لم تكن أوروبا تعلم في القرن الثامن عشر سوى عن قليل من ما يوجد في جنوب المحيط الهادي، وظلوا وقتًا طويلًا معتقدين بأن هناك كتلة ضخمة من اليابسة قابعة في الجنوب ربما تكون قارة جنوبية ما لم يكن لديهم علم بها حتى ذلك الوقت بسبب وجود حاجز جليدي كان يصعب اختراقه حين ذاك، إلا أن “جيمس كوك”، البحارة الإنجليزي الأشهر في التاريخ، قام باكتشاف العديد من الجزر القريبة من القارة الجنوبية القطبية “أنتاراكتيكا” في عام 1772، وكان ذلك كاف بالنسبة له ليعد نفسه أول مكتشف للقارة القطبية في العالم.
اشتهر “جيمس كوك” في كتب التاريخ على أنه من أنجح رسامي الخرائط في العالم، حيث اشتهر على أنه أنبل البحارة على الإطلاق، هو مكتشف قارات كاملة غابت عن علم الأوروبيين قرونًا طويلة، من بينها اكتشافه لقارة أستراليا وسواحل “نيوزيلندا” في رحلته الأولى التي خرج فيها من سواحل إنجلترا بحثًا عما يجهله العالم من أسطورة القارة الجنوبية، ليرسم لقارة أستراليا خرائط دقيقة كانت المصدر الأول في التاريخ واعتراف موثق ومفصل بجغرافيتها.
ولكن كان هدفه الأساسي من رحلته التي انتهت باكتشافه لقارة أستراليا هو البحث عن القارة الجنوبية، وأن يقطع الشك الزاعم بأنها قارة أسطورية بيقين وجودها على أرض الواقع فعًلًا، ولهذا قام “جيمس كوك” برحلته الثانية التي خلدت اسمه في التاريخ للمرة الثانية بعد اكتشافه لقارة أستراليا، حينها وفي عام 1772 تم اكتشاف جزر كثيرة بالقرب من القارة القطبية الجنوبية رسم لها “كوك” خرائط مفصلة واعتبرها جزءًا من قارة قطبية أكبر لا تبعد عن الجزر كثيرًا، إلا أنه لم يستطع رؤية القارة بشكل واضح ولكنه خُلد في التاريخ باكتشاف الحضارة الأوروبية قارات العالم ورسم أولى الخرائط لها.
“بيري ريس”: عالم الخرائط الذي حيّرت خرائطه العالم
أظهرت خرائط “بيري ريس” الأولى السواحل الشرقية للقارتين الأمريكيتين
لطالما عُرفت القارة الجنوبية بأنها مغطاة بالثلج كونها المنطقة التي تتمتع بأقل درجات حرارة في العالم، إلا أن هناك من اكتشف وجودها قبل مئات السنين من اكتشاف الإنجليز لها من خلال “جيمس كوك”، واكتشفها قبل أن تتحول إلى قارة يغطيها الجليد، هذا هو عالم الخرائط العثماني “بيري ريس” الذي عُرف في التاريخ بأنه أول مكتشف لحضارات كانت موجودة قبل التاريخ الذي نعرفه اليوم من خلال خرائطه التي سبقت “جيمس كوك” بمئات السنين.
اسمه الكامل أحمد محي الدين بيري ريس هو اللقب العربي الذي كان يطلقه العثمانيون على القادة البحريين ويعني “رئيس البحرية”، ولد “ريس” في مدينة غاليبولي الواقعة غربي إسطنبول كانت والتي كانت بمثابة المركز الرئيس للقوات البحرية العثمانية.
يقول مفتى الدولة العثمانية، أو شيخ الاسلام “ابن كمال”، عن غاليبولي “إن أبناءها أمضوا حياتهم في البحر كالتماسيح، وكانت أسرتهم القوارب، وهدّدهم البحر والسفن ليلا ونهارا”.
