ترجمة وتحرير: نون بوست
ديفيد لاروسيري وستيفان فوكار
يبدو أن العلم بدوره لم يعد في منأى عن التزوير، بعد أن ارتفعت وتيرة نشر “المعلومات المضللة” في البحوث العلمية العالمية بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية، ولا يوجد أي دليل على إيقاف نشر هذا النوع من البحوث. يقع نشر هذه “العلوم الزائفة” بالتعاون مع قرابة 15 وسيلة إعلامية عالمية، من بينها هيئة إذاعة شمال ألمانيا، وصحيفة زود دويتشه تسايتونغ، وصحيفة نيويوركر، وصحيفة أفتنبوستن. وقد أجرت صحيفة “لوموند” تحقيقا حول تداعيات هذه الظاهرة، التي لا تستثني فرنسا.
لكن السؤال المطروح، ما هي العلوم الزائفة؟ منذ عقود، أسست العشرات من دور النشر التي تفتقر للدقة، على غرار أوميك وسيونس دومان الهندية وواسيت التركية وسيونتفيك ريسورش بوليشنغ الصينية، مئات المجلات مفتوحة المصدر وذات الاسم الرنان، على الرغم من توفر العديد من المجلات العلمية المهتمة بهذه المجالات.
في الحقيقة، لا تملك هذه المجلات لجنة مختصة في تحرير المقالات العلمية، ناهيك عن أنها تفرض على الباحثين رسومًا قد تصل إلى مئات اليوروهات على كل مقال، قبل أن تنشر “الأعمال” دون أي مراجعة. ولا تخضع هذه المقالات البحثية التي تُنشر على هذا النوع من المجلات العلمية لمراجعة النظراء، وهو إخلال واضح لعملية مراقبة الجودة قبل نشر أي مقال علمي، على الرغم من أنها تعد واحدة من الخطوات الرئيسية في بناء العلوم.
تتعدد دوافع الباحثين لنشر “العلوم الزائفة”، انطلاقا من نشر المعلومات الكاذبة حول الترويج لبعض الأدوية مرورا بنشاط الاحتباس الحراري وإثارة الجدل حول استخدام اللقاح
يتم اعتماد الآلية ذاتها في التعامل مع المؤتمرات العلمية، حيث يتم تلقي الملفات عن طريق البريد الإلكتروني، ويقوم الباحثون بالمراجعة مقابل تلقيهم أجرا لقاء عملهم. وفي الغالب، لا يحضر الكثير من الأشخاص للمؤتمرات التي تقدم معلومات زائفة.
نشر دراسة من ضرب الخيال
تتعدد دوافع الباحثين لنشر “العلوم الزائفة”، انطلاقا من نشر المعلومات الكاذبة حول الترويج لبعض الأدوية مرورا بنشاط الاحتباس الحراري وإثارة الجدل حول استخدام اللقاح، أو حتى مجرد الرغبة في “تضخيم” ملفات السيرة الذاتية. وخلال سنة 2014، تم عرض “الأعمال” المنشورة في مثل هذه المجلات المزيفة داخل أروقة الأكاديمية الفرنسية للعلوم للتشكيك في مسؤولية الإنسان في تغير المناخ الحالي …
فعلى سبيل المثال، قام صحافيون من إذاعة شمال ألمانيا وزود دويتشه تسايتونغ بدفع المال لقاء تقرير نشر في صحيفة “جورنال أوف إنغراتيف أونكولوجي” أعدته مؤسسة أوميك. ويفيد هذا التقرير بأنه قد تم التوصل إلى نتائج دراسة سريرية تبين أن مستخلص البروبوليس يعتبر أكثر فعالية في معالجة سرطان القولون أكثر من العلاج الكيميائي التقليدي.
فيما بعد، تبين أن هذه الدراسة كانت خيالية، وأن البيانات التي تم نشرها لا تمت للواقع بصلة، وأن المساهمين في الدراسة كانوا ينتمون إلى معهد أبحاث وهمي. ومع ذلك، تمت الموافقة على نشر الدراسة في أقل من عشرة أيام، وقد صدرت رسميا يوم 24 نيسان/ أبريل. بعد ذلك، تتالت الاتهامات لصحافيي مؤسسة أوبيك بالتورط في نشر معلومات علمية مغالطة، الأمر الذي أجبرهم على سحب التقرير، إلا أنه لا زال متوفرا في الذاكرة المخبأة لغوغل.
في دراسة نشرت سنة 2015 في مجلة “بي إم سي ميدسين”، قدر الباحثان سيني شين وبو- كريستير بيورك (من مدرسة هانكين للاقتصاد في هلسنكي) أنه يوجد ما يقارب ثمانية آلاف مجلة متوحشة نشطة سنة 2014
كان الموثق الأمريكي جيفري بيل، من مكتبة أورورا في دنفر من ولاية كولورادو، أول من نشر لائحة “المجلات المتوحشة”، بين سنة 2012 وسنة 2017. ويعتمد العديد من الباحثين في ساينتومترك اليوم على هذه اللائحة. وقد حدد جيفري بيل أسماء ما لا يقل عن 11 ألف مجلة علمية مشكوك في مصداقيتها. وقد أثارت هذه اللائحة جدلا واسعا نظرا لوجود منطقة رمادية بين المجلات سيئة السمعة والمنشورات الاحتيالية.
