ترجمة وتحرير: نون بوست
في الأشهر التي سبقت انعقاد المؤتمر الوطني الديمقراطي في شيكاغو، كانت المدينة تستعد لموجة كبيرة من الاحتجاجات ضد الدعم الأمريكي للحرب الإسرائيلية على غزة. وتسابق النقاد في الإشارة إلى أوجه التشابه مع سنة 1968، عندما طغى المتظاهرون المناهضون للحرب على المؤتمر الديمقراطي وساعدوا في إعادة البيت الأبيض إلى الحزب الجمهوري.
لكن التاريخ لا يتكرر دائمًا بنفس الطريقة، فلن يُذكر مؤتمر 2024 بسبب الاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة، أو بسبب ضعف الحضور في المسيرات المناهضة للحرب. وبدلاً من ذلك، قد يكون هذا المؤتمر قد أسهم في ولادة حركة فلسطينية جديدة، حركة تختلف تمامًا عن احتجاجات الشوارع التي اعتدنا عليها.
كان الجهد الأكثر إثارة للإعجاب من جانب المؤيدين للقضية الفلسطينية خلال المؤتمر الوطني الديمقراطي هو المبادرة التي نظمتها الحركة الوطنية غير الملتزمة. ودعت هذه الحركة، التي انطلقت في شباط/ فبراير عندما كان الرئيس جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي المحتمل، الناخبين في جميع أنحاء البلاد للتعبير عن استيائهم من دعم الرئيس للحرب الإسرائيلية على غزة من خلال التصويت كـ”غير ملتزمين” في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
ولاقت هذه الدعوة استجابة واسعة، حيث شارك مئات الآلاف من الناخبين في جميع أنحاء البلاد، مع تسجيل أعداد ملحوظة بشكل خاص في الولايات المتأرجحة مثل ميشيغان وويسكونسن، وتُرجم هذا النشاط إلى انتخاب 30 مندوبًا حملوا رسالتهم إلى شيكاغو.
وخلف الكواليس، قامت حركة “غير الملتزمين” بالتفاوض مع القادة الديمقراطيين على مدى أيام. وتمكنت من تأمين عقد أول جلسة نقاش في مؤتمر الحزب الديمقراطي حول حقوق الإنسان الفلسطيني. وبدلاً من الاقتصار على الاحتجاج خارج حدود الأمن، عمل المندوبون غير الملتزمين داخل القاعات؛ حيث كان يظهرون بشكل واضح من خلال أزرارهم وكوفياتهم. وقد سجلوا مئات من “مندوبي وقف إطلاق النار” الذين يدعمون مطلب الحركة بفرض وقف دائم لإطلاق النار.
لكن طلبًا محوريًا واحدًا جذب انتباه حركة “غير الملتزمين” في اليوم الأخير من المؤتمر، وهو طلب تخصيص وقت على المنصة لإلقاء كلمة من قبل فلسطيني أمريكي. إن الدعم الذي ناله هذا الطلب يشير إلى إمكانية ظهور حركة جديدة مؤيدة للفلسطينيين في الولايات المتحدة.
حظي الطلب بتأييد لا يقل عن ثمانية أعضاء حاليين في الكونغرس الأمريكي، بينهم نواب بارزون مثل ألكسندريا أوكاسيو كورتيز ورشيدة طليب، بالإضافة إلى لويد دوجيت، عميد وفد تكساس في الكونغرس. كما وقع رؤساء الحزب الديمقراطي في ميشيغان ونورث كارولينا وكولورادو على هذا القرار، فضلاً عن تأييد نقابة عمال السيارات المتحدة.
وحصل الطلب على دعم من بعض الصهاينة التقدميين، فقد دعمت جماعات المناصرة الليبرالية المؤيدة لإسرائيل مثل “جي ستريت” و”أمريكيون من أجل السلام الآن” هذا الطلب. ووصف هدار سوسكيند، الرئيس والمدير التنفيذي لمنظمة “أمريكيون من أجل السلام الآن” والرقيب السابق في جيش الدفاع الإسرائيلي، غياب متحدث أمريكي فلسطيني بأنه “خطأ، ليس فقط من الناحية السياسية بل من الناحية الأخلاقية أيضًا”.
ودعمت ألانا زيتشيك، إحدى أفراد عائلات الرهائن المحتجزين لدى حماس والمدافعة عنهم، هذا الموقف أيضًا. وعندما سخر أحد كتّاب الأعمدة من المطالبة بتخصيص وقت للحديث، ردت مجموعة إسرائيلية تمثل عائلات الرهائن باقتراح فلسطيني كمتحدث محتمل.
وسار التضامن غير المتوقع في كلا الاتجاهين، فأظهر المندوبون غير الملتزمين انضباطًا ملحوظًا في رسائلهم، وركزوا على مجموعة من المطالب التي، على عكس الكثير من المطالب التي تم التعبير عنها في المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الأشهر الأخيرة، كانت يمكن أن يتفق عليها العديد من الصهاينة والإسرائيليين.
