كشفت الأزمة الخليجية منذ يونيو/حزيران 2017 وحتى الآن أن أحلام محمد بن سلمان ومحمد بن زايد بشأن السيطرة على القرار الخليجي وإخضاع عواصم المنطقة لتوجهاتهما السياسية ليست أكثر من أوهام داعبت الأمير والشيخ، فضحتها ردود الفعل غير المتوقعة من بعض الأنظمة السياسية الحاكمة.
وخلافًا لما كان يأمله المحمدان، لم تقف دول الخليج ولا حتى الدول الإفريقية المحسوبة على المحور السعودي على قلب رجل واحد في قرار حصار قطر وتشديد الضغوط عليها لتركيع قرارها بما يتواءم مع طموحات وأطماع الحليفين، حيث ارتأت عدد من تلك الدول اتخاذ موقف سياسي يخدم مصالحها حتى إن تعارض ذلك مع الموقف السعودي الإماراتي، ومن هنا كان العقاب هو الحل في مواجهة تغريد تلك الأنظمة خارج السرب.
صحيفة “الأخبار” اللبنانية بدأت في نشر مجموعة وثائق مُسرّبة من السفارات الإماراتية في كل من مسقط والخرطوم والرباط وبغداد، تكشف مخطط أبناء زايد للضغط على تلك الدول بسبب مواقفها من الأزمة الخليجية، استهلتها بمؤامرة تركيع سلطنة عمان ومعاقبتها، مستخدمة في ذلك عدد من الإستراتيجيات.
الوثائق المسربة بهذا الحجم فندت وبشكل قاطع زيف الادعاءات المتكررة بصغر حجم “قضية قطر” كما يحلو لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير وصفها بأنها “صغيرة جدًا جدًا”؛ ذلك أن الرياض وأبو ظبي تدركان – حتى إن تعارض إدراكهما مع ما تصرحان به علنًا – أن لحربهما أهدافًا أبعد من إمارة الغاز وأعمق من اتهامها بدعم الإرهاب.
الترغيب والترهيب
الكثير من المراقبين وصناع القرار في العواصم الخليجية والعربية توقعوا أن الحملة المنسقة والضخمة التي أطلقتها السعودية والإمارات ضد قطر في مايو/أيار 2017، مصحوبةً بـ”فرمان” المطالب الـ13، سترعب الخصم الأساسي في الأزمة (الدوحة) وتثير القلق في نفوس أصحاب المواقف المحايدة نسبيًا (الكويت ومسقط)، لكن مع مرور الوقت تبين أن تلك الحملة أتت بنتائج عكسية تمثلت في إبعاد السلطنة عن أشقائها وعمقت الخلاف بينهما في كثير من المواقف، هذا بالإضافة إلى أنها كانت عاملاً أساسيًا ودافعًا قويًا لتعزيز علاقاتها مع الفريق المناوئ للرياض وأبو ظبي
سفير الإمارات في مسقط: مستوى جديد ومتطور من العلاقات بين السلطنة ودولة قطر، يفتح الباب للدوحة لتوثيق علاقاتها أكثر بمسقط عن طريق اتفاقية تنقيب طويلة الأجل في مناطق استكشاف البترول الساحلية
بحسب الوثائق التي تم تسريبها يتلخص التقدير الإماراتي للموقف العماني من الأزمة الخليجية في محورين رئيسيين:
أولاً: اصطفاف مسقط إلى محور الدوحة حتى إن لم يتم إعلان ذلك بشكل رسمي، وهو ما تيقنت منه أبو ظبي من خلال بعض المراسلات والمكاتبات التي سُربت.
