كمواطن عراقي من مدينة الموصل يدرك جيدًا ردة فعل المحافظات الستة التي انتفضت على سياسات حكومة المالكي من كلمة “تظاهر”، فالجراح التي خلفتها حقبة داعش في قلوب تلك المدن وأهلها ما زالت رطبة وكافية لخلق حالة من “الفوبيا” ضد أي احتشاد جماهيري للمطالبة بأي طلب من الحكومة حتى إن كان هذا الطلب ماءً صالحًا للشرب أو ساعة تجهيز كهرباء إضافية في صيف لاهب تجاوزت درجات حرارته الخمسين مئوية.
يبدو أن درس داعش القاسي والدموي روض الناس في تلك المدن لدرجة أنها تهاجم أي شخص يطالب بحقوقه عن طريق الحراك الشعبي أو التظاهر، فالصورة النمطية المزروعة في عقول وقلوب أهالي تلك المدن هي أن الموت والدمار والتهجير نتيجة حتمية لكل حركة احتجاجات كبيرة وواسعة ومؤثرة، لذلك يعتبرون أن ما يحدث في الجنوب العراقي يشبه الانتحار الحتمي المجرب من قبلهم.
الموقف الأخلاقي الداعم للمظاهرات السلمية المشروعة ذات المطالب الوطنية يجب أن لا يوضع ضمن حسابه نجاح المظاهرات في تغير الواقع من عدمه، فالمواقف الأخلاقية تتطلب الانحياز المطلق للحق لا للمنتصر، رغم أهمية الأخذ بالأسباب لإنجاح أي حراك مشروع
لا يمكن أن تلوم الناس على موقفها بعد الذي واجهته في سنواتها العجاف الماضية، لكن النخبة المجتمعية مطالبة بموقف أخلاقي تجاه ما يحدث في وسط وجنوب العراق، إذ لا يوجد عاقل يرفض فكرة أن الاحتجاجات السلمية في جنوب ووسط العراق حق مشروع عرفًا وقانونًا والمطالب التي أطلقها المتظاهرون مشروعة 100% وهي مطالب عراقية بامتياز.
فالعراق منذ سنوات يعاني عجزًا هائلاً في ملف الخدمات والبطالة ومحاربة الفقر والأمية، وكل هذا يتسبب فيه عامل مشترك أكبر وهو الفساد، إضافة لوجود فارق أن الحكومة العراقية والأحزاب الحاكمة وليدة المناطق التي اندلعت منها الاحتجاجات؛ لذلك يمكن القول إنها الأقدر على محاسبة فاسديها.
الموقف الأخلاقي الداعم للمظاهرات السلمية المشروعة ذات المطالب الوطنية يجب أن لا يوضع ضمن حسابه نجاح المظاهرات في تغير الواقع من عدمه، فالمواقف الأخلاقية تتطلب الانحياز المطلق للحق لا للمنتصر، رغم أهمية الأخذ بالأسباب لإنجاح أي حراك مشروع.
من تظاهرات ساحة التحرير وسط العاصمة العراقية بغداد
خاصة أن التظاهرات هذه المرة عفوية تحت لافتة عراقية لا مدنية ولا علمانية، لا إسلامية لا وصدرية، لا حزبية ولا شيوعية، عراقية فقط، أناس أخرجهم الجوع والظلم ونقص الخدمات وتسلط الفاسدين وسلب حقوقهم منذ 15 عامًا، جموع من المحتجين الصادقين لا يمتلكون داعمًا إقليميًا في خروجهم ولا غطاءً دوليًا، هذا الأمر يجعل الانحياز لهم والوقوف معهم واجبًا وطنيًا وخيارًا عقلانيًا لكل منصف.
الإخفاق المتكرر في تحصيل المطالب المشروعة وعدم تحققها رغم تكرار المطالبة بها لا يفقدها مشروعيتها بالتقادم، فما زالت أحلام العراقي بالاستفادة من خيرات بلاده والعيش بأمان ورفاهية وكرامة مطالب مشروعة وتتطابق مع العرف والشرع والقانون
لم يكن الماء الذي يحمله منقار الحمامة الصغيرة ليخمد النار الهائلة التي قُذِف سيدنا إبراهيم عليه السلام فيها، لكنه موقف أخلاقي بامتياز للانحياز لجانب الحق مهما كانت النتائج، فالحمامة نقلت الماء لإطفاء الحريق وهي موقنة أن ما تفعله لن يقدم أو يؤخر لكنه الموقف لله ثم للتاريخ، كذلك لم يعصم الحر الرياحي انحياز سيفه للحسين بن علي من تغير أي شيء في معادلة كربلاء لكنه انحياز للحق حتى إن كان هذا الانحياز غير مؤثر أو الحق لن ينتصر في معركته.
الإخفاق المتكرر في تحصيل المطالب المشروعة وعدم تحققها رغم تكرار المطالبة بها لا يفقدها مشروعيتها بالتقادم، فما زالت أحلام العراقي بالاستفادة من خيرات بلاده والعيش بأمان ورفاهية وكرامة مطالب مشروعة وتتطابق مع العرف والشرع والقانون.
الوقوف في كفة الفقراء والمظلومين من المحتجين ضد طبقة سياسية فاسدة تمتلك المال والسلاح والإعلام والنفوذ والسلطة والغطاء الدولي وطبقة من الاتباع المستفيدين ماديًا منها، قرار خاطئ من الناحية البراغماتية المصلحية البحتة، لكنه قرار أخلاقي بامتياز يحفظ للطبقة المثقفة ما تبقى لها من كرامة في أعين الناس بعد صمت دام 15 عامًا على سياسات أودت بالعراق إلى ما نشاهده اليوم.