“ارجعوا عن شريط حدود “إسرائيل”، لا نريد أن نؤذيكم”، هكذا توجّه جندي إسرائيلي باللغة العربية من خلال مُكبر الصوت إلى عشرات السوريين المحتشدين على بُعد مسافة 200 متر من السياج الحدودي مع “إسرائيل”، ملوّحين برايات بيضاء مرفوعة بأيادي منهكة، في محاولة لطلب المساعدة أو المأوى، قبل أن يعودوا أدراجهم إلى مخيمات اللاجئين السوريين في مرتفعات الجولان.
النازحون أمام الشريط الحدودي مع الجولان المحتل – ومنهم نساء وأطفال – طالبوا أيضًا بالأمن وتأمين حماية دولية لهم في ظل الوضع المتردي الذي يعيشونه، وتزايد مخاوف الفارين من تقدم الجيش السوري، خاصة بعد رفع قوات النظام العلم السوري على أطلال مدينة درعا التي كانت مهدًا لاندلاع التظاهرات السلمية التي سرعان ما انتقلت إلى بقية المدن في العام 2011.
لكن بدلًا من حصول المدنيين على الأمان والحماية من “العدو”، بادر النظام السوري بضمان أمن وحماية “إسرائيل”، والوصول إلى سلام شامل معها، بعد اتفاق في القنيطرة على عودة خطوط الاشتباك مع “إسرائيل” إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، الأمر الذي يعتبر جزءًا مما بات يعرف بـ”صفقة القرن”، ليثار الجدل بشأن حدود التفاهمات والرابحين والخاسرين من هذا التحول الكبير في الجبهة الأخطر بالمنطقة.
مقاتل من القنيطرة في أثناء وصوله إلى بلدة مورك بريف حماة الشمالي (المصدر – عنب بلدي)
اتفاق القنيطرة.. الشيطان يكمن في التفاصيل
مع تقدم قوات النظام وتوالي ضرباتها على مناطق تجمع المدنيين وفصائل المعارضة، انتهت الأخيرة إلى اتفاق مع النظام تم بموجبه إخلاء المسلحين وعائلاتهم إلى شمال سوريا، في وقت يسعى النظام السوري بدعم من روسيا إلى استعادة المنطقة من فصائل المعارضة المُسلحة في محافظتي درعا والسويداء، على الحدود مع الأردن وهضبة الجولان المحتلة.
الاتفاق جاء بعد سيطرة قوات الأسد والميليشيات المساندة لها على مساحات واسعة في الريف الغربي لدرعا، بموجب اتفاقيات “مصالحة” توغلت من خلالها ودخلت الحدود الإدارية للقنيطرة التي سيطرت المعارضة السورية على معظمها بعد عام 2011 ، بالتزامن مع قصف جوي من الطيران الروسي الذي استخدم أجواء الجولان المحتل في طلعاته.
دخل الاتفاق حيز التنفيذ في 20 من يوليو/تموز الحاليّ، بخروج أكثر من ألفي مقاتل من “هيئة تحرير الشام” مع عائلاتهم إلى محافظة إدلب، وبموازاة ذلك، سيطرت قوات الأسد على مناطق واسعة في المحافظة بينها قرى وبلدات: تل أحمر غربي وتل أحمر شرقي ورسم قطيش ورسم الزاوية وعين زيوان وعين العبد وكودنة والأصبح، في المنطقة الممتدة بين ريفي درعا والقنيطرة.
المفارقة في سيناريو القنيطرة تكمن بالمكاسب التي حظيت بها “إسرائيل” بعودة النظام إلى حدوده قبل عام 2011
خروج المقاتلين والقبول بالتسوية لمن يرغب بالبقاء، كان على رأس بنود الاتفاق الذي فُرض على فصائل المنطقة بذات السيناريو الذي طُبق في معظم المحافظات السورية، لكن المفارقة في سيناريو القنيطرة تكمن بالمكاسب التي حظيت بها “إسرائيل” بعودة النظام إلى حدوده قبل عام 2011، فبموجب الاتفاق، يعود النظام السوري إلى حراسة حدود الجولان المحتل من “إسرائيل” مجددًا، بعد سبع سنوات من انسحابه لصالح فصائل المعارضة التي احتفظت بمساحات واسعة من محافظة القنيطرة في السنوات الماضية.