قرابة ثمانية آلاف من “المجلات المتوحشة” نشطة
في دراسة نشرت سنة 2015 في مجلة “بي إم سي ميدسين”، قدر الباحثان سيني شين وبو- كريستير بيورك (من مدرسة هانكين للاقتصاد في هلسنكي) أنه يوجد ما يقارب ثمانية آلاف مجلة متوحشة نشطة سنة 2014. ووفقا للباحثين، تضاعف عدد المقالات العلمية المشكوك في صحتها ثماني مرات بين سنتي 2010 و2014، أي من 50 ألف مقال إلى قرابة 400 ألف مقال.
إن هذه المقالات متوفرة مجانًا على الويب، ويتم فهرستها في بعض الأحيان من خلال قواعد بيانات واسعة تتكون من المؤلفات العلمية، على غرار شبكة العلوم وسكوبس وغوغل سكولار. ويبدو أنها قد أثارت إشكالا بسبب قواعد البيانات التي تستخدم من قبل المجتمع العلمي، وخلايا التفكير، والإدارات.
حيال هذا الشأن، ذكر مدير مركز ساينتومترك التابع للمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، إيفان ستيرليغوف، أنه أجرى إحصائية شملت “المجلات التي يمكن أن تكون متوحشة” التي تنشط في مركز سكوبس. وحسب ما توصل إليه من نتائج التي عرضها في مؤتمر مع الاستعداد لنشرها، تبين أنه تم نشر أكثر من 60 ألف تقرير مغالط سنة 2015، أي ما يعادل ثلاثة بالمائة من إجمالي التقارير المفهرسة في قاعدة البيانات التي يديرها العملاق الأنغلو-هولندي للنشر العلمي “إلزيفير”.
بالنسبة لإيفان ستيرليغوف، تتوفر في قاعدة البيانات مقالات منشورة في مجلات من المؤكد أنها تنتمي للائحة المجلات الموحشة التي لم يستشهد بها الآخرون كثيرا
بناء على ذلك، يقدر المتحدث باسم شركة “كلاريفرت أناليتيك” المختصة في إدارة قاعدة بيانات شبكة العلوم أن “هذه مشكلة كبيرة ولا تظهر أي علامات تدل على الحد منها. ويمكن أن تتسبب هذه الظاهرة في نتائج خطيرة، تشمل النزاهة العلمية ونشر البحوث في بيانات خاطئة أو مشكوك في صحتها”. كما يتم إطلاق القواعد الكبرى في مجال البحث عبر مجلات زائفة، حيث قامت شبكة العلوم مؤخراً بتفريغ فهرسها البالغ 112 مجلة.
عبء يثقل كاهل المالية العامة
بالنسبة لإيفان ستيرليغوف، تتوفر في قاعدة البيانات مقالات منشورة في مجلات من المؤكد أنها تنتمي للائحة المجلات الموحشة التي لم يستشهد بها الآخرون كثيرا، وهذا يؤكد أن “ما يسعى إليه [الذي ينشر في هذه المجلات] هو زيادة خطوط إضافية لقائمة المنشورات بهدف تلميع سيرتهم الذاتية”.
وفقا للأعمال التي قام بها إيفان ستيرليغوف، فإن الأرقام عالية جدا في بعض الأحيان. ففي كازاخستان، اكتشف سنة 2013 أن 50 بالمائة من الإنتاج العلمي منشور في مجلات مشكوك في مصداقيتها. وقد بلغت هذه النسبة في إندونيسيا 32 بالمائة سنة 2015، وقد تجاوزت سنة 2017 عتبة 30 بالمائة مقابل 15 بالمائة، فيما تبلغ النسبة في الدول الأوروبية أقل من واحد بالمائة.
على ضوء هذه المعطيات، فرضت كل من الصين وإيران في الآونة الأخيرة على علمائها قواعد تحد من الاعتماد على هؤلاء الناشرين. وفي المجمل، يعد الطب والهندسة والصيدلة من أكثر المجالات تأثرا بهذه الظاهرة. ومن الواضح أن نشر هذا العلم الزائف يثقل كاهل المالية العامة للبلدان الأكثر تأثرا به، حيث تغذي المختبرات العامة إيرادات الناشرين المزيفين.
في الولايات المتحدة الأمريكية، أطلقت لجنة التجارة الفيدرالية دعوى قضائية ضد مؤسسة أوميكس تتهمها فيها بالتضليل
في هذا الصدد، أفاد مارين داكوس، مستشار وزيرة التعليم العالي والبحث والابتكار الفرنسية، فريدريك فيدال، المختص في “العلم المنفتح” أنه “بشكل عام، من المرجح أن تكون تكلفة المؤتمرات المغالطة أكثر من تكلفة التقارير المغالطة، لأنه إلى جانب التسجيل لحضور المؤتمر، هناك العديد من التكاليف المرتبطة به على غرار السفر والإقامة”.
في الولايات المتحدة الأمريكية، أطلقت لجنة التجارة الفيدرالية دعوى قضائية ضد مؤسسة أوميكس تتهمها فيها بالتضليل. ووفقا لمذكرة المحامين المرافعين عن لجنة التجارة الفيدرالية، بلغت إيرادات الشركة أكثر من 50 مليون دولار، أي ما يعادل 43 مليون يورو، بين سنتي 2011 و2017. وخلال استجوابه أمام أعضاء لجنة التحقيق في التعاون في نشر أخبار زائفة، استمات مدير مؤسسة أوميكس في الدفاع عن نشاط مؤسسته.
المصدر: لوموند