وعندما خاطب والدا هيرش غولدبرغ-بولين، الرهينة الأمريكي الإسرائيلي المحتجز في غزة، المؤتمر، أشاد المندوبون غير الملتزمين بخطابهما حتى وهم يواصلون مطالبهم بالاستماع إليهم. وقال أحد المندوبين غير الملتزمين لصحيفة “جيروزاليم بوست”: “إنهم يستحقون مكاناً على هذه المنصة. لكن الفلسطيني الأمريكي يستحق أيضاً مكانًا على هذه المنصة”، وعندما تعرض مؤتمر صحفي لحركة “غير الملتزمين” للمضايقات من قبل أحد الأشخاص الذين طالبوا بإطلاق سراح الرهائن، صرح قادة الحركة بأنهم يتفقون مع هذا المطلب.
كانت المرشحة الرئيسية للحركة للحصول على مكان للتحدث هي رؤى رمان، النائبة الأمريكية من أصل فلسطيني عن ولاية جورجيا. ورمان هي ناشطة ديمقراطية ذات باع طويل، حيث عملت بجد لدعم بايدن في سنة 2020، ولها خلفية مهنية كاستشارية سابقة في شركة ديلويت ورئيسة معلنة لتجمع “سويفتى”، مما يجعلها شخصية معروفة ومؤثرة وليس مجرد راديكالية جامعية. وكان الخطاب الذي اقترحت إلقاءه يهدف إلى مخاطبة قاعدة واسعة من الجمهور.
وتمحور الخطاب، مثل أفضل خطاباتها في المؤتمر، حول قصتها الشخصية باعتبارها ولدت في الأردن لأبوين فلسطينيين نازحين. ورغم أن الخطاب تضمن بعض العبارات التي قد تكون محل جدل لدى الجماعات الصهيونية، مثل وصف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بـ”الرهائن”، إلا أن لهجته العامة كانت معتدلة بشكل لافت. فقد شمل الخطاب مطالبة بتحرير الرهائن المحتجزين لدى حماس إلى جانب الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وتجنب استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” الذي قد يكون مثيراً للجدل، مع التركيز على “بناء طريق للسلام الجماعي والأمان”.
ويمكنك أن تلاحظ الفرق بوضوح عند مقارنة هذا الخطاب بما تم تقديمه في المؤتمر الشعبي من أجل فلسطين الذي عُقد في أيار/ مايو في ديترويت، والذي ألقت فيه رشيدة طليب كلمة. فتضمن ذلك الاجتماع دعوة افتتاحية سخرت من “جميع داعمي الصهيونية وإسرائيل والإمبريالية الأمريكية”. وشمل المؤتمر متحدثين أشادوا بالهجمات التي شنتها حركة حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وكان من بين رعاته من يدعمون الديكتاتوريات في روسيا والصين. وغالبًا ما تهيمن مثل هذه الجماعات على الرسائل المؤيدة للفلسطينيين في السياسة الأمريكية، مما يساهم في تهميش هذه الرسائل وعدم قدرتها على تحقيق تأثير واسع.
إن الاستبعاد المخيب للآمال للفلسطينيين الأمريكيين من المؤتمر الوطني الديمقراطي قد يشجع بعض الناشطين على الابتعاد عن الديمقراطيين وعن التكتيكات المدروسة بعناية التي يتبعها غير الملتزمين.
ومع ذلك، هناك مسار محتمل آخر يمكن أن يؤدي إلى تشكيل تحالف دائم، مشابه للتحالف الذي دعم مطلب “غير الملتزمين” في شيكاغو. وسيتطلب هذا المسار التركيز على السياسات التي تتشاركها قطاعات واسعة من المعسكر الليبرالي الأوسع، لا سيما داخل أوساط الصهاينة التقدميين. ومن بين هذه السياسات: الاعتراف بدولة فلسطين، وربط توريد الأسلحة إلى إسرائيل بمعايير صارمة لاستخدامها، ومعاقبة المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية.
وأخبرني سليم يعقوب، المؤرخ الأمريكي من أصل فلسطيني، أنه يؤيد مطلب “غير الملتزمين” الذي أطلقه أحد المتحدثين في المؤتمر، وأعرب عن إعجابه بـ”التأييد الواسع الذي يحظى به بين الديمقراطيين”. ومع ذلك، لم يكن مفاجئًا له عدم الاستجابة لهذا المطلب، حيث قال إن “حملة هاريس كانت تظن أنها تنظم مؤتمرًا خاليًا من المشكلات تقريبًا، ولم ترغب في اتخاذ أي خطوات قد تؤدي إلى تقويض الزخم أو إصدار نغمة متناقضة”.
