قبل ساعات من إعلان الحكومة طرح المزيد من أسهم 5 شركات مملوكة للدولة بالبورصة كدفعة أولى في إطار برنامج خصخصة أوسع نطاقًا، كان المصريون على موعد مع مفاجأة أخرى لم تُعلن إلا مؤخرًا، حيث وافق مجلس النواب المصري بشكل نهائي، يوم الإثنين الماضي 16 من يوليو، على مشروع قانون “مفاجئ” مقدم من الحكومة بإنشاء صندوق سيادي، برأسمال مرخص به يبلغ 200 مليار جنيه (نحو 11 مليار دولار).
موافقة البرلمان الذي بات مصريون كُثُر يعتبرونه مؤسسة تعمل لصالح النظام لا المواطنين، تضع بيد السيسي كل مقاليد الحكم منفردًا دون نقاش مجتمعي يُذكر، وتضع في يد الصندوق – الذي يخضع مباشرة لتصرف السيسي – حق ضم أملاك الدولة والتصرف بها كما يشاء.
“صندوق مصر” السيادي لصاحبه عبد الفتاح السيسي
ساعات قليلة بعد الإعلان عن الصندوق الذي حمل اسم “صندوق مصر”، أعقبها جدل كبير كونه يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، فالصندوق يخضع لتصرف السيسي مباشرة، ولا يخضع للجهات الرقابية أو مجلس النواب.
وللرئيس الحق في تشكيل مجلس إدارة الصندوق الذي سيتكون من وزير مختص، وخمسة أعضاء مستقلين من ذوي الخبرة، وممثل عن كل وزارة من الوزارات المعنية بشؤون التخطيط والمالية والاستثمار، على أن يكون مقر الصندوق الرئيسي في محافظة القاهرة.
يعتبر الكثير من المصريين البرلمان مؤسسة تعمل لصالح النظام
أيضًا، يتيح القانون للصندوق المشاركة في كل أنواع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية، سواء داخل مصر أم خارجها، كما ينص القانون على أن يكون رأس مال الصندوق المرخص به 200 مليار جنيه مصري ورأس مال المصدر 5 مليارات جنيه مصرى، يُسدد منه مليار جنيه من الخزانة العامة للدولة عند التأسيس.
ولعل أكثر صلاحيات الصندوق إثارة للجدل سلطته المطلقة في شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة أوالمنقولة والانتفاع بها، أو الترخيص المنتهي بالانتفاع، حيث سيكون للصندوق حق التصرف فى الأملاك أو الصناديق المملوكة له بالكامل.
بعد الموافقة أمس على إنشاء صندوق سيادي لمصر، أصبح الخراب المستعجل حقيقة لا مجاز سيباع ويأجر ما تبقى من أصول مصر من أراضي وشركات ولا عزاء للمصريين في وطنهم.
— Azza El-Garf (@AzzaElGarf) July 17, 2018
ويمنح كذلك للصندوق سلطة ممارسة جميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية، بما في ذلك المساهمة بمفرده أو مع الغير في تأسيس الشركات أو زيادة رؤوس أموالها، إلى جانب الاستثمار في الأوراق المالية المقيّدة بأسواق الأوراق المالية وغير المقيدة بها وأدوات الدين، وغيرها من الأوراق المالية داخل مصر أو خارجها.
كما أجاز مشروع القانون لرئيس الجمهورية – بناءً على عرض الحكومة – نقل ملكية أي من الأصول غير المستغلّة، المملوكة ملكية خاصة للدولة أو لأيّ من الجهات أو الشركات التابعة لها، إلى الصندوق أو أي من الصناديق التي يؤسسها والمملوكة له بالكامل، ما يفتح الباب واسعًا أمام تمليك أصول الدولة للجهات التي يحددها، وذلك بمعزل تام عن الجهات الرقابية في الدولة.
يمنح القانون للمعاملات البينية للصندوق وللكيانات المملوكة له بالكامل إعفاءً كليًا من الضرائب والرسوم
يستطيع الصندوق أيضًا الاقتراض دون حصول على إذن مسبق من الجهات الرقابية، كذلك يمكنه الحصول على التسهيلات الائتمانية وإصدار السندات وصكوك التمويل وغيرها من أدوات الدين، إضافة إلى إقراض أو ضمان صناديق الاستثمار والشركات التابعة التي يملكها أو يساهم فيها مع الغير.
وفي سياق السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية على الصندوق، تُعرض تقارير الحسابات والقوائم المالية للصندوق فقط على رئيس الجمهورية والجمعية العمومية التي عينها بنفسه، ولا تُعرض على البرلمان إلا بهدف اعتمادها فقط.
ويمنح القانون للمعاملات البينية للصندوق وللكيانات المملوكة له بالكامل إعفاءً كليًا من الضرائب والرسوم، كما يعطي للصندوق الحق في إصدار قرارات، في تعاونه مع الصناديق العربية والأجنبية المماثلة والمؤسسات المالية المختلفة.