خرج “بيري ريس” من هذه البيئة، وأوضحت خرائطه، التي اكتُشفت في قصر “توبكابيي”، قصر الباب العالي، في عام 1929 تفاصيل لقارة جنوبية كانت مأوى لحضارة عُرفت آنذاك بـ “حضارة البحر”، تشير إلى فرضية وجود حضارة اعتمدت على الإبحار في المحيطات لم يعرف عنها البشر شيئًا واتخذت القارة الجنوبية موطنًا لها، وعلى الرغم من رفض كثير من علماء الخرائط والجغرافيا لتلك الفرضية إلا أن دقة خرائط “بيري ريس” أثارت شكوكهم من خلال أسئلة كثيرة حول حضارات القارة الجنوبية لم يستطيعوا الإجابة عليها، إذ عُرف “بيري ريس” بأنه عالم الخرائط الذي حيّرت خرائطه العالم.
كتب عالم الخرائط العثماني “بيري ريس” عن أكثر من 20 مصدر من الخرائط التي اعتمدها العالم آنذاك استخدمها هو لتكوين خريطته الخاصة به عن العالم، كان من بينها خرائط الرحالة البرتغاليين وخرائط تعود لأيام الإسكندر الأكبر، إلا أن خرائط “ريس” التي تعود لعام 1513 أوضحت شيئًا غريبًا لم توضح عنه أكثر خرائط “جيمس كوك” دقة عن خريطة العالم، حيث تبدو البرازيل، الموجودة في القارة الأمريكية الجنوبية الآن، متصلة بكتلة أرضية يابسة تربطها بقارة جنوبية، القارة التي نعرفها حاليًا باسم قارة أنتاركتيكا.
كشفت خرائط العالم العثماني “بيري ريس” اتصال القارة الجنوبية بأمريكا اللاتينية من خلال كتلة أرضية يابسة لا توجد في خرائط العالم اليوم
في الأسفل تظهر الكتلة الأرضية التي تربط القارة الأمريكية الجنوبية بالقارة القطبية الجنوبية
أوضحت خرائط “سري” أن الجزء المتصل من القارة الجنوبية “أنتاركتيكا” بقارة أمريكا اللاتينية هو جزء يابس وغير مغطى بالجليد، على عكس قارة أنتاركتيكا التي يغطيها الجليد بنسبة 98٪ من مساحتها حاليًا، إضافة إلى ذلك فإن خرائط “بيري ريس” التي تعود لعام 1513م، قد تدعم نظرية “انفصال القشرة الأرضية” التي تزعم باتصال كتلة يابسة ضخمة من القارة الجنوبية “أنتاركتيكا” بقارة أمريكا اللاتينية، وهي الفرضية التي تزعم بأن مكان القارة القطبية الحالي هو المكان الذي انزاحت إليه القارة منذ آلاف من السنين، وأن الخرائط الأصلية لها قد اختفت مع حضارات قديمة غرقت منذ قرون.
كان بروفيسور التاريخ الأمريكي “تشارلز هوبجود” من أول من اعترف علنًا بأن خرائط العالم “بيري ريس” تشير إلى وجود حضارات قديمة على قارة أنتاركتيكا منذ آلاف السنين، حيث وجد ذلك من خلال دراساته لكل خرائط العالم القديمة، ووجد أيضًا أن القارة القطبية لم تكن كلها قطبية كما عهدها الرحالة الإنجليزي “جيمس كوك” بعد العالم العثماني بحوالي 4 قرون، بل كان منها كتل أرضية يابسة تأكيدًا على ما رسمه “بيري ريس” في خرائطه.
“الريس بيري” مر بأمريكا لأول مرة قبل كولومبس!
