أماكن ومربعات معينة داخل قطاع غزة من أجل إتاحة الفرصة للتطعيم ضد شلل الأطفال، ليس موافقة على هدنة إنسانية طالبت بها الأمم المتحدة ومنظمات دولية، وإنما هو تلاعب جديد ومراوغة مكشوفة لمواصلة حرب الإبادة الجماعية.
وذكر الرشق في بيان نشر على موقع حركة حماس، أن هذه الطريقة المشبوهة التي يحاول نتنياهو وحكومته فرضها، من شأنها إفشال خطوة الأمم المتحدة، وحرمان مئات آلاف الأطفال من التطعيم ضد شلل الأطفال.
وشدد على أن المطلوب من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الضغط بكل الوسائل على نتنياهو لقبول هدنة إنسانية شاملة في قطاع غزة، للتمكن من إعطاء التطعيم لكل أطفال القطاع، وفق دعوة الأمم المتحدة، وليس انتقاء أماكن معينة تختارها حكومة الاحتلال.
ومن المتوقع أنه في حال نجحت عملية تطعيم شلل الاطفال في غزة، سيكون هناك محاولات أخرى من الأمم المتحدة لإدخال أدوية وعلاجات للأمراض الجلدية، خاصة بعد انتشار مرض جدري القرود في بعض دول العالم، حيث البيئة الملوثة في غزة بسبب تدمير شبكات الصرف الصحي في غزة نتيجة القصف الاسرائيلي قد تكون بيئة خصبة لانتشار هذا المرض.
وقد تصدر غزة أيضًا أوبئة وأمراضًا أخرى لـ”إسرائيل”، ما يهدد الصحة العامة للإسرائيليين، لذا قد تضطر للموافقة على هدن إنسانية قصيرة أخرى لإتاحة المجال لعمال الإغاثة في مجال الصحة لزيارة المرضى وتطعيم السكان دون أن تتعرض حياتهم لخطر القصف.