القانون يسمح لرئيس الجمهورية نقل ملكية أصول الدولة غير المستغلة إلى الصندوق
صندوق مصري للثروة السيادية.. الصب في مصلحة الرئيس أولاً
في السنوات الأخيرة، بدأت أحاديث مقتضبة من مسؤولين عن أن مصر تسعى لإنشاء هذا الصندوق، حيث شهد عام 2016 أولى الخطوات نحو الصندوق، حيث أعلن وزير التخطيط المصري السابق أشرف العربي في ديسمبر من العام نفسه، انتهاء الدراسات الخاصة بالصندوق السيادي للبلاد، وأنه سينشأ بقانون خاص، ومسودة القانون ستناقش بمجلس الوزراء تمهيدًا لإرسالها لمجلس النواب.
وبعد أشهر، وتحديدًا في مارس/آذار 2017، تحدث وزير قطاع الأعمال المصري خالد بدوي لأول مرة من دبي، عن دراسة مصر لتأسيس صندوق ثروة سيادي، في الوقت الذي تخطط فيه لإدراج الشركات في البورصة، الهدف بحسب ما قاله بدوي وقتها أن مصر تتطلع لجمع ما بين 2 و3 مليارات دولار من بيع حصص في شركات حكومية، قبل الإدراج الرسمي لتلك الشركات.
وقبل ذلك بشهرين فقط، وبالتحديد في يناير، لمّح وزير المالية المصري عمرو الجارحي إلى نفس الأمر لكن دون تفاصيل، حين قال إن مصر تتطلع لطرح أسهم في عشر شركات حكومية في البورصة خلال سنة ونصف، بهدف جذب المستثمرين الأجانب، وهو ما جرى منذ أيام قليلة.
لكن الأمر بدا أنه نزاع بين أشخاص ووزارات، فبعد أن كانت الحكومة متحمسة لمشروع أشرف العربي، سحبت وزيرة التخطيط والمتابعة هالة السعيد، الدراسة الخاصة بالصندوق من مجلس الوزراء في مايو 2017، بزعم إعادة النظر في الدراسات التي تمت بشأنه، رغم أن الدراسات التي أعدت في عهد العربي قام بها مكتب خبرة أجنبي، لكن الوزيرة تريد أن يكون لها بصمتها.
وفي مارس 2018، خرج الموضوع من صراع الأشخاص إلى صراع الوزرات، حيث طُرحت في هذه المرة فكرة الصندوق على لسان وزير قطاع الأعمال، بهدف المساهمة في التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال إدارة أمواله وأصوله.
رغم أن غالبية النواب وافقت على مشروع القانون، فإن هذه الموافقة أظهرت حالة من غياب الثقة بين كثير من المصريين والحكومة
ومن خلال بيان رسمي، نفت الحكومة المصرية أن يكون هدف الصندوق بيع أصول وممتلكات الدولة دون رقابة الأجهزة المعنية، لكن البيان لم يحمل أي ردود واضحة على التخوفات التي طرحها كثير من المصريين، مكتفيًا بالقول إن وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري أوضحت أن “صندوق مصر السيادي هو صندوق مملوك للدولة يتكوّن من أصول مثل الأراضي أو الأسهم أو السندات“.
وفي 10 من يوليو 2018، وافقت لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب المصري، من حيث المبدأ، على مشروع قانون إنشاء صندوق سيادي – غير خاضع للرقابة – على أن يقره البرلمان الموالي للسيسي بدور انعقاده الحاليّ، بعد حصوله على موافقة قضائية من مجلس الدولة، الذي أقال السيسي رئيسه الذي تحداه ببطلان اتفاقية تيران وصنافير، ليعين بديلاً عنه مخالفة للدستور.
ورغم أن غالبية النواب وافقت على مشروع القانون، فإن هذه الموافقة أظهرت حالة من غياب الثقة بين كثير من المصريين والحكومة، وكانت قد بدأت مباشرة بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين مصر والمملكة العربية السعودية في أبريل 2016، وهي الاتفاقية التي تسببت في أزمة جزيرتي تيران وصنافير اللتين أُعطيتا للسعودية، رغم قرارات قضائية مصرية تثبت مصريتهما.
لكن ظهرت بعض الأصوات القليلة الرافضة له، خصوصًا أن القانون يسمح لرئيس الجمهورية بنقل ملكية أصول الدولة غير المستغلة إلى الصندوق، ومنها صوت النائب ضياء الدين داوود الذي انتقد الحكومة المصرية، لكن صوته ضاع وسط حماس الكثيرين من زملائه في البرلمان المصري وهم يعلنون بصوت عالٍ: “موافقون”.
