فجر 28 أغسطس/ آب 2024، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي إطلاق عملية عسكرية واسعة ومتزامنة تستهدف مخيمات في شمال الغربية، وبشكل أساسي في جنين وطولكرم وطوباس، بعد أسابيع من تحذيرات تضخ بها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن الضفة على حافة الانفجار، وأن قدرات المقاومة في تصاعد، وأن العمليات الاستشهادية التي أعلنت كتائب القسام عن عودتها لن تكون مجازًا، بل حقيقة تعيد الرعب إلى الأراضي المحتلة.
وبينما لم يطلق الاحتلال رسميًا على العملية اسمًا معيّنًا، أفاد المراسل العسكري لـ”القناة 14″ الإسرائيلية أن جيش الاحتلال أطلق على عمليته في شمال الضفة المحتلة اسم “المخيمات الصيفية”، هذا الاسم الذي لا يحمل أبعادًا توراتية دينية كما كل أسماء العمليات العسكرية الإسرائيلية، لكنه قد يعكس رغبة الاحتلال في إضافة حرّ نيرانه إلى حرّ الصيف الشديد على مخيمات الضفة، وأنه وكما يتعارف عربيًا بفعاليات المخيمات الصيفية لتأديب طباع الفتوة والشباب، فإن “المخيمات الصيفية” الإسرائيلية تعني تلقين الفلسطينيين درسًا بفرض عقاب جماعي عليه.
شمال الضفة بعد السابع من أكتوبر
في اليوم الأول للاشتباك في عملية “المخيمات الصيفية”، استطاع المقاومون في شمال الضفة المحتلة تفجير أكثر من 20 عبوة ناسفة بجنود الاحتلال في مدينة جنين، كانوا قد زرعوها مسبقًا في أزقة وطرقات المدينة، فيما أعطب المقاومون آليات وجرّافات للاحتلال في جنين وطوباس وطولكرم، وأعلن الاحتلال إصابة جنديَّين على الأقل خلال العملية.
منذ أبريل/ نيسان 2022، بدأ المقاومون في شمال الضفة المحتلة تطوير سلاحهم البسيط الذي بدأ بأكواع صغيرة استخدمها مقاومو مخيم جنين أثناء تصديهم لقوات المشاة المتقدمة إلى زقاق المخيم، وقد كانت العبوات تُحدث آنذاك انفجارات صوتية، وتشعل نيرانًا بسيطة، وانتقلوا إلى سلاح هذه المرحلة هو العبوات محلية الصنع.
وتشكّل العبوات الناسفة التحدي الأبرز لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، بعد تحقيقها خسائر جسيمة في آليات الاحتلال المدرعة، والتي يستخدمها أثناء الاقتحامات، إضافة إلى وقوع قتلى وجرحى من جنود الاحتلال جرّاء وقوعهم بكمائن العبوات الناسفة، التي يعدّها المقاومون في المناطق التي تمرّ منها آليات الاحتلال.
تطوّرَ تصنيع العبوات بشكل واضح، يُشرف على تصنيعها وحدات خاصة، ويشارك في إعدادها وتعبئتها “فتية العبوات”، وتحوي داخلها بارودًا ومواد سريعة الانفجار ومسامير، وتُثبَّت في أماكن تباغت الاحتلال، ويتم تفجيرها عن بُعد لتُشعل آليات الاحتلال وتعطب مدرعاته المصفحة، وتقتل جنود الاحتلال أحيانًا، كما فعلت في سهل مرج بن عامل، حين أعلن عن مقتل ضابط وإصابة 16 آخرين، ومقتل قائد مدرعة النمر وإصابة ضابط في تفجير عبوة ناسفة بمدرعة النمر في مخيم نور شمس في مطلع تموز/ يوليو 2024.
تصف صحيفة “معاريف“ العبرية أن العبوات الناسفة تحولت إلى حالة في شمال الضفة، وأن جيش الاحتلال استعجل بإدخال مصفحاته إلى هذه المناطق، قبل إيجاد حلول لكابوس العبوات الذي يطارد جيش الاحتلال، ناهيك عن تخوفات جيش الاحتلال من استخدام هذه العبوات باستهداف حافلات المستوطنين وسياراتهم، الأمر الذي “سيزيد سفك الدماء” على حد تعبير إعلام الاحتلال.
لا بدَّ من التذكير بما نقلته وسائل إعلام عبرية قبل أسابيع من العملية، عن “مسؤولين في الأجهزة الأمنية الفلسطينية” قولهم إن “حماس والجهاد الإسلامي قد تتمكنان من الحصول على صواريخ” خلال الشهور المقبلة، في ظل “عمليات التهريب المستمرة للسلاح” نحو الضفة المحتلة، خاصة مع محاولات خلايا للمقاومة خلال الأعوام الماضية لتطوير صواريخ، كما في حالة خلايا القسام في جنين التي أطلقت صواريخ نحو مستوطنات في محيط المدينة.
