ترجمة وتحرير: نون بوست
تجسد مسيرة العودة الكبرى، التي انطلقت منذ أكثر من ثلاثة أشهر، تحولا في النضال الوطني الفلسطيني، خاصة في الأراضي الساحلية المحاصرة. فبعد حرب غزة سنة 2014، اعتقدت الحكومة اليمينية الإسرائيلية أنها نجحت في إخماد المقاومة.
في الواقع، أدى الدمار الذي لحق بغزة سنة 2014، بما في ذلك سقوط آلاف القتلى والجرحى إلى جانب الأضرار الجسيمة التي شملت البنية التحتية، إلى تفاقم المشاكل التي يعاني منها قطاع غزة الناجمة عن الاعتداءات الإسرائيلية السابقة خلال سنة 2008 و2012. وما زاد الطين بلة، الحصار المستمر على غزة الذي أدى إلى عرقلة عملية إمداد المنطقة بالسلع والحد من الحركة التجارية، كما تم فرض قيود على تنقل الأفراد. وقد أعاقت هذه الوضعية عمليات الإنتاج والتطوير في غزة، ما جعل السوق الاستهلاكية في القطاع المحاصر مقيدة، حيث بات المواطنون يعتمدون بشكل أساسي على مساعدات الأمم المتحدة.
تعثر عملية إعادة الإعمار
تسلط مسيرة العودة الكبرى الضوء على رفض الفلسطينيين الإنكماش والخضوع، بينا تبذل حكومة نتنياهو جهودا حثيثة لكتم أصواتهم. وقد اتخذت إسرائيل عدة خطوات في محاولة منها لإخضاع الفلسطينيين، بما في ذلك عرقلة عملية إعادة الإعمار من خلال منع استيراد مواد البناء.
إلى جانب الانقسام الداخلي بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية التي تتخذ من رام الله مقرا لها، تصارع غزة تداعيات تلوث المياه وغياب المرافق الطبية ونقص إمدادات الكهرباء
في الحقيقة، تتجلى الأزمة في قطاع غزة في الارتفاع غير المسبوق لمعدلات الفقر والبطالة. وقد طالت البطالة نصف سكان القطاع، في حين بلغ معدل الفقر 80 بالمائة. ويتخرج الآلاف من الطلبة من الجامعات الفلسطينية في غزة سنويا، دون توفر مواطن الشغل، في خضم الكارثة الإنسانية المستمرة والوهن الشديد الذي يشهده القطاع الخاص.
إلى جانب الانقسام الداخلي بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية التي تتخذ من رام الله مقرا لها، تصارع غزة تداعيات تلوث المياه وغياب المرافق الطبية ونقص إمدادات الكهرباء التي لا تكون متاحة سوى لبضع ساعات في اليوم. لقد تحول قطاع غزة إلى “سجن مفتوح” كبير، لن يكون صالحا للعيش خلال العامين المقبلين، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
على صعيد آخر، عززت مسيرة العودة الكبرى الوحدة في مواجهة تحديات مماثلة، فقد جمعت بين القوى السياسية والاجتماعية من جميع الأطياف. كما دعمت هذه الحركة التضامن الدولي وأضافت زخما لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، مما جعل القضية الفلسطينية محط أنظار العالم مرة أخرى بعد أن تم تهميشها لفترة طويلة جدا وسط الاضطرابات الإقليمية.
قتل بدم بارد
كشفت حركة الاحتجاج في غزة للعالم بأسره، مدى وحشية قوات الاحتلال، حيث يُعتبر الجميع في القطاع المحاصر هدفا محتملا بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ وموظفي المساعدة الطبية والصحافيون. وخلال الأسابيع الأخيرة، قتل وجرح العديد من المتظاهرين، مما يؤكد انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة من الجانب الإسرائيلي.
