أثار مشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية رقم (150) لسنة 1950، الذي يُناقش حاليًا داخل أروقة مجلس النواب المصري (البرلمان)، موجة انتقادات عارمة، تتعلق ببعض البنود التي وصفها حقوقيون بـ”الكارثية” وتقوض العدالة وتجز آخر أعشاب الحريات المتآكلة في مصر.
وكانت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس النواب قد وافقت في آخر اجتماعاتها، الأحد 25 أغسطس/آب، على 102 مادة (من إجمالي 560 مادة) من المشروع، فيما أعلنت رئاسة الوزراء المصرية موافقتها على التعديلات قبل الموافقة عليها في الجلسة العامة للبرلمان أو طرحه لنقاش مجتمعي، مما زاد من احتقان العديد من المنظمات الحقوقية.
يشكل قانون الإجراءات الجنائية أحد الأضلاع الرئيسية في منظومة العدالة بمصر، وفي أي دولة من بلدان العالم، كونه ينظم حق التقاضي أمام المحاكم، ويحدد اتجاه ومستوى المسارات الحقوقية المحورية في حياة المواطن، على رأسها الحبس الاحتياطي وآليات الاعتقال والتفتيش وحرمة المنازل، بجانب آليات عمل الدفاع والمحامين، وكان قد أجري على هذا القانون العديد من التعديلات خلال السنوات الماضية آخرها تعديل 5 سبتمبر/أيلول 2020 بالقانون 189 لسنة 2020.
تقييد لما تبقى من الحريات
تعددت الاعتراضات والانتقادات الموجهة للتعديلات الخاصة بقانون الإجراءات الجنائية، والتي تمحورت في معظمها في 4 محاور رئيسية:
الأول: الحبس الاحتياطي
تضمنت التعديلات تقليل مدة الحبس الاحتياطي التي كانت عليها في القانون قبل تعديله، وذلك استجابة لمخرجات الحوار الوطني التي كان قد دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث تراجع الحد الأقصى للحبس الاحتياطي في قضايا الجنح من 6 أشهر إلى أربعة، وفي الجنايات العادية من 18 شهرًا إلى 12، أما الجنايات التي تتعلق بقضايا تصل فيها الأحكام للمؤبد والإعدام فتم تقليل المدة من 24 شهرًا إلى 18 فقط، وفي المجمل لا يجوز أن تتجاوز مدة الحبس الاحتياطي عامين.
لكن رغم هذا التعديل الذي يبدو جيدًا في ظاهره، فهناك الكثير من الألغام التي تحيط به وتفرغه من مضمونه، أبرزها أن التعديلات الجديدة لم تتطرق لمسألة “إعادة تدوير المحبوسين”، حيث اتهام المحبوس احتياطيًا بتهم جديدة قبيل انتهاء فترة هذا الحبس، وعليه تبدأ فترة حبس احتياطي أخرى على ذمة القضية الجديدة، وهكذا، ما يجعل من خطوة تقليص مدة الحبس الاحتياطي دون جدوى.
هذا بخلاف الإبقاء على المواد الفضفاضة التي تتعلق بمكافحة الإرهاب (40-42-43) والتي تمنح الجهات الأمنية سلطات استثنائية في مسألة الحبس الاحتياطي وتسمح لها بعدم التقيد بحدودها القصوى طبقًا لقانون الإجراءات الجنائية، وتلك هي المواد الأكثر استخدامًا وتوظيفًا مع المحبوسين على ذمة قضايا سياسية.
