يُعتبر حس الفكاهة والقدرة على التنكيت سمةً ذات قيمة اجتماعية عالية، وممّا لا شكّ فيه أنّنا جميعًا ننظر دومًا لمن يمتلكون هذه السمة بغبطةٍ وحسد، فنتمنّى امتلاكها وتطويرها، ونعتقد أنّها جزء من الذكاء الاجتماعي والعاطفي ودليلٌ على النظرة الخفيفة للأمور. كما ننظر إلى ذلك الشخص الذي يفتقر هذا الحسّ على أنه شخص غير اجتماعيّ أو صعب المراس ويفتقر للمهارات الاجتماعية التي يحتاجها لتسهيل حياته اليومية.
وعلى هذا، قد نميل غالبًا إلى اعتبار الأشخاص الذين يمتلكون حسًّا عاليًا من الفكاهة والدعابة أشخاصًا محظوظين، فنحن نرى قدرتهم الكوميدية كملَكة فطرية وهبة يولدون بها. لكنْ في الحقيقة لو نظرنا بعمق إلى الموضوع، لوجدنا أنّ الفكاهة هي مهارة قبل كلّ شيء، يمكن تعلّم اكتسابها وتطوير وجودها وتحسين العلاقة بها.
ولو جئنا لتعريف “الفكاهة” لوجدنا أنّ البعض ينظر إليها على أنها القدرة على رؤية النكتة والخفّة في الحياة اليومية بغض النظر عن ثقل المواقف التي نمرّ بها، أو القدرة والسرعة على استخدام التورية والتلاعب بالألفاظ والمجازات للتعامل مع تلك المواقف. أما الفيلسوف الفرنسي “هنري برجسون” فقد عرّف النكتة والفكاهة قائلًا أنها “قهر القهر”، رابطًا إياها بالواقع الإنسانيّ المُعاش.
يرى علم النفس التطوريّ أنّ حس الفكاهة كان مهارة فعّالة في إدارة التحالفات والصداقات بين المجموعات المختلفة، تمامًا كما كان يساعد على التعامل بقدرة عالية مع النزاعات والخلافات
يعتقد علماء النفس التطوريّون أنّ النكتة والفكاهة مثلهما مثل القدرات الإبداعية الأخرى التي طوّرها البشر على مدى التاريخ، كالفن والموسيقى والأدب والشعر وغيرها من تلك القدرات التي تطورت كإشارة صريحة للذكاء والجودة الوراثية وأصبحت لاحقًا جزءًا من الطبيعة البشرية من خلال الانتقاء الجنسي؛ حيث نجح الأفراد في استغلال حسّهم الفكاهي كوسيلة للتنافس على جذب الشريك من جهة، والمحافظة عليه بعد تلاشي الافتتانات الرومانسية الأولية من جهةٍ أخرى.
اجتماعيًا، فيرى علم النفس التطوريّ أيضًا أنّ حس الفكاهة كان مهارة فعّالة للغاية في إدارة التحالفات والصداقات بين المجموعات المختلفة، تمامًا كما كان يساعد على التعامل بقدرة عالية مع النزاعات والخلافات والعلاقات المتوترة التي كانت تنشأ بين تلك المجموعات، أي أنها كانت وسيلةً للمحافظة على البقاء والاستمرار مثلها مثل غيرها الكثير من المهارات الاجتماعية التي طوّرها البشر لهذا الغرض.
أمّا علم النفس الإيجابي فيُشير إلى أنه يمكن استخدام الفكاهة لجعل الآخرين يشعرون بالرضا، أو لاكتساب الحميمية بين الأفراد أو للمساعدة على تخفيف الضغط والتوتر، جنبًا إلى جنب مع إظهار الامتنان والأمل والروحانية. وتمتدّ نظرتهم هذه إلى أنّ حسّ الفكاهة يُعطي معنىً أعمق للحياة نظرًا لأنه يرتبط مع العديد من القيم الأخرى مثل الحكمة وحبّ التعلّم من جهة، ولأنه يؤدي إلى زيادة الشعور بالرفاهية العاطفية والنفسية والتفاؤل من جهةٍ أخرى.
يرى علم النفس الإيجابي أن حسّ الفكاهة يُعطي معنىً أعمق للحياة نظرًا لأنه يرتبط مع العديد من القيم الأخرى مثل الحكمة وحبّ التعلّم من جهة
وعلى الرغم من الأهمية التي تحتلّها الفكاهة والضحة في المجتمعات المختلفة في يومنا الحالي، إلا أنّه من الغريب بمكان أنّ الموضوعات المتعلقة بهما لم تأخذ مساحتها الكافية في أدبيات الفلسفة وعلم النفس وعلوم الأعصاب والدماغ إلا مع بدايات القرن التاسع عشر والذي يليها، لا سيّما مع أطروحات عالم الاجتماع والفيلسوف البريطاني “هربرت سبنسر”، ومن ثمّ “سيجموند فرويد”، اللذين رأيا كلاهما أنّ الضحك هو وسيلة لتفريغ الطاقة العصبية المكبوتة.