المفارقة أيضًا كانت في التوصل لاتفاق رعته روسيا بعد تفاهمات مع الجانب الإسرائيلي، إذ تضمن الاتفاق دخول الروس كطرف مراقب لاتفاقية “فض الاشتباك” بين القوات السورية والإسرائيلية، الموقعة في 31 من مايو/أيار 1974 في جنيف، وجمدت الجبهة مع “إسرائيل” المُحتلة لهضبة الجولان السورية منذ العام 1967، واعتبرت أن هذه الاتفاقية لا تُعد اتفاقية سلام نهائي، رغم أنها خطوة نحو سلام دائم على أساس قرار مجلس الأمن رقم 338 المؤرخ في 22 من أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وتحتل “إسرائيل” مرتفعات الجولان السورية منذ عام 1967، ولا يسمح للقوات السورية بدخول المنطقة الفاصلة بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار عام 1973، وطوال السنوات الماضية اتهم النظام السوري “إسرائيل” بدعم فصائل المعارضة على حدود الجولان المحتل، وإدارة معاركها داخل سوريا، لا سيما في ريف القنيطرة والمناطق المحاذية لها، بينما حذر وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، قوات الأسد من الاقتراب من المنطقة العازلة على الحدود، بحسب صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية، في 10 من يوليو/تموز.
وبموجب الاتفاق الجديد وافقت “إسرائيل” على التخلي عن الشريط الذي احتلته في حرب أكتوبر، وكذلك عن شريط ضيق من الأرض حول القنيطرة، ووافقت كل من سوريا و”إسرائيل” على تحديد قواتهما على عمق 20 كيلومترًا من خطوطهما الأمامية، وفرضت على الجانب السوري ألا ينصب منظومات “سام” للدفاع الجوي ضمن منطقة عمقها 25 كيلومترًا، وكانت “إسرائيل” قد احتلت في العام 1973 إلى جانب الجولان جيبًا يصل إلى نحو 40 كيلومترًا عن دمشق، حتى باتت تهدد باحتلالها.
الرئيسان الأمريكي والروسي اتفقا على ضرورة الحفاظ على أمن “إسرائيل”
قمة بوتين وترامب.. أمن “إسرائيل” أولًا
لا يمكن الحديث عن اتفاق القنيطرة – الذي جرى إعلانه الخميس 19 من يوليو/تموز – بمعزل عن التحركات الأمريكية الروسية، فالاتفاق بدأ تطبيقه بُعيد لقاء القمة التي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب يوم 16 من يوليو/تموز في العاصمة الفنلندية هلسنكي، حيث كان الملف السوري على رأس المواضيع المطروحة.
وفي مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إنه من الضروري، بعد دحر الإرهابيين من جنوب غرب سوريا، تكييف الوضع في مرتفعات الجولان بالتوافق التام مع اتفاق 1974 عن فصل القوات الإسرائيلية والسورية، وضمان أمن دولة إسرائيل بشكل وثيق.
بدوره، لفت ترامب، في المؤتمر، إلى أنه اتفق مع بوتين على ضرورة ضمان أمن “إسرائيل” في ظل التطورات الجارية في سورية، وأنه أكد “بوضوح” لنظيره الروسي أن الولايات المتحدة لم تسمح لإيران بالاستفادة من الحملة الناجحة ضد تنظيم “داعش” في المنطقة.
وفي سياق كلام ترامب وبوتين عن التزامهما بأمن “إسرائيل” من الجهة السورية، يرى مراقبون أن عودة الحديث عن اتفاق فض الاشتباك والرجوع لخطوطه الأساسية رغم سيطرة المعارضة المسلحة بما فيها جبهة النصرة “فتح الشام لاحقًا” طوال 7 سنوات يشير – وفق مراقبين – إلى توجه روسي أمريكي لإحياء مسار السلام بين دمشق وتل أبيب ضمن سياق “صفقة القرن”.
الوجود الإيراني في سوريا يبقى العقبة الكأداء في وجه المخطط الروسي الأمريكي؛ لذلك لا يُستبعد أن يكون قد حصل اتفاق بين الرجلين
لكن الوجود الإيراني في سوريا يبقى العقبة الكأداء في وجه المخطط الروسي الأمريكي؛ لذلك لا يُستبعد أن يكون قد حصل اتفاق بين الرجلين، تكميلي للمفاوضات الروسية الإسرائيلية بشأن السماح بعودة قوات بشار الأسد إلى حدود الجولان المحتل والمنطقة الجنوبية عمومًا، شرط إبعاد القوات الإيرانية والمليشيات المحسوبة على طهران عن تلك المنطقة، لمسافة تراوح التقديرات حولها بين 30 كيلومترًا، بحسب ما تقترح موسكو، و80 كيلومترًا مثلما ترغب تل أبيب.