ثانيًا: تقييد عمل الصحفيين
تضمنت التعديلات عددًا من المواد التي تفرض طوقًا على حريات النشر والدفاع عن المتهمين، وسط تخوف من توظيف تلك التعديلات لتمرير الكثير من الأحكام في ظل تعتيم ممنهج، يطيح بمعايير النزاهة والعدالة وأبرزها:
– تنص المادة (266) على عدم جواز نقل وقائع الجلسات أو بثها بأي طريقة، إلا بموافقة كتابية من رئيس الدائرة بعد إذن من النيابة العامة، كما تنص المادة التي تليها مباشرة (267) على عدم جواز نشر أخبار أو معلومات أو إدارة حوارات أو مناقشات عن وقائع الجلسات على نحو من شأنه التأثير على سير العدالة، كذلك شددت على عدم ذكر أي بيانات تتعلق بالقضاة أو أعضاء النيابة أو المتهمين والشهود في قضايا الإرهاب.
– أشارت المادة (15) من مشروع القانون على أنه يجوز لمحكمة الجنايات بدرجتيها، أو محكمة النقض إذا وقعت “أفعال” خارج الجلسة، من شأنها التأثير على الشهود أو الإخلال بأوامر المحكمة أن تقيم دعوى جنائية على الفاعل بموجب المادة (13) التي تفيد بإباحة الحق لمحكمة الجنايات أول درجة أن تضم متهمين جدد للدعوى وتحيلهم إلى النيابة العامة للتحقيق.
– من يخالف تلك القيود، من الصحفيين والإعلاميين، فسيقع تحت طائلة المادة 186 مكرر من قانون العقوبات والتي تنص على “المعاقبة بغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه، ولا تزيد على 300 ألف جنيه لكل من صور أو سجل كلمات أو مقاطع أو بث أو نشر أو عرض بأي طريق من طرق العلانية لوقائع جلسة محاكمة مخصصة، لنظر دعوى جنائية، دون تصريح من رئيس المحكمة المختصة بعد أخذ رأي النيابة العامة”.
ثالثًا: حرمة المنازل والسكن الخاص
– تنص المادة 35 من الدستور المصري المعدل عام 2019 على أن “الملكية الخاصة مصونة، وحق الإرث فيها مكفول، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدمًا وفقًا للقانون”، وهي المادة التي يعتبرها البعض ضمانة دستورية وقانونية لحرمة المنازل وعدم اقتحامها دون إذن مسبق من القضاء ممثلًا في النيابة العامة.
لكن يبدو أن تلك المادة وما حوته من حصانة نسبية للحرمات الشخصية، تم الإطاحة بها في مشروع القانون المقدم الخاص بتعديلات قانون الإجراءات الجنائية، إذ سمح في مادته 24 مكرر على منح رجال السلطة العامة – والتي وسع نطاقها لتشمل كل شخص منوط به المحافظة على النظام والأمن والآداب العامة -، سلطة دخول المنازل، دون اقتصارها على مأموري الضبط القضائي.
– فيما منحت المادة 47 من القانون رجال السلطة الحق في دخول المنازل – دون إذن قضائي – وتوسع في تحديد حالات الخطر أو الاستغاثة – دون تحديد أمثلة استدلالية -، أو أن يضع تعريفًا محددًا لوصف تلك الحالات، مع منحهم كذلك اتخاذ “الإجراءات التحفظية”، كما في المادة 49 دون تعريف محدد للإجراءات التحفظية ونوعها، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام انتهاك الحرمات الخاصة للمواطنين بفضل التأويلات الفضفاضة لتلك المواد.
رابعًا: تقييد عمل الدفاع والمحامين
– قلصت التعديلات الواردة في مشروع القانون، من نفوذ وحضور المحامين في مناقشة مشروعات القوانين التي تحدد اختصاصات التقاضي أمام المحاكم، حيث منحت نادي القضاة الهيمنة الكاملة على وضع التشريعات وإجراء التعديلات دون الاستعانة بممثلين عن النقابة العامة للمحامين، التي تعد طرفًا أصيلًا في أي تعديلات.
