مثل تونسي يضرب لمن يعطى القليل فيطمع في الأكثر (أعطوه الكراع فمد يده للذراع)، المثل ينطق تمامًا على الرئيس التونسي هذه الأيام، إنه يشتغل بكد ونشاط على توريث ابنه الحكم، فكل مناوراته الحاليّة وأزمة الحكم التي خلقها حول الحكومة والبرلمان هي مناورات العائلة لتورث الحكم فيها.
لكن الفضيحة ليست فقط في نوايا الرئيس ومناوراته المفضوحة بل في تآلف جسم سياسي يساري وعروبي للدفاع عن التوريث باعتباره السد الأخير ضد الإسلام السياسي، كيف تراجع التونسيون عن حلم بناء أول ديمقراطية عربية إلى مربع الدفاع عن الحد الأدنى السياسي وهو حق الانتخاب وتوهم انتظار نتيجة مختلفة عما تفرز الديكتاتوريات، إنها الحقرة، لا شيء يدل فيما يفعل السياسيون على أنهم يحترمون الناس ويقدرون وجودهم ورأيهم وطموحاتهم.
كان الباجي قد خرج سياسيًا وصحيًا من تاريخ تونس لكن انتشلته الثورة بلعبة لم يعرفها التونسيون، وعوض شكر الثورة والشعب مر الرجل إلى الأمام ليبقى الحكم في بيته مظهرًا احتقارًا بالغًا للناس والمؤسسات، أي للمجتمع والدولة، نحن في هذه الأيام نستعيد صور بن علي في آخر أيامه، وليس لدينا أمل في أن نفعل بالباجي وابنه ما فعلنا ببن علي وابنه، لقد اخترق الباجي النخبة من جديد.
التوريث ضد عقارب الساعة
الرئيس خلق الأزمة حول الحكومات التي أفرزها حزبه، ففي البداية أسقط حكومة الحبيب الصيد، كانت حكومة الصيد قد بدأت تضع يدها على الملفات الحارقة وبدا كما لو أن رئيس الحكومة بدأ يخرج عن طوع الرئيس، فأسقطت الحكومة في مشهد جدير بأكبر مشاهد الكوميديا الساخرة.
ليس مطلوبًا من الحكومات محاسبة الفساد، فالفساد ممول حزب الرئيس حتى يبقى الحزب قويًا وقادرًا على العطاء (الاستقطاب)
جاء الرئيس بيوسف الشاهد وهو تقريبًا ابنه من غير صلبه، فكان يعده للحظة حاسمة ثم رماه على رأس الحكومة، ومرة أخرى بدأ الشاهد يخرج عن طوع الرئيس ويشتغل لحسابه الخاص، تبينت نوايا رئيس الحكومة الرئاسية ولكن تبينت أيضًا نوايا الرئيس، فلم يكن رؤساء الحكومات الذين يختارهم إلا محطات انتظار ليتدرب ابنه فيقدمه وريثًا؛ لهذا خلق الأزمة الحاليّة زاعمًا أن الحكومة فشلت فيما طلب منها، رغم أنها حققت نسبة نمو فوق 2% ولا تزال تتقدم، وقد انتهت إلى أنه لا تقدم إلا بتعرية الفساد ومحاسبته وهي نفس النقطة التي انتهت إليها حكومة الصيد من قبلها.
ليس مطلوبًا من الحكومات محاسبة الفساد، فالفساد ممول حزب الرئيس حتى يبقى الحزب قويًا وقادرًا على العطاء (الاستقطاب)، فقوة الحزب تضمن وصول ابن الرئيس إلى سدة الرئاسة بعد أبيه، كانت هذه خطة الرئيس التي أفلح في إخفائها في رؤساء حكومات اعتقد أنهم ضعاف الشخصية حتى إنه يديرهم في إصبعه كالخاتم.
إحساس بالبهتة (الذهول) يعيشه قطاع واسع من التونسيين لانكشاف نوايا الرئيس الذي يبدو أن أسرته الموسعة قد أصيبت بلوثة قرطاج (سندروم قرطاج) التي أصابت أسرة بن علي قبله وربما كانت مرض بورقيبة الذي قضى على سمعته كزعيم وحوله إلى ديكتاتور سخيف وبائس.
هذه اللوثة تلخص أو تكشف وهو الأصوب مقدار الاحتقار الذي يحمله جزء من نخبة سياسية حضرية لجمهور التوانسة المنكبين على تدبر حياتهم في الحد الأدنى وقد عسرت معيشتهم حتى إنهم صاروا يفضلون الهجرة (الحرقة) على انتظار حل تونسي لأزمة يفتعلها السياسيون من أجل مطالب غريزية مثل التوريث.
لقد أفلح الباجي مرة أخرى في إعادة معركة الاستقطاب ضد الإسلام السياسي، هنا تنكشف النخبة مرة أخرى.
النخبة الحقيرة
النخبة السياسية وخاصة منها تيار اليسار والقوميين تفضل توريث الحكم في أسرة الباجي على أن يبقى الوضع مفتوحًا لاحتمال ترشح قيادي إسلامي لمنصب الرئيس، وتفضل خاصة أن تتأبد الأزمة فلا تجد لها مخارج حتى يتم تحميل كل الفشل لحزب النهضة (ممثل الإسلام السياسي التونسي) فيسقط سياسيًا.
