سياق طبيعي تدرج به الاحتلال الإسرائيلي حتى حكم اليمين المتطرف كل المؤسسات الإسرائيلية بداية من الجيش حتى البرلمان والمؤسسة السياسية، إلى أن وصل لإقرار قانون “دولة يهودية ديمقراطية” التي أصبحت “إسرائيل” بموجبه “دولة يهودية ديمقراطية”.
روّج الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته عام 1948 بعد نكبة فلسطين واستعماره لها على أنه “دولة ديمقراطية” ومجتمع ديمقراطي غير مقترن بأي مسمى أيديولوجي آخر، وهو ما يمكن تسميته بـ“إسرائيل الأولى” التي تريد إظهار نفسها ضمن السياق الدولي، وانخراطها في الرؤية الديمقراطية الليبرالية.
بعد فترة التمكين وفق الرؤيتين الأوروبية والأمريكية وبمساعدة اللوبي اليهودي في أمريكا انتقل الاحتلال الإسرائيلي لمرحلة “إسرائيل الثانية” مع بقاء عقدة الشرعية تلاحق الاحتلال الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي، وهو ما أسموه “إسرائيل دولة ديمقراطية يهودية”، فكانت الديمقراطية ككلمة ذات دلالة سياسية مصاحبة للفاعلين الدوليين مقدمة على اليهودية، حتى مكنت نفسها كفاعل أساسي في السياسة الدولية وحليف إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، لكن المرحلة الأكثر خطورة هي التي صاحبت إقرار القانون فأصبحت بموجبه “إسرائيل الثالثة” “دولة يهودية ديمقراطية خالصة”، وقد قدمت اليهودية على الديمقراطية.
ينص القانون الذي تم التصويت عليه في الكنيست داخل الاحتلال الإسرائيلي بموافقة 62 نائبًا من أصل 120 على: “إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي”، وحق تقرير المصير فيها يخص الشعب اليهودي واعتبار تنمية الاستيطان اليهودي من القيم الوطنية، وتعمل الدولة من أجل تثبيته وتشجيعه
لقد تحولت “إسرائيل الثالثة” لشكل غلب عليه فكرة التيارات، واستقر على تيار اليمين الاستيطاني المكون الأساسي ليهودية الدولة، وهذا التحول السيئ للديمقراطية التي أضحت قيمة ثانوية تالية لليهودية مسألة ستسمح للاحتلال المحافظة على صورة معينة من الوجدان العالمي بأن ينتمي لمجتمع ديمقراطي يخدم اليهود، وعليه تصبح اليهودية الفكرة الحامية والمؤسسة مع بقائها القيمة العليا مصاحبة لقيم الاستيطان والأبارتهايد، ويمكن في السياق التالي وضع أبرز بنود القانون.
أبرز بنود القانون
ينص القانون الذي تم التصويت عليه في الكنيست داخل الاحتلال الإسرائيلي بموافقة 62 نائبًا من أصل 120 على: “إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي”، وحق تقرير المصير فيها يخص الشعب اليهودي واعتبار تنمية الاستيطان اليهودي من القيم الوطنية وتعمل الدولة من أجل تثبيته وتشجيعه، والقدس عاصمة “إسرائيل” للشعب اليهودي، وينزع عن اللغة العربية صفة اللغة الرسمية إلى جانب اللغة العبرية ويجعلها لغة ذات مكانة خاصة.
في النقطة الثانية “حق تقرير المصير” يعني أنه لا حق لأي فلسطيني تقرير مصيره بالعودة لبلاده حتى بمن فيهم الفلسطينيين في الداخل المحتل، ويحق لكل يهودي العودة لـ”إسرائيل” باعتبارها الوطن القومي له.
الملاسنة الحادة بين رئيس الوزراء في الاحتلال الإسرائيلي بينامين نتنياهو ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، ووزير التربية والتعليم نفتالي بينيت في الاحتلال وآيزنكوت كشفت قلقًا مستمرًا في المؤسسة العسكرية من المجازفات الحمقاء التي يريد اليمين من الجيش خوضها
أما في النقطة الثالثة وهي الأهم في الميدان السياسي لليمين المتطرف الذي ينظر للضفة الغربية برؤية وطنية جديدة تنطلق من خلال تكريس الاستيطان فيها وتعزيز الفصل العنصري “الأبارتهايد” الجديد بشكله الذي أراده موشي ديان – مختلف عن سياق الفصل العنصري في جنوب إفريقيا باستغنائه التام عن العمالة الفلسطينية حتى لا يرتبط الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينيين – وهو ما يمكن تطبيقه في المرحلة القادمة للضفة الغربية.
خلاف حاد بين اليمين والمؤسسة العسكرية
الملاسنة الحادة بين رئيس الوزراء في الاحتلال الإسرائيلي بينامين نتنياهو ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، ووزير التربية والتعليم “نفتالي بينيت” في الاحتلال وآيزنكوت كشفت قلقًا مستمرًا في المؤسسة العسكرية من المجازفات الحمقاء التي يريد اليمين من الجيش خوضها.
كان آيزنكوت حذرًا في حراك الجيش تجاه أي عمليات عسكرية، لكن نتنياهو واليمين أراد تدخل الجيش في كل صغيرة وكبيرة، فقد عارض الأول دخول حرب موسعة وشاملة على غزة لوقف البالونات الحارقة وطالب بالتعايش مع المشروع النووي الإيراني بدلًا من دخول حروب يريدها اليمين.