– منحت المادة 69 النيابة الحق في إجراء التحقيق في غيبة الخصوم، حيث نصت على أنه “يجوز للمتهم والمجني عليه والمدعي عليه بالحقوق المدنية والمسؤول عنها ووكلائهم أن يحضروا جميع إجراءات التحقيق، ويجوز لعضو النيابة العامة أن يجري التحقيق في غيبتهم متى رأى ضرورة ذلك لإظهار الحقيقة، وفور الانتهاء من تلك الضرورة يمكنهم الاطلاع على التحقيق، وله في حالة الاستعجال أن يباشر بعض إجراءات التحقيق في غيبة الخصوم، ولهؤلاء الحق في الاطلاع على الأوراق المثبتة لهذه الإجراءات. ويحق للخصوم اصطحاب وكلائهم في التحقيق”.
– هذا بخلاف عدم السماح للمحامين بالتحدث إلا بإذن من وكيل النيابة والاكتفاء بتقديم دفاع مكتوب، كما تشير المادة 72 التي تنص على أنه: “يجوز للخصوم ووكلائهم أن يقدموا إلى عضو النيابة العامة الدفوع والطلبات التي يرون تقديمها، وفيما عدا ذلك لا يجوز لوكيل الخصم الكلام إلا إذا أذن له وكيل النيابة العامة، فإذا لم يأذن وجب إثبات ذلك في المحضر”، وهو ما يعتبر انتهاكًا صارخًا لأبجديات حق الدفاع وحريات الأفراد.
نسف لمعايير النزاهة في التقاضي
عبّر العديد من المحامين والمهتمين بالشأن الحقوقي عن غضبهم من مشروع القانون المقدم للبرلمان، معتبرين أنه نسف وتقويض لحق المتهم في التقاضي وفق معايير العدالة والنزاهة المطلوبة، وأنه يمنح السلطات دورًا وصلاحيات تتعارض شكلًا ومضمونًا مع حقوق المواطنين وتضع حرياتهم على المحك.
بدوره يرى المحامي الحقوقي، نبيه الجنادي، أن مشروع القانون أكبر من أن يناقش داخل البرلمان فقط، مطالبًا بفتح سلسلة نقاشات مجتمعية موسعة تستغرق وقتًا كافيًا لمراجعته وتعديله، وأضاف في حديثه لـ”الحرة” أن القانون ملغم بالكثير من المواد الكارثية منها أن “أحد البنود ينص على منح صلاحيات واسعة لمأموري الضبط القضائي في التحقيق مع المتهمين واستجوابهم، وهذا ما لم يكن موجودًا قبل ذلك، إذ كنا ندفع بأن إجراءات التحقيق تتم في ظل احتجاز غير قانوني، وبالتالي فإن كل الاعترافات نتيجة للإكراه المادي أو المعنوي”، وعليه وفي حال تنفيذ تلك البنود، وتحديدًا في ما يتعلق بالمتهمين المحتجزين على خلفية قضايا سياسية، فإن ذلك سيساعد في تقنين الانتهاكات بحق هؤلاء المتهمين، ويجعل جهة الضبط هي الخصم والحكم في آن واحد.
ومن المواد التي تضمنها القانون وتسبب خللًا كبيرًا في مسار العدالة، بحسب الجنادي، ما يتعلق بالمحاكمات الإلكترونية، موضحًا أنه “منذ حوالي سنتين، أصدر وزير العدل قرارًا بنظر أمر تجديد الحبس إلكترونيًا، وكان الأمر مقتصرًا فقط على تجديد الحبس، لكن مشروع القانون الجديد يعطي الحق في توسعة الأمر إلى إجراءات المحاكمة نفسها”، لافتًا إلى أنه “من خلال القانون الجديد، يمكن للقاضي نظر القضية عن بعد إذا أراد ذلك، وهذا أمر يخل بضمانات المحاكمة وبحق المتهم في حضور جميع إجراءات ومراحل التقاضي قبل صدور الحكم عليه”، هذا بخلاف “عدم إلزام جهات التحقيق بتسليم أوراق وملف القضية لمحامي المتهم، وهذا ما يخل بأساس عدالة التقاضي”، من وجهة نظره.