ساهم الرد الإسرائيلي الشديد على مسيرة العودة الكبرى إلى تقوية عزيمة الحركة
لطالما حاولت حكومة الاحتلال تشويه سمعة المتظاهرين السلميين، الذين أرسل بعضهم طائرات ورقية مشتعلة تتجاوز السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل. وقد حاولت إسرائيل تقديم الطائرات الورقية، التي أضرت ببعض حقولها، بصفتها أدوات قتالية عسكرية عنيفة تستحق هجوما جويا انتقاميا ساحقا.
في المقابل، ساهم الرد الإسرائيلي الشديد على مسيرة العودة الكبرى إلى تقوية عزيمة الحركة. وقد انتشرت المقاومة في مختلف المناطق في الضفة الغربية ومناطق الشتات، مما سلط الضوء على قوة الإرادة الفلسطينية الوطنية في وجه عملية التهجير التي يحركها الاحتلال والانقسام الجغرافي.
محتجون فلسطينيون يتجمعون بجوار سياج غزة في الثالث من تموز/ يوليو سنة 2018.
في الأثناء، تحاول إسرائيل تصعيد الضغط الاقتصادي على غزة من خلال غلق معبر كرم أبو سالم الحدودي، البوابة التجارية الوحيدة في غزة. ويتزامن هذا الضغط العسكري والاقتصادي الذي تسلطه إسرائيل على القطاع مع التحركات الإقليمية والاقتصادية التي تهدف ظاهريا إلى التخفيف من حدة التوتر ومنع اندلاع حرب جديدة في قطاع غزة.
خلال مؤتمر صحفي عقد مؤخرا في غزة، أعلن المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، عن خطة للنهوض بالاقتصاد والتخفيف من وطأة معاناة السكان. كما تعمل قطر على لعب دور الوسيط لعقد هدنة في غزة تتضمن إمكانية تبادل الأسرى، بينما تواصل الولايات المتحدة الأمريكية الترويج “لصفقة القرن”.
العقاب الجماعي
يعتقد العديد من المراقبين أن توخي تدابير مماثلة من شأنه أن يعالج النتيجة عوضا عن سبب الأزمة. ويكمن سبب التدهور الاقتصادي في غزة في الحصار المشدد والاحتلال الإسرائيلي. ويجب على المجتمع الدولي أن يسلط ضغوطا أكبر على دولة الاحتلال لفك الحصار الذي يشكل عقوبة جماعية.
بناء على ذلك، قد تؤدي المشاريع الإنسانية إلى إحداث تحسينات مؤقتة في غزة. ولكن، في ظل غياب حل أشمل لرفع الحصار، سرعان ما ستتلاشى المنافع المتأتية من هذه المشاريع. فالتنمية الحقيقية تتطلب حرية حركة البضائع والأشخاص داخل دولة مستقلة تتمتع بحق تقرير المصير، وغير ذلك يعتبر ترضية.
تنعكس عقلية الهيمنة والغطرسة الإسرائيلية في الإرادة الإسرائيلية الرامية إلى فرض حصار دائم وارتكاب انتهاكات دائمة في حق الفلسطينيين
تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل فرضت على غزة أجواء الحرب، حيث يلوح كل يوم تهديد بشن هجوم جديد. وتهدف الغارات الجوية على مواقع في غزة، التي أطلقت تحت ذريعة الانتقام من الطائرات الورقية الفلسطينية، إلى إنهاء الحركة الاحتجاجية دون مواجهة المطالب الفلسطينية حول حق العودة أو رفع الحصار. وتريد إسرائيل من الفلسطينيين إعطاء الأولية للقضايا الاجتماعية والاقتصادية على حساب القضايا الوطنية والقانونية، لكن هذه المسائل متشابكة.
تنعكس عقلية الهيمنة والغطرسة الإسرائيلية في الإرادة الإسرائيلية الرامية إلى فرض حصار دائم وارتكاب انتهاكات دائمة في حق الفلسطينيين. ويجب على المجتمع الدولي تسليط المزيد من الضغوط على إسرائيل لإنهاء هذا الحصار، بدلا من البحث عن إصلاحات اقتصادية جزئية تهدف إلى مساعدة غزة على الصمود في ظل الصراع والتأقلم مع حقيقة أنها باتت سجنا ضخما.
المصدر: ميدل إيست آي