في وثيقة مُعنونة بـ”توقيع (قطر للبترول) اتفاقية للتنقيب عن النفط قبالة سواحل عمان” (مؤرّخة بـ20 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017) يقول سفير الإمارات في عمان محمد سلطان السويدي: “مسقط تستعجل الاصطفاف مع الدوحة رغم إعلانها الحياد في الأزمة الخليجية”، معتبرًا تلك الاتفاقية دليلًا على ذلك، متحدثًا في الوثيقة نفسها عن مستوى جديد ومتطور من العلاقات بين السلطنة ودولة قطر، مبيّنًا أن خطورة الاتفاقية المذكورة تكمن في أن السلطنة تبدي تحفظات تجاه عمليات التنقيب النفطي في البحر، ولذا تُعدّ هذه الصفقة الانعكاس الأكثر وضوحًا لمدى التقارب العماني – القطري خلال الأشهر القليلة الماضية.
ويعلق عليها بقوله “مستوى جديد ومتطور من العلاقات بين السلطنة ودولة قطر، يفتح الباب للدوحة لتوثيق علاقاتها أكثر بمسقط عن طريق اتفاقية تنقيب طويلة الأجل في مناطق استكشاف البترول الساحلية، في المنطقة 52 وهي منطقة الامتياز الساحلي المقابلة لحقول نفط عمانية مهمة وحيوية جنوب السلطنة، مثل حقول أمل ومرمول ونمر ومخيزنة، حيث ثارت مطالبات بالتنقيب البحري مقابل تلك الحقول على مدار السنوات الماضية، ويتضح من هذا التقارب بين الدولتين، أن السلطنة تسعى للاستفادة من الوضع الحاليّ الذي تمر به دولة قطر، وتحتاج إلى منافذ اقتصادية في ظل الإجراءات الخليجية تجاهها، حيث وجدت الدوحة في سلطنة عمان متنفسًا لتبادل المصالح بين البلدين.
ومن المعلوم أن السلطنة تعاني من وضع اقتصادي حرج، وينطبق الحال على قطر في ظل إجراءات المقاطعة الحالية، وتمثل تلك الاتفاقية حلقة ربط إستراتيجية جديدة مع السلطنة، تفتح بها الدوحة منافذ جديدة لرؤوس الأموال لديها في استثمارات المدى الطويل، كما تشكل تلك الاتفاقية إضافة جيدة إلى الصورة القطرية في الإقليم، بحسب تصورات الدوحة، حيث تواجه عزلة إقليمية وخليجية، مثل تلك الاتفاقيات تستغلها قطر في محاولات تغيير تلك الصور، وتشكيل جبهة من حلفاء، تتفادي بها الدوحة عصا الإجراءات الخليجية، عبر جزرة الاتفاقيات الاقتصادية”.
التقارب العماني القطري منذ الأزمة أثار حفيظة أبو ظبي والرياض
وفي وثيقة أخرى مورخة بـ12 من نوفمبر/تشرين الثاني2017 تحمل عنوان “زيارة وزير الخارجية القطري لسلطنة عمان”، يُعدّد القائم بالأعمال بالإنابة خالد علي الطنيجي، مظاهر التقارب العماني القطري، بقوله: “هناك اتفاق وتنسيق عماني – قطري في شأن أزمة قطر، يقضي بإبداء مسقط موقف حيادي في ظاهره، مقابل بعض التسهيلات والإسناد القطري لعدد من الملفات العمانية الأخرى سواء على المستوى الاقتصادي أم السياسي”، مضيفًا “التقارب العماني – القطري يبدو واضحًا من خلال ما يتم نشره عبر وسائل الإعلام العمانية الرسمية، حيث هناك ميل إعلامي واضح يتجلى من خلال الرؤى والتحليلات المنحازة للجانب القطري، التي يتم التغاضي عنها من قبل الحكومة العمانية”.
وثيقة ثالثة مؤرخة بـ9 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تحمل عنوان “أمير قطر يستقبل وزير الداخلية العماني على هامش مؤتمر أمني”، يتحدث القائم بالأعمال بالإنابة خالد علي الطنيجي، عن دور عماني محتمل في تأمين كأس العالم 2022، ضمن مساعي الدوحة إلى أن تستعين بخدمات أجهزة أمنية من دول صديقة، للمساعدة في تأمين تلك الفعاليات.