التخوفات ذاتها عبر عنها المحامي وأستاذ القانون في جامعة باريس، علي النبوي، والذي لفت إلى أن “العديد من النصوص يصيبها العوار الشديد، وغير واضحة، وتحتاج إلى مراجعات دقيقة حتى لا تكون متروكة للتفسيرات والتأويلات المختلفة”، مستعرضًا أبرز البنود الجدلية التي تقوض العدالة وتمنح السلطات صلاحيات غير مسبوقة، منها إضافة أشخاص جدد للضبط القضائي الذي يمنحهم الحق في القبض على المواطن دون إذن نيابة لتشمل: ضباط الشرف، ومراقبي ومندوبي الشرطة، وضباط الصف ومعاوني الأمن بقطاع الأمن الوطني والأمن العام بوزارة الداخلية، هذا بخلاف رفع رسوم إعادة المحاكمة من 200 جنيه إلى 10 آلاف جنيه، وهي كارثة بكل المقاييس في وجه المواطن البسيط، ما يقوض العدالة، على حد قوله.
انتفاضة الصحفيين والمحامين
مناقشة القانون داخل البرلمان دون الاستعانة بآراء نقابتي الصحفيين والمحامين، بصفتهما الأكثر اشتباكًا معه، أثار حفيظة الكيانين ومنتسبيهما، حيث طالبا بإرجاء البت في المشروع لحين عرضه على المناقشة المجتمعية داخل مؤسسات المجتمع المدني ودراسته باستفاضة تسمح بالتوافق حول بعض بنوده وحسم الجدل بشأنها.
بدورها طالبت نقابة المحامين مجلس النواب بعرض مشروع قانون الإجراءات الجنائية على مجلس الشيوخ لمزيد من المناقشة وفقًا لما أجازه له الدستور والقانون، مؤكدة على اعتبار مجلس النقابة العامة والنقباء الفرعيين في حالة انعقاد دائم لمتابعة الموقف واتخاذ ما يلزم من إجراءات وقرارات، لافتة إلى أن بعض النصوص التي تضمنها المشروع أثارت لغطًا وجدلًا كبيرين في الأوساط القانونية بسبب توسع سلطات الضبط والتحقيق والمحاكمة على حساب حق الدفاع، والمساس بحقوق جوهرية للدفاع مقررة ومستقرة بموجب الدساتير والقوانين المتعاقبة والمواثيق الدولية.
من جانبه، أرسل نقيب الصحفيين المصريين، خالد البلشي، خطابًا إلى نقيب المحامين، عبد الحليم علام، أعلن فيه تضامن نقابته مع موقف نقابة المحامين، داعيًا إلى مناقشته في إطار حوار مجتمعي واسع، مؤكدًا على أهمية العمل المشترك لخروج القانون بشكل يصون حقوق المجتمع والأفراد، ويكفل حريتهم في إجراءات تقاضي عادلة، وكذلك حقوق الصحافيين في ممارسة عملهم.
وشدد البلشي في خطابه على ضرورة “طرح المشروع لحوار مجتمعي شامل، تشارك فيه كل أركان منظومة العدالة، والمواطنين، وممثليهم والمؤسسات المعنية بالحقوق العامة”، محذرًا في الوقت ذاته من “خطورة تمرير القانون دون نقاش عام، وهو ما سيمثل انعكاسًا لخلل كبير، وآثاره ستكون وخيمة على الجميع”.
في ضوء ما سبق يتضح أن مشروع القانون المقدم حاليًا والذي وافقت عليه الحكومة حتى قبل الانتهاء من مناقشته برلمانيًا ومجتمعيًا، في حقيقته حلقة في سلسلة توسيع السلطات الحالية لسلطتها وهيمنتها على المشهد وتقويض حق المواطنين في المحاكمات العادلة، بما يشرعن تغولها على المجال العام والخاص على حد سواء، مستعينة في ذلك ببرلمان تم هندسته بشكل دقيق لتمرير كل ما يريده النظام دون نقاش أو اعتراض.