أظهرت خرائط “بيري ريس” سواحل أمريكا الشمالية والجنوبية
باشر “بيري ريس” إعداد كتاب البحـرية عام 1521 وفرغ منه بعد أربعة أعوام، وكان عبارة عن أطلس ملاحي شامل، قدم فيه المؤلف وصفا دقيقا للسواحـل والشطآن مـع بيان التيارات المائية والشعب المـرجانية و المراسي والخلجان و المرافئ ومنابع المياه العذبة، والقلاع والمواضع المُحصنة، أُثبت فيما بعد دقة رسم الخرائط الموجودة في الكتاب البحري وتطابقها مع الصور المأخوذة حديثًا بالأقمار الصناعية.
كان الريس بيري قائدًا للأساطيل البحرية العسكرية للدولة العثمانية أيضًا، حيث توطدت علاقته مع الصدر العثماني الأعظم “إبراهيم باشا” الذي جعله قائدًا على أساطيل السفن التي توجهت من تركيا إلى مصر عام 1524 لحل خلاف والي مصر ودفتر دارها “الموظف المالي المسؤول عن الوارد والصادر من الأموال الحكومية”، كما وصل الريس بيري إلى مقابلة السلطان سليمان القانوني مما مكنه من أن يكون أميرًا على البحار الجنوبية التي شملت البحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عمان والخليج العربي.
إن بحر المغرب يقصد المحيط الأطلسي بحر عظيم يمتد بعرض (2000) ميل بحري تجاه الغرب من بوغاز (سبتة)، وفي الطرف الآخـر من بحر المغرب توجد قارة كبيرة جدا هي قارة انتيليا ويقصد بها (أمريكيا)
– بيري ريس
وجد في خرائط “بيري” الأولى أجزاء من قارة كتب اسمها بالعربية والتركية “أتالنتي” أو “أتلانتيس”، تطابقت الأجزاء التي رسمها “بيري” مع صور الأقمار الصناعية الحديثة لأجزاء من قارة أمريكا الشمالية كانت قد وصفتها جامعة “جورج تاون” الأمريكية حديثًا بأنها خرائط “مدهشة” للقارة الأمريكية تعود إلى ما قبل اكتشاف الرحالة الإيطالي “كريستوفر كولومبوس” لها.
لا يوجد كثير من علماء التاريخ والجغرافيا الأمريكان من أعلنوا رسميًا اعترافهم باكتشاف القارة الأمريكية في خرائط العالم العثماني “الريس بيري” قبل اكتشافها من قبل الرحالة الإيطالي “كولومبوس” بعدة سنوات، كما كانت هناك آراء تشير إلى اعتماد “كولومبوس” في طريقه إلى القارة الأمريكية في الأساس على خرائط العالم العثماني “بيري ريس”.
على الرغم من نجاح مسيرة “بيري” التاريخية، إلا أن نهاية العالم العثماني كانت مآساوية، إذ في في عام 1551 تحرك بيري ريس بأسطول كبير من ميناء السويس إلي عدن التي سقطت في يد البرتغاليين، ومن ثم توجه نحو قلاع مدينة هرمز عند بوابة خليج البصرة (الخليج العربي) ولم يفلح في فتح قلاعها الحصينة فتوجه للبصرة ومكث فيها مدة وهناك سمع بتحرك البرتغاليين لمحاصرته في مياه شط العرب فقرر مغادرة الالتواءات النهرية الضيقة و ملاقاتهم في عرض البحـر.
وهكذا غـادر البصرة بثلاث سفن فقط ولم يستطع استدعاء سفن الأسطول الموزعة على المرافئ البعيدة، ومما زاد الموقف سوءا تحطم إحدى سفنه الثلاث فقرر العودة إلى مصر، لكن والي البصرة (قباذ باشـا) أرسل خطابًا عاجلًا لديوان السلطان سليمان القانوني يتهم فيه الريس بيري بالجبن والخيانة فصدرت الأوامر السلطانية بإعدام بيري ريس فور وصوله لمصر وأُعدم في مصر 1554 ميلادي.