التحركات القطرية وصفها الطنيجي بأنها تأتي في إطار سياسة الدوحة الجديدة التي تنبتها منذ بداية الأزمة والقائمة على اجتذاب الحلفاء واستمالة المواقف، وهو ما يندرج وفق الدبلوماسي الإماراتي تحت هامش “تحركات قطرية – عمانية سابقة، في سياقات أخرى مختلفة، حيث وفرت قطر خلال الأشهر الأخيرة وظائف لآلاف من العمانيين في قطاعي التعليم والنقل الجوي والخدمات اللوجيستية، سواء عبر استقدامهم للعمل في قطر أم توفير فرص عمل لهم في بلدهم، عبر تمويل وتأسيس ودعم مشروعات متنوعة في السلطنة”.
لا بد لنا من التحرك باتجاه السلطنة لثنيها بالترغيب أو الترهيب
القائم بالأعمال بالإنابة في تعليقه على نبأ زيارة وزير المالية القطري علي بن شريف العمادي، إلى سلطنة عمان، في 12 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قال: “الزيارة التي قام بها الوزير القطري تأتي في سياق جولة تشمل عددًا من الدول العربية، حيث توجه بعد مسقط إلى الخرطوم وحظي باستقبال رئاسي من الرئيس السوداني عمر البشير، في إطار سعي الدوحة لكسب الحلفاء من دول المنطقة، أو على الأقل تحييد تلك الدول ودعم موقفها غير المنحاز لطرف لآخر في الأزمة الخليجية الأخيرة.
وتابع : “وتتلخص مهمته في إيجاد منافذ تجارية واستثمارية لرؤوس الأموال القطرية والترويج للدوحة على عدد من المحاور، وهو أمر يتيح للدوحة تشكيل تحالفات إقليمية عن طريق دعم قطاعات اقتصادية متداعية في تلك الدول المستهدفة بتلك التحركات، مثلما يحدث مع السلطنة في الفترة الأخيرة، ومؤخرًا استهدفت تلك الجهود السودان وقبله المغرب وتونس، وهذا الأمر يحتاج إلى متابعة حثيثة من الجهات المعنية في الدول لوضع حد لحركة هذا الوزير”.
ثانيًا: إثناء مسقط عبر سياسة “الترغيب والترهيب”، فاصطفافها السياسي منذ بداية الأزمة تجاه البوصلة القطرية لم يرق لأبو ظبي والرياض، ومن ثم لا بد من تفعيل سبل إبعادها عن موقفها، مستخدمين في ذلك عددًا من الإستراتيجيات، تبدأ من الابتزاز الاقتصادي مثلما حصل للأردن أخيرًا، وتمرّ بالتحريض الدبلوماسي الذي شرع فيه بالفعل (كما تفيد به بعض المعلومات) السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة بدعوى دعم عُمان لـ”الحوثيين”، ولا تنتهي باستهداف السلطنة في أمنها سواء بالفعل التجسسي الذي كُشف بعض من فصوله عام 2011، أم بإقلاق الحدود مثلما يحدث اليوم في محافظة المهرة الواقعة أقصى شرق اليمن على الحدود مع محافظة ظفار العمانية.
السفير الإماراتي في مسقط شدد في وثيقة “التنقيب عن النفط” على أنه “لا بد لنا من تحرك باتجاه السلطنة لثنيها بالترغيب أو الترهيب”، وهي السياسة التي طالما تلجأ إليها أبو ظبي في التعامل مع الدول التي تستهدفها، وهو ما حدث في مصر والعراق واليمن وغيرها.