ركّز فرويد على أهمية النكتة بالنسبة للإنسان باعتبارها نافذة أو وسيلة “تنفيس” و”تفريغ” للشحنات الانفعالية وضغوطات الحياة المكبوتة.
فمن وجهة نظر مدرسة التحليل النفسي، لاحظ فرويد أنّ كلًّا من النكتة والفكاهة هما مثل الأحلام، يمكن أنْ يكون لهما علاقة قوية متأصلة باللاوعي واللاشعور. ففي كتابه “النكتة وعلاقتها باللاوعي“، ركّز فرويد على أهمية النكتة بالنسبة للإنسان باعتبارها نافذة أو وسيلة “تنفيس” و”تفريغ” للشحنات الانفعالية وضغوطات الحياة المكبوتة.
تصبح النكتة وسيلة تعبير رئيسية ولسان حال الأفراد والشعوب في حالات الكبت السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصادي. وهنا يمكن تفسير الأمر رجوعًا لفرويد على أنه محاولة مواجهة القهر والكبت بالضحك. فالفكاهة، عند فرويد، هي واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، خاصة النكتة، لأنها تصدر في تصوره من آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات الداخلية.
تسمح النكتة للفرد بالتعبير الموجز عن دوافعه واندفاعاته اللاوعية التي غالبًا ما تكون ذات طبيعة عدوانية أو ذات طبيعة جنسية مكبوتة في الحياة اليومية العادية
ويأتي رأي فرويد هذا من منطلق أنّ النكتة تسمح للفرد بالتعبير الموجز عن دوافعه واندفاعاته اللاشعورية واللاوعية التي غالبًا ما تكون ذات طبيعة عدوانية أو ذات طبيعة جنسية مكبوتة في الحياة اليومية العادية. وفي العموم، فإن الفكاهة بمنزلة النشاط الخاص للأنا الأعلى لتخفيف حالة القلق بها. ونظرًا لأنّ العواطف والرغبات الأكثر قمعًا هي الرغبة الجنسية والعدوانية، يرى فرويد أنّ معظم النكات التي يُطلقها الأفراد غالبًا ما تتعلق بالجنس أو العدوانية والعنف أو كليهما. ففي إخبارنا للنكات الجنسية والضحك عليها، نكون قد تجاوزنا الرقابة والقلق الداخلية، تمامًا كما يحدث مع النكات العنيفة أو العدوانية التي نُطلقها على “الآخرين”.
ولو عدنا للكوميديا اليونانية القديمة، لوجدنا أنّ هدفها كان ينسجم تمامًا مع رؤية فرويد للنكتة؛ إذ نظر الإغريق إليها بوصفها وسيلة للتنفيس والتطهير لأنها تقدم لهم الواقع اليومي بصورة جميلة ومضحكة، وتحاكي الطباع من خلال الفعل الذي تحمله صفة ما لشخصية واقعية أو خيالة أو تاريخية أو سياسية.
ومن هذا المُنطلق، ربما نستطيع تفسير احتلال النكتة والبرامج الكوميدية الساخرة ذلك الموقع المتميز في الحيّز الاجتماعي للشعوب الحديثة، سواء العربية أو الغربية، فأصبحت وأنها الأداة الممكنة لمواجهة الكبت المجتمعي والقمع السياسيّ والأوضاع الاقتصادية الصعبة، لا سيّما في الفترة ما بعد اندلاع “الربيع العربي”. وقد ساعد في ذلك الاستخدام المتزايد لمواقع التواصل الاجتماعيّ التي ساعدت في انتشار النكتة والبرامج الساخرة وتناقلها بين الأفراد والمجموعات.
النكتة السياسية هي وجه آخر للمقاومة الثقافية في مجتمعات القمع والاحتقان
فكم من صفحة فيسبوك أُنشئت فقط لهدف عرض التعليقات والمواقف الساخرة في المجتمعات، لا سيما السياسية والاجتماعية، وكم من برنامج ساخر ظهر لنا بما يقدّمه من انتقادات للواقع بطريقة كوميدية تحمل في طياتها الكثير من الفكاهة والضحك على الرغم من مرارة حقيقتها وسوداويّتها. ولعلّ الشعب المصري كان أكثر الشعوب على مرّ السنين الماضية إثباتًا لقدرته الفكاهية الفعّالة في التعايش مع مشكلات الواقع وسوداويته والتكيّف مع ضغوطاته العديدة.
وبذلك يمكننا القول أنّ النكتة السياسية هي وجه آخر للمقاومة الثقافية في مجتمعات القمع والاحتقان، لا سيّما في ظلّ غياب أيّ أفقٍ لأيّ حلٍ سياسيّ أو تحسّن اجتماعيّ واقتصادي. ولهذا لا عجب أنّها أصبحت أيضًا في كثير من الدول جريمةً يمكن أن تؤدي للسجن أو الملاحقة أو المساءلة بوصفها آليةً تحريضية تدعو للحرية والخلاص من الأنظمة والديكتاتورية.