يعلم نتنياهو أن القارة الأوروبية قد انتقلت لمرحلة الواعظ أكثر من قدرتها على اتخاذ خطوات تنفيذية على الأرض تضع حدًا لممارساته
عطفًا على الخلافات السابقة بما يتقاطع مع يهودية الدولة فإن المؤسسة العسكرية تريد الانفتاح أكثر على العالم المحيط، لكن التيار اليميني المسيطر في الحقل السياسي الرسمي يقدر أنها أصبحت جزءًا مستقلًا يحتاجه العالم المحيط ضمن الحاجة للاقتصاد عالي التقنية أو التقاطعات الاقتصادية، لكن الانكفاء بما يجعل الاحتلال دولة أيديولوجية يهودية تسيطر عليها الهواجس الأمنية والعسكرية هو ما يقلق الجيش الذي يريد التهدئة الطويلة بين الجبهتين الجنوبية والشمالية أو على الصعيد الإيراني، وهو ما يفسر ضغط المؤسسة الأمنية باتجاه إقامة منطقة منزوعة الوجود الإيراني في الجنوب السوري تمامًا.
هل شاخت أوروبا من وجهة نظر نتنياهو؟
يعلم نتنياهو أن القارة الأوروبية قد انتقلت لمرحلة الواعظ أكثر من قدرتها على اتخاذ خطوات تنفيذية على الأرض تضع حدًا لممارساته، وظل يمارس دور المقدّر المحترم للشيخ الأوروبي أو للقارة العجوز حتى تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرئاسة ليتخذ نتنياهو قرارات أكثر وقاحة وجراءة، دون أي مبالاة لما أعرب عنه الاتحاد الأوروبي من قلقه لإصدار قانون “يهودية الدولة”.
لكن المؤسسة الرسمية الإسرائيلية في سياقها التاريخي أرادت مصاحبة مصطلح الديمقراطية لتكوين بنيتها الصلبة، وسد الطريق أمام الانتقادات الأوروبية التي تختلف في طرحها للسلام بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، فهي متمسكة بـ”حل الدولتين” على خلاف الرؤية الأمريكية الجديدة التي تريد إلغاء حل الدولتين بمجمله، وهو ما عرضه الثلاثة الكبار الفاعلين في السياسة الأمريكية – جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأمريكي وجيسون جرينبلات المبعوث الأمريكي الخاص في الشرق الأوسط والسفير الأمريكي في الاحتلال الإسرائيلي ديفيد فريدمان – في مقال مشترك على صحيفة “واشنطن بوست” بعنوان “المساعدة في متناول يد الفلسطينيين.. الأمر كله يعود لحماس” يطرح مساعدات اقتصادية غير محدودة مقابل إلغاء حل الدولتين الذي تطرحه أوروبا، ما يعني مساهمتهم الفعلية في تحقيق يهودية الدولة الخالصة.
أمريكا من أسست ليهودية الدولة
لعل السنوات الأخيرة كشفت السعي الدؤوب للاحتلال الإسرائيلي بتبني دول صغيرة وقوميات وأقليات محيطة، وعقد تحالفات معها سواء إفريقية أم آسيوية أم لاتينية لهدف كسب التأييد في الساحة الدولية ومؤسساتها، ولكن بعد تصويت الأمم المتحدة على قرارات ضد رغبة الاحتلال الإسرائيلي، كقرار نقل السفارة واعتبار القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي وقرار اليونسكو باعتبار القدس مدينة إسلامية، أدت لانسحابات متكررة أمريكية من منظمات دولية كبيرة آخرها انسحابها من مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية احتجاجًا على موقفها المضاد للاحتلال الإسرائيلي.
لم تبد الإدارة الأمريكية أي تعليق على القانون ما يعني موافقتها التامة، بل ومشاركتها في تحقيق اليهودية للدولة بعيدًا عما تطرحه على الدول الجديدة التي ترغب بدور أكثر فعالية في الحقل الدولي من المحافظة على القيم الديمقراطية
ثم انسحابها من منظمة اليونسكو بدعوى وقوف المنظمة ضد “إسرائيل” باعتبار القدس مدينة إسلامية، ثم الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ضمن التحولات العنيفة في النظام الدولي، تحت شعار “أمريكا لا تريد حماية الكوكب على حساب رفاهيتها”، في الوقت الذي قدمت فيه أكبر حجم من المساعدات الاقتصادية في التاريخ للاحتلال الإسرائيلي شمل مساعدات عسكرية وبرامج دفاعية وتكنولوجية مشتركة.
ولم تبد الإدارة الأمريكية أي تعليق على القانون ما يعني موافقتها التامة، بل ومشاركتها في تحقيق اليهودية للدولة بعيدًا عما تطرحه على الدول الجديدة التي ترغب بدور أكثر فعالية في الحقل الدولي من المحافظة على القيم الديمقراطية.
إن من خلاصة القول نجاح المصادقة على قانون اليهودية المقدم على الديمقراطية يبيّن مدى الغرور الإسرائيلي في الاستغناء عن القواعد الأخلاقية والسياسية التي وضعها النظام الدولي الجديد، في نظرها أن كثير من الدول بحاجة لها كدولة محورية فاعلة بالجانب الاقتصادي التقاني، وقد ساهم المستوى العربي المحيط فعليًا في تعزيز حضور الاحتلال الإسرائيلي الفاعل، عبر التطبيع الاقتصادي الحاصل وعدم اتخاذ إجراءات سريعة وثابتة للفلسطينيين – تنموية على وجه الخصوص – لتعزيز الصمود الفلسطيني الداخلي والخارجي ضد قرار اليهودية قبل صدوره، ورغم إبداء بعض الدول العربية مخاوفها واستنكارها لإقرار قانون “اليهودية” فإن إجراءات التطبيع فيها تسير على الأرض بكل سلاسة وهو ما يفسر تمرير القانون بهذه السهولة.