وأخبرني يعقوب أيضًا أنه “متفائل بحذر بأن هذا النوع من التنظيم الذي شهدناه خلال الأشهر القليلة الماضية قد يحدث فرقًا صغيرًا ولكنه إيجابي في سياسة الولايات المتحدة بشأن هذه القضية، بشرط أن تفوز هاريس في الانتخابات”، فهو متأكد تمامًا من أن فوز دونالد ترامب سيؤدي إلى “سياسات كارثية بالتأكيد” فيما يتعلق بفلسطين.
وعبرت جو-آن مورت، عضو مجلس إدارة منظمة “أمريكيون من أجل السلام الآن” والناشطة البارزة منذ فترة طويلة، عن حماستها لاحتمال تشكيل تحالف بين الحركات المؤيدة لفلسطين والحركات الصهيونية التقدمية. وكانت مورت من الأعضاء المؤسسين للاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين في ثمانينيات القرن الماضي، لكنها ابتعدت عن المنظمة منذ فترة طويلة نتيجة استيائها من المواقف الثابتة لليسار التي تتسم بمعاداة إسرائيل في السنوات الأخيرة.
وقالت لي: “كان ينبغي أن يكون هناك صوت على المنصة الرئيسية للتعبير عن آلام الفلسطينيين الأمريكيين. لكنني أعتقد أيضًا أن الحركة المؤيدة للفلسطينيين يجب أن تشمل أصواتًا مثل صوتي – الصهاينة التقدميين الذين يسعون بإلحاح لتحقيق تقرير المصير لكلا الشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني. وهذا يمكن أن يعزز انتشار الحركة ويجعلها أكثر شمولية”.
كشف استبعاد الأصوات الفلسطينية الأمريكية في شيكاغو عن مدى عدم توازن السياسة الأمريكية تجاه هذه القضية، فلم يخاطب مؤتمر الحزب الديمقراطي سوى عدد محدود من الأمريكيين العرب منذ خطاب جيمس زغبي في سنة 1988، لكن الأسبوع الماضي أظهر أن الحركة الفلسطينية، إذا اتبعت استراتيجيات أكثر فعالية، يمكنها أن تجمع دعماً كبيراً داخل الحزب.
وأكدت نائبة الرئيس كامالا هاريس في خطاب قبولها في المؤتمر أنها تسعى إلى إنهاء الحرب من أجل ضمان أمن إسرائيل، ولكن أيضًا من أجل أن “يتمكن الشعب الفلسطيني من تحقيق حقه في الكرامة والأمن والحرية وتقرير المصير”.
وإذا ما قررت الحركة المؤيدة للفلسطينيين في الولايات المتحدة وضع حملتها لنزع الشرعية عن إسرائيل والتشكيك في حقها في الوجود جانبًا، فإنها قد تجد حلفاء موثوقين في التيار الرئيسي للسياسة الأمريكية الذين يدعمون مستقبل السلام والتعايش بين المجتمعات الوطنية في المنطقة. ويمكن للحركة أن تستلهم من تجربة السيناتور بيرني ساندرز وألكسندريا أوكاسيو كورتيز، اللذين انتقلا من “الاحتجاج إلى السياسة“، كما وصفهما الناشط في مجال الحقوق المدنية بايارد روستين، وأصبحا من الشخصيات المؤثرة بشكل كبير داخل الحزب الديمقراطي في هذه العملية.
ومن المفارقات أن قادة المجتمع العربي في البلاد يتعاونون بانتظام مع اليسار الصهيوني الإسرائيلي. ففي الشهر الماضي فقط، اجتذب مؤتمر سلام ضخم في تل أبيب 6000 شخص، ودعا إلى عملية دبلوماسية يمكن أن تساعد في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وكان من بين منظمي المؤتمر الإسرائيلي ماعوز إينون والفلسطيني عزيز أبو سارة، وهما ناشطان في مجال السلام يمكنهما الاستفادة من دعم اليسار الأمريكي. وإذا ما استبدلت الحركة المؤيدة للفلسطينيين هدفها المتمثل في المقاطعة الشاملة للإسرائيليين بيد ممدودة نحوهم، فقد تحقق نتائج غير مسبوقة.
ليس هذا هو النهج الوحيد الممكن للمعسكر المؤيد لإسرائيل أو المؤيد للفلسطينيين في الولايات المتحدة. ففي الوقت الذي يبدو فيه أن السياسة الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء تهيمن عليها المواقف المتشددة، قد يبدو السعي إلى سياسة السلام أمرًا خياليًا. وبالنسبة لأولئك الذين يطالبون بدولة فلسطينية أو يهودية تمتد من النهر إلى البحر، فإن النهج الائتلافي الذي يتطلب تنازلات ضرورية قد لا يكون له جاذبية كبيرة.
لكن الأسبوع الماضي أظهر أن هناك مسارًا آخر ممكنًا لبقية الأطراف.
المصدر: ذا أتلانتيك