في مثل هذا اليوم من كل عام، تقام الاحتفالات بذكرى حركة ضباط 23 يونيو في مصر التي أزاحت الملكية وجاءت بالجمهورية لتبشر بها العالم العربي وتشعل شرارة التمرد على الملكية، يتحرك الإعلام والساسة لتذكير الفقراء بشعارات العدالة الاجتماعية التي كان يرفعها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عنوانًا لحكمه، كان الرجل زعيمًا بالفعل كما يحلو لأتباعه تسميته، كان استثنائيًا بل وملك الثنائيات في كل شيء: الحب والبطش، القوة والضعف، العدالة والظلم، الحقيقة والوهم، العدالة الاجتماعية وتجريف الاقتصاد، الشموخ والتحدي، وزرع الاستكانة والخمول في الشخصية المصرية.
ماذا تعني العدالة الاجتماعية؟
كما هو الحال في كل شيء، يختلف مفهوم العدالة الاجتماعية اختلاف المسافة بين السماء والأرض في بلاد الشرق عن أقرانه في الغرب، لدينا المفهوم دائمًا ساحة للمزايدة، بينما في الغرب يرتكز على مساحة أوسع من الحقوق والواجبات، وبسبب عدم مناسبة المصطلح مع ظروف كل دولة، لم يجد العالم ضرورة للإجماع عليه، بل تركه قرين عدد أفراد الشعب والموارد اللازمة لتطبيق هذا المنهج بشكل متساو، عندما لا تكون هناك حاجة للتنافسية والسوق الحر.
المثير للدهشة أن جميع الاتفاقات الدولية منذ بداية تأسيس الأمم المتحدة، لم تضبط في بندًا واحدًا تتحدث بشكل واضح ومحدد عن العدالة الاجتماعية، بداية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1984، أي قبل تولي جمال عبد الناصر الحكم في مصر، مرورًا بالعهدين الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والآخر المعني بالحقوق المدنية والسياسية، وكلاهما صدر عام 1966، أي قبل انتهاء عهد عبد الناصر بخمس سنوات.
إلا أن الأخير جعل من عنوان العدالة الاجتماعية عنوانًا لحكمه، وأصبح مقترنًا بسيرته في بلاد كانت بأشد الحاجة لتعزيز التنافسية والانطلاق وتوقير التعددية وزرع حب الكد والكفاح ومجاراة دول العالم الأول في مشوار التقدم.
في مارس عام 1935، وتحت ضغط شعبي مكثف مصحوب بتحريض مستمر من القوى السياسية والاجتماعية، اضطر الملك فؤاد إلى العودة للعمل بدستور 1923 الأفضل في التاريخ المصري على الإطلاق، الذي وضع الدولة في مادة واحدة بينما سطر حقوق المصريين وواجباتهم في 21 مادة، وأعطى سلطات واسعة للبرلمان على حساب الملك، لم يجعل طه حسين العلامة المصري وعميد الأدب العربي، يستكين ويتوقف، بل خرج الرجل ليؤكد ضرورة العمل وبقوة، وأخذ موضوع “التمكين” من الحرية والاستقلال على محمل الجد، ومن نفس الزوايا التي أجادت فيها الدول المتقدمة .
تحت شعار العدالة الاجتماعية، فُرضت الحراسة على الأغنياء وعُرض بالكثيرين وطبقت القوانين الاشتراكية بشكل مجتزئ
كان حسين يرى ببصيرته عوضًا عن فقدانه بصره، وضحت الرؤية لديه فعرف أن استعادة الحرية مجرد بداية لتحمل تبعات جسام إذا لم نُحسن التعامل معها، وهو الأمر الذي غاب عن جمال عبد الناصر، فانصرف في مخططه الرامي إلى خلق دولة متكاملة على جميع المستويات، صاحبة نفوذ يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي، دون أن تتوفر لديه ورجاله الخبرة اللازمة.
تحت شعار العدالة الاجتماعية، فُرضت الحراسة على الأغنياء وعُرض بالكثيرين وطبقت القوانين الاشتراكية بشكل مجتزئ، وبدلاً من حث الشعب على العمل بآليات حداثية وفق أفضل السبل لذلك في هذا الوقت، تحركت الآلة الإعلامية، نفخت في الذات المصرية، وأصبحت تُصور للمصريين ليل نهار أنهم شعب الله المختار، سيأتي إليهم كل شيء كانوا يحلمون به وهم في أمكانهم، دون أعباء أو شراكة في تحمل المسؤولية.