ورغم أن روسيا تنفي الاتفاق مع واشنطن أو تل أبيب على إبعاد إيران من سوريا، فإن تقارير تفيد بأن القوات الإيرانية والأخرى التابعة لحزب الله – وهي على عداء مستمر مع تل أبيب – انسحبت بطلب روسي لأكثر من 40 كيلومترًا عن خطوط المواجهة لتسهيل تنفيذ الاتفاق، فروسيا تملك بعض الأوراق التي يمكن من خلالها الضغط على إيران، سواء فيما يتعلق بالأزمة السورية أم ملف الاتفاق النووي.
ومقابل الاتهامات التي تسوقها المعارضة بأن عودة النظام ستحقق أمن “إسرائيل” بالجنوب – وهو الذي لم يطلق أي رصاصة منذ 1973- كما يقولون، يرد أنصار النظام بأن فصائل المعارضة المسلحة نفسها لم تطلق أي رصاصة على “إسرائيل” خلال نحو 7 سنوات من وجودها على الحدود مع الأراضي الفلسطينية، وكان التعاون بين الجانبين قائما في المؤونة والسلاح والعلاج.
روسيا استطاعت الاستحواذ على الملف السوري وتحييد الأطراف الدولية والإقليمية
روسيا عرابة “صفقة القرن” وسوريا محورها
بعيدًا عن الخطوط العريضة التي أُعلن عنها من جانب روسيا والنظام والمعارضة بشأن الاتفاق، برزت بنود خفية، أعطت الصورة الكاملة للوضع الذي ستستقر عليه الخريطة في القنيطرة المحاذية للجولان التي رسمت بشكل أساسي ضمن التفاهمات الروسية – الإسرائيلية بعد عدة جلسات بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ذلك قد يشير إلى أن روسيا استطاعت الاستحواذ على الملف السوري وتحييد الأطراف الدولية والإقليمية، فرغم تأكيد “إسرائيل” الدائم على ضرب أي تحرك إيراني في سوريا، فإنها اختارت التفاهمات الروسية معها والقائمة على إبعاد إيران من خط المواجهة بالجنوب السوري، مع عدم تقييد يد “إسرائيل” في أي تحرك عسكري ضدها.
والأهم من ذلك السيطرة الروسية على الأرض، فبحسب الاتفاق المبرم، لا توجد أي سيطرة بالمعنى العسكري لقوات الأسد على التلال الإستراتيجية الموجودة في المنطقة التي من شأن السيطرة عليها الإمساك بمفاصل الجنوب بشكل كامل، بل أدرجت ضمن الوصاية الروسية في المنطقة، كخطوة لمراقبة تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار على الحدود الفاصلة بين الجولان المحتل والقنيطرة.
تبدو “إسرائيل” الرابح الأكبر، فالنظام السوري لديه ما يمكن أن يقدمه في “صفقة القرن”، وهو الأمن والسلام لـ”إسرائيل”
وفي سياق ذلك، يرى الباحث في الشؤون الإقليمية طلال عتريسي أن الطرح الأمريكي بإعطاء الروس حضورًا قويًا في سوريا مقابل الموافقة على “صفقة القرن” ليس متكافئًا، فصفقة القرن تلغي دور سوريا الإستراتيجي، فماذا يبقى للروس في سوريا؟
وفي موازين الربح والخسارة، تبدو “إسرائيل” الرابح الأكبر، فالنظام السوري لديه ما يمكن أن يقدمه في “صفقة القرن”، وهو الأمن والسلام لـ”إسرائيل” والتنازل لها عن الأراضي السورية المحتلة في الجولان، فرئيس النظام السوري بشار الأسد طلب عبر حليفه الروسي المساومة على بقائه مقابل الانخراط الكامل في المشروع الذي يحضر له، جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي في المنطقة.
ورغم ذلك يصور البعض النظام السوري على أنه الرابح الأكبر من الاتفاق بعودته إلى كامل محافظة القنيطرة وقبلها درعا، فالاتفاق – الذي جرى بحرص روسي كبير وتخطيط بدأ منذ فترة – جنّب النظام معركة كبيرة على حدوده الجنوبية مع “إسرائيل”، كانت ستشكل خطرًا محدقًا عليه إذا تدخلت فيها “إسرائيل” بكامل قوتها.
أما فيما يتعلق بالمعارضة السورية، يؤكد محللون أن “إسرائيل” اختارت في النهاية عدم التصعيد بالموافقة على الاتفاق، وراهنت على عودة قوات النظام إلى الحدود وعلى منظومة أمن طويلة الأمد بضمانات أمريكية وروسية، وأسقطت في المقابل خيار الرهان على معارضة بدأت في التفكك والتلاشي وفقدت ظهيرها الأمريكي والغربي.