التهديدات الإماراتية لها سوابق تاريخية تؤكد مخططات أبناء زايد لتركيع الأنظمة التي لا تسير على هواها السياسي، مستخدمة في ذلك عددًا من الأسلحة، بعضها يعتمد على الابتزاز الاقتصادي مستغلة الوضع المتردي داخليًا، والآخر يذهب نحو الضغوط السياسية عن طريق المناكفات والمناوشات والحملات الإعلامية المضادة التي تستهدف التدخل في شؤون الدول الداخلية.
مجتهد الإمارات: يوسف العتيبة يخوض حملة تحريض سرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ضد سلطنة عمان
استهداف السلطنة
استهداف الإمارات لإثارة القلاقل في السلطنة لم يكن وليد اليوم، ولا بدافع موقفها من الأزمة كما يحلو للبعض أن يفسر، بل إن التوتر بين الجارتين ممتد إلى سنوات طويلة مضت، منذ انتهاء الحماية البريطانية في سبعينيات القرن الماضي، إذ إنه وحتى الآن لا تزال تنظر الإمارات إلى إمارة “مسندم” العمانية (تطل على مضيق هرمز) باعتبارها إمارة محتلة من السلطنة.
غير أن بداية المعارك الحقيقية بين الجانبين بدأت عام 2008 عقب قيام وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، بعزل المنتسبين إلى الجيش من أصول عمانية، فيما عرف بحملة تنظيف الجيش والأجهزة في إمارة أبو ظبي من العناصر التي تنحدر من أصول عمانية.
ثم جاءت حادثة كشف شبكة تجسس تابعة لجهاز أمن الدولة الإماراتي مستهدفة نظام الحكم في سلطنة عمان وآلية العمل الحكومي والعسكري في 2011، لتخرج الخلاف بين مسقط وأبو ظبي إلى العلن بعد سنوات من التكتم والسرية، وهو ما ألقى بظلاله بعد ذلك على العلاقات بين البلدين.
وفي 2015 اتهمت مسقط أبو ظبي بأنها تقوم بعمليات شراء غير مسبوقة لأراضي وولاءات قبلية شمالي السلطنة على الحدود مع الإمارات، وقدمت أموالًا طائلة لشخصيات قبلية غير معروفة، واكتشفت ذلك في ولاية “مدحاء” العمانية التي تقع بالكامل داخل الأراضي الإماراتية، ومحافظة “مسندم” العمانية.
علاوة على ذلك فإن التقارب العسكري والأمني والسياسي مع إيران لعب دورًا كبيرًا في احتدام الصراع بين الإمارات والسلطنة بضوء أخضر سعودي، ولعل تجاهل الملك سلمان بن عبد العزيز زيارة عُمان في جولته الخليجية ديسمبر/كانون الثاني الماضي كشفت حجم الخلاف الواضح بين الفريقين.
يذكر حساب المغرد الشهير “مجتهد الإمارات” على “تويتر” أن سفير أبو ظبي لدى واشنطن، يحرض على سلطنة عمان، بوساطة أمريكية، قائلاً: “يوسف العتيبة يخوض حملة تحريض سرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ضد سلطنة عمان”، وتابع بأن الحملة التحريضية تأتي بحجة أن السلطنة تدعم الحوثيين.
خاص : يوسف العتيبة يخوض حملة تحريض سرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ضد سلطنة عمان بحجة أن السلطنة تدعم الحوثيين .
"بعد شيطنة قطر جاء الدور على سلطنة عمان"#الخليج
— وزير الشعب (@Wazeralshaab) December 4, 2017
ومن ثم تواصل الإمارات مؤامرات استهداف الدول التي تغرد خارج سياق أطماع أبناء زايد، وفق مخطط توسعي إقليمي، تسعى فيه أبو ظبي أن تكون اللاعب الأول، ساحبة البساط من تحت القوى التقليدية في المنطقة، مستغلة في ذلك ما تتمتع به من نفوذ مالي وسياسي، في مواجهة الظروف الاقتصادية والمعيشية والأمنية التي تمر بها الدول المستهدفة.