تسود خلافات داخل الأوساط الحكومية حول إدارة الصندوق
هل يمكن للصندوق المنتظر إنقاذ أصول الدولة؟
يليق بتصريحات المسؤولين المصريين أن يسموا مشروعاتهم تلك بأنها صناديق خصخصة الشركات والأصول العامة، وليس صناديق سيادية، فتجربة أشرف العربي كانت تعتمد على إدارة الصندوق للأصول المالية من أراض وعقارات مملوكة للدولة وغير مستغلة، بينما ذهب بدوي صراحة إلى أن الصندوق سيعتمد على إيرادات الشركات التي خطط لإدارجها في برنامج الخصخصة عبر البورصة، وأن الحصيلة ستكون بحدود من 2 إلى 3 مليارات دولار.
في ضوء ذلك، تضاربت آراء الخبراء المصريين بشأن فرص نجاح الصندوق السيادي الذي أُعلن إنشائه مؤخرًا، وعبر البعض عن مخاوفهم من عدم إدارته بطريقة محترفة، وفشل الإدارة في جذب مستثمرين لوضع أموالهم في تلك الأصول، أو أن يضم أصولاً معطلة في ظل نقص السيولة المتاحة للصندوق.
وعن طريقة إدارة الصندوق، تسود خلافات داخل الأوساط الحكومية في ضوء ميل وزيرة التخطيط نحو تشكيل لجنة حكومية يمثل فيها القطاع العام وقطاع الأعمال العام (الشركات القابضة) والجيش لإدارة الصندوق تنفيذيًا، في حين يرى وزراء آخرون أن الحكومة لا تملك الكوادر أو الخبرات الفنية القادرة على إدارته، وتدفع في اتجاه التعاقد مع شركة أجنبية أو إقليمية متخصّصة في إدارة هذا النوع من الاستثمارات.
وكما هو الحال الآن، واجهت هذه الخطوة بعض الانتقادات منذ سنوات، حين قال هاني توفيق رئيس الجمعية المصرية للاستثمار المباشر والخبير في إدارة الصناديق السيادية إن هذه الصناديق تنشأ غالبًا من جانب الدول الغنية وخاصة من فوائض العوائد البترولية، لكن مصر تعاني عجزًا في الموازنة العامة للدولة، وبالتالي ليس لدينا السيولة الكافية لإنشاء صندوق سيادي.
الصندوق السيادي لا يُعنى بفوائض الميزانية على غرار الصناديق المشابهة، لأن مصر مدينة بأرقام طائلة داخليًا وخارجيًا، ولا تحقّق أي فائض
وبحسب مراقبين، فإن الصندوق السيادي لا يُعنى بفوائض الميزانية على غرار الصناديق المشابهة، لأن مصر مدينة بأرقام طائلة داخليًا وخارجيًا، ولا تحقّق أي فائض، بل باستغلال واستثمار طائفة كبيرة من الأملاك العامة التي من المفترض دستوريًا أن تديرها الدولة بالنيابة عن الشعب، بحجة أن تلك الأملاك في حقيقتها أصول غير مستغلة، والدولة عاجزة عن استغلالها بالصورة المثلى.
يعني ذلك أن الصندوق سيكون بمثابة تفريط في الأصول الرأسمالية القائمة وليس تنميتها وزيادتها، حتى لو كان النشاط هو الدخول في مشروعات مشتركة مع شركاء أجانب أو مصريين، فستكون هذه الأصول مجرد حصة للدولة في تلك المشروعات.
ويُخشى في هذه الحالة من ممارسات الفساد التي طالت برنامج الخصخصة بمصر منذ العام 1991/1992 وأتى على مشروعات المحليات بالكامل، ثم مشروعات قطاع الأعمال العام، ومؤخرًا مشروعات الهيئات العامة مثل هيئة الاتصالات، التي تحولت للشركة المصرية للاتصالات.
وكانت النتيجة التفريط في أصول رأسمالية ومشروعات تقدر بنحو 500 مليار جنيه، لتباع بنحو 50 مليار جنيه فقط، ذهبت بين سداد ديون هذه الشركات والمشروعات، وسداد جزء من عجز الموازنة، والجزء الأخير ذهب لإعادة الهيكلة بباقي المشروعات العامة لتأهيلها للدخول في الخصخصة.
وبشكل عام اتسمت تجربة مصر في الخصخصة بالفساد، وعدم تحقيق نتائج إيجابية على صعيد الاقتصاد القومي، فمصر مثلًا لم تحصل على تكنولوجيا جديدة عبر خصخصة الشركات، ولم تهتم شركات القطاع الخاص بوجود مراكز بحثية لتطوير منتجاتها، لكنها اكتفت فقط بشراء خطوط الإنتاج من الخارج، كما كانت تفعل الحكومة، كل الأمر تركز في تحسين الشكل الخارجي للمنتجات والاستغناء عن العمالة والسعي للحصول على تمويل من الجهاز المصرفي.