بين “السور الواقي” و”المخيمات الصيفية”
هذه العملية التي أعلن عنها الاحتلال بالضفة، يصفها بالعملية الأوسع منذ عملية “السور الواقي” عام 2002، ودفع لذلك عشرات الآليات والجرافات العسكرية و1000 جندي يساندهم سلاح الجو إلى مخيمات جنين والفارعة في طوباس ونور شمس في طولكرم، في محاولة للقضاء على المقاومة المسلحة فيها وإرباك حاضنتها الشعبية التي لم يقدر الاحتلال يومًا على زعزعتها.
قد تكون من المبالغة الإسرائيلية وحرب الإعلام النفسية وصف العملية بنسخة جديدة من “السور الواقي”، ففي عودة إلى هذا العدوان عام 2002 خلال “انتفاضة الأقصى”، واجه الفلسطينيون فيه دمارًا واسعًا وحصارًا خانقًا وقصفًا مكثفًا بالطيران الحربي، وتوغلًا بريًا واسعًا في مخيمات شمال الضفة المحتلة، وقتلًا مباشرًا لكل ما يتحرك.
ورغم تشابه الماضي بالحاضر، وقتل الفلسطينيين دون أي رادع، إلا أن العملية على وسعها لم ترقَ إلى عملية “السور الواقي” فيما يظهر عليها بعد دخول يومها الثاني، بل إن الفلسطينيين أكدوا أن الاقتحامات التي نفّذها الاحتلال الإسرائيلي والاجتياحات بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في طوباس وجنين وطولكرم، والاجتياح الواسع في مخيم جنين في يوليو/ تموز 2023، كان أشد وطأة وأكثر دمارًا ودموية من العملية الحالية.
تتشابه “المخيمات الصيفية” بـ”السور الواقي” بشنّ الاحتلال عدوانه على المخيمات بالتزامن، وهو ما وضحته وسائل إعلام إسرائيلية خشية “إسرائيل” من انتقال المقاومين من مخيم إلى مخيم، فتخرج خاوية اليدَين بلا مكتسبات كبيرة.
كما تعمّد الاحتلال خلال هذا العدوان استهداف رموز شعبية في المقاومة الفلسطينية، مثل الشهيد محمد الجابر (أبو شجاع) الذي اغتالته رفقة اثنين من المقاومين في ساعات الفجر، خلال عملية تسلُّل خاصة إلى مخيم طولكرم، كما فعل في “السور الواقي” حين اغتال يوسف كبها (أبو جندل) في مخيم جنين.
وتتشابه العمليتان في مزاعم الاحتلال لمسبباتهما، فبينما كانت عملية الشهيد عبد الباسط عودة من مدينة طولكرم الاستشهادية في نتانيا هي السبب الرئيسي لعدوان 2002، والتي أسفرت عن مقتل 30 إسرائيليًا وإصابة 146 آخرين، جاءت “المخيمات الصيفية” بعد عملية جعفر منى الاستشهادية في “تل أبيب”، والتي أعلنت كتائب القسام وسرايا القدس فيها عودة العمليات الاستشهادية خلال “طوفان الأقصى”.
إرضاء الصهيونية الدينية
خلال “طوفان الأقصى”، تصاعدت التصريحات الإسرائيلية الداعية إلى ممارسة الإبادة الجماعية في الضفة الغربية كما في قطاع غزة، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وهو ما يتحقق بالفعل بشكل صامت مع تهجير نحو 4 آلاف و600 فلسطيني من أراضيهم في الضفة الغربية لصالح توسع استيطاني كبير، تقوده الصهيونية الدينية في “إسرائيل” بزعامة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش.
تيار الصهيونية الدينية يرى في الضفة الغربية المحتلة التي يسمّيها “السامرة” استنادًا إلى عقائده التوراتية، مكانًا لتطبيق أفكاره حول “الخلاص” الديني، ولها مكانة “دينية” في المفاهيم التوراتية أكثر من أماكن أخرى في فلسطين المحتلة، وهو بذلك يفترق عن تيارات أخرى كانت لها السيطرة في دولة الاحتلال، تقدّم البُعد الأمني-الاستراتيجي في النظرة للاستيطان على أبعاد دينية-توراتية.
إرضاءً لهذا التيار، قرر وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت في مايو/ أيار 2024، إلغاء قانون “فك الارتباط” مع مستوطنات في شمال الضفة المحتلة، وهو ما يسمح للمستوطنين بالعودة إلى مستوطنات غانيم وكاديم وحوميش وسانور التي جرى تفكيكها عام 2005، وذلك بعد أن رأى المستوى الأمني والعسكري أن تحقيق حلم عودة الاستيطان إلى قطاع غزة قد يبدو بعيد المنال في ظل استمرار المقاومة هناك.
يمكننا القول إن “المخيمات الصيفية” ما هي إلى محاولة الاحتلال منح اسم درامي لما يمارسه كل يوم في الضفة الغربية من اقتحامات وقصف من مسيّرات، وقتل وصل إلى 644 شهيدًا واعتقالات تجاوزت 10 آلاف فلسطيني في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر، حيث يدرك جيدًا أن فكرة اجتثاث المقاومة في الضفة لا تقلّ صعوبة عنها في غزة، لكنه يمهّد من خلالها لفكرة التهجير الحقيقية إرضاءً للصهيونية الدينية، وبحثًا عن صورة نصر مفقودة منذ 11 شهرًا.