في الأزمة الحاليّة التي خلقها الرئيس من فراغ ليسقط حكومة الشاهد بما يجعل الانتخابات تتأجل ويكسب وقتًا إضافيًا لابنه، تبين أن اليسار والقوميين انضموا إلى شق حافظ (ابن الرئيس) وهم يديرون هذه الأيام عريضة في البرلمان من أجل تجميع ثلث النواب الذي يحق له دعوة رئيس الحكومة أمام البرلمان في جلسة تصويت على الثقة، نعرف ماذا سيكسب الرئيس من إسقاط الحكومة لكن ماذا سيكسب الذين يديرون عريضة سحب الثقة.
الاستقرار الحكومة والأمني في البلد يسمح لحزب النهضة بمزيد من العمل على فوز سياسي أكبر يفوق عودتها في البلديات غانمة بعد أن ظن الكثيرون أنها اندثرت كحزب سياسي، وهي الحالة الكريهة التي يفضل كثيرون أن يضطرب الوضع السياسي والأمني حتى يلغى احتمال الانتخاب من تاريخ تونس.
فإذا حصل ذلك (وترجمته حكومة ليس بها نهضة أو حكومة أمنية غير معنية بالانتخابات) أو انتخابات بشروط المنظومة ممثلة في حافظ بما يسقط كل ما تريده النهضة، فيستعيد تيار اليسار والقوميين دورهم في خدمة المنظومة، وهو الدور الذي لعبوه في زمن بن علي والدور الوحيد الذي يتقنونه، فالصندوق أضر بهم كلما اتجهت البلاد إلى الانتخابات وآخر هزائم هذا التيار في البلديات فقد خسروا في كل المواقع التي زعموا أنها مملوكة لهم انتخابيًا.
قام الشعب التونسي ضد بن علي الذي كانت نواياه واضحة في توريث ابنه (أو زوجته) ولكن بعد سبع سنوات أعادته نخب اليسار إلى نقطة صفر
يعرف الباجي قدرات هذا التيار في الشارع (الأقلية ذات الصوت العالي)، ويعرف خاصة حقده التاريخي على تيار الإسلام السياسي، وقد جاءه طائعًا بصفته المنقذ من احتمال العيش تحت حكم حزب النهضة، كانت الصورة واضحة لذلك أدخل الرئيس الاتحاد (النقابة حيث يعشش اليسار والقوميون) في لعبة التحالفات ولا أحد كان يتوقع موقفًا آخر غير ما اتخذته النقابة إلى جانب ابن الرئيس أي تفضيل التوريث على الانتخابات.
قام الشعب التونسي ضد بن علي الذي كانت نواياه واضحة في توريث ابنه (أو زوجته) ولكن بعد سبع سنوات أعادته نخب اليسار إلى نقطة صفر، قبول توريث ابن الرئيس ولو عبر مسرحية انتخابية يتحكم بها الرئيس على أن يتحكم حزب النهضة في المشهد عبر دعم الاستقرار السياسي المفضي إلى انتخابات في موعدها وعلى غير هوى الرئيس وحلفائه.
سبع سنوات لم تطور النخبة موقفها من الإسلام السياسي، ولا تزال تصر على إنقاذ المنظومة مثلما فعلت في اعتصام الرحيل الذي أودى بحكم الترويكا (وعصبها حزب النهضة)، إن دعم ابن الرئيس (الرئيس وأسرته) في معركته ضد رئيس الحكومة هو برنامج سياسي كامل مطابق تمامًا وإن اختلفت الأسماء مع برنامج بن علي (1990)، ولذلك فإنه لا يمكن لمن يقرأ المشهد إلا أن يقف على حقارة النخبة السياسية اليسارية والقومية التي تتحدث الآن أن الإسلام السياسي يتربص بالبلد كما لو أنه عدو خارجي وليس طرفًا وطنيًا وصاحب حق في الديمقراطية.
الأزمة ستتفاقم
ما لم يبق الحكم في أسرة الرئيس وبالتحديد في شخص ابنه فإن الأزمة ستتفاقم، وقد بدأ الرئيس يعيد تجميع فلول حزبه التي تفرقت بعد انتخابات 2014 إذ تقلص حينها حجم المغانم بعد أن تم تكوين حكومة ائتلافية شاركت فيها النهضة بوزير يتيم، ولا يبدو الرئيس في وارد التراجع وقد صرح بأن على رئيس الحكومة أن يذهب إلى البرلمان ليطلب التصويت على الثقة أو أن يستقيل ليفسح المجال.
يضعنا الرئيس في موقع لا نحسد عليه؛ إما أن يظل ابنه رئيسًا من بعده أو أن يخرب البلد
حركة التونسيين في الصيف لا تركز كثيرًا على الأزمة الحكومية، فهذا موسم العطل واستعادة الأنفاس؛ لذلك نتوقع أن تظل الأزمة قائمة حتى بداية السنة السياسية (شهر سبتمبر) وحينها سيصعد الرئيس لأنه يرى نهاية مدته الرئاسية يقترب وطبعًا هو أول من يعرف أنه خاسر لا محالة ولو ترشح وحده.
هنا يتجلى البؤس المطلق، يضعنا الرئيس في موقع لا نحسد عليه؛ إما أن يظل ابنه رئيسًا من بعده أو أن يخرب البلد، نحن الآن نحمد الله على أن ليس للرئيس أسلحة بشار وبراميله، رغم أن الأثر، واحد فالفعلان يكشفان احتقار النخب لشعوبها، لقد تعشى الرئيس الكراع أما الذراع فقد أخذها في التحلية، فشرفات قصر قرطاج تفتح الشهية.