توافرت مظاهر الرخاء في البداية بعد قوانين التأميم وتوزيع أراضي الأغنياء على الفقراء دون منهجية أو استعداد وتأهيل، لتبدأ بعد أعوام قليلة مظاهر التخضم وجني ثمار العدالة الاجتماعية “الدعائية”؛ ظهرت الطوابير لأول مرة في مصر أمام الجمعيات التعاونية التي كانت قد بدأت مشوار الدعم المفتوح والكلي، وتحميل الدولة مسؤوليات وأعباء صارت تتراكم عليها عامًا بعد الآخر.
بحلول السبعينيات، وقبل رحيل ناصر عن دنيانا، كانت أعراض المرض في المجتمع ومرحلة جني ثمار اللاشيء قد بدأت بالفعل، وصار الحصول على بعض المواد الغذائية حلمًا لا يتم إلا بالواسطة، وهي المأساة التي سخرت منها العديد من الأعمال السينمائية التي تناولت تلك الحقبة في مرحلة ما بعد ناصر.
ممدوح في الجمعية لشراء فراخ.. فيلم زوج تحت الطلب
عبد الناصر وتجريم “مجتمع الحفلات”
كان عبد الناصر يحلم بمثالية لا وجود لها في الواقع بإزالة الفوارق بين الطبقات، ورغم سعيه لإقامة مشروعات عملاقة للصناعات الواعدة في هذا الوقت مثل الحديد والصلب والسماد والورق، فإن تواضع كيفية إدارة العنصر البشري، وتسليحه بآليات التنافس التي تجعله يقبل على العمل ذاتيًا لأجيال قادمة، لم تكن متوفرة، وكأي نظام حكم فردي استبدادي، اعتمد ناصر على أهل الثقة، فتعرضت هذه المصانع التي أرهقت ميزانيات الدولة لأزمات اقتصادية خطيرة، وظلت تتراكم وتتكاثر، حتى تحولت التركة الكبيرة إلى أشلاء وعبء على الدولة والمجتمع، لا سبيل للنهوض بها أو إصلاحها.
هاجس العدالة الاجتماعية والولع بالحصول على نيل رضا الفقراء والتدليل لهم في كل موقف على أنهم الطبقة الحاكمة السيدة صاحب الأمر في مصر التي دانت لها البلاد والعباد، كان يصاحب ناصر في كل قراراته
“لو كنا انضمينا لمجتمع الحفلات والطبقة وتحالف الإقطاع مع رأس المال بالنسبة لينا شخصيًا كضباط كبار كان الموضوع أريح، ولكن لو كنا كدا مكناش فكرنا في الثورة”، هكذا حكي ناصر في تجمع صاخب، خلال أحد خطاباته عن العدالة والاجتماعية، وكيف أن مجلس قيادة الثورة اختار الطريق الصعب من وجهة نظره، وربما هنا تلخصت المأساة.
يكشف ناصر نفسه في هذه السطور التي ألهبت حماس “جموع الغلابة” الجالسين أمامه وكانوا يصاحبونه بالهتاف والتصفيق الحار في خطاباته كافة، سر غياب الطموح عن السواد الأعظم من الشعب، وشيوع ثقافة “الستر والصحة” التي صاحبت المصريين بداية من تلك الحقبة، واستمرت ملازمة لهم حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي؛ فرجل الأعمال أو صاحب رأس المال، شخص مكروه ونموذج فج للفساد والرغبة في السيطرة والتسلط، وهو بأي حال شخص غير نزيه، ومتكالب على جمع المال، ولا يشرف المصريين الاقتداء به.
من خطاب عبد الناصر عن العدالة الاجتماعية
هاجس العدالة الاجتماعية والولع بالحصول على نيل رضا الفقراء والتدليل لهم في كل موقف على أنهم الطبقة الحاكمة السيدة صاحب الأمر في مصر التي دانت لها البلاد والعباد، كان يصاحب ناصر في كل قراراته، بداية من “العيش” نهاية بالتعليم، خصوصًا الأخير الذي كان يجد أقصى درجات الصرامة في العصر الملكي لتخريج طلاب ينافسون أبناء العالم المتقدم في اللغات والفهم والثقافة والعلوم، فابتكر نظام عبد الناصر نظامًا غريبًا يسمح للطلاب الحاصلين علي الثانوية العامة بمجموع أقل من 50% بالالتحاق بالجامعات بنظام الانتساب.
كان الهدف من هذا القرار، إتاحة الفرصة لأبناء الفقراء للسيطرة على التعليم الجامعي، خلط النظام الناصري بشكل مثير للغرابة بين الفشل والجهل والفقر، فالشباب الذي كان يجب توظيفه حسب اجتهاده في التحصيل العلمي، كسُرت له جميع الحواجز لمجرد أن يكون ابن الفقير حاصلاً على مؤهل عال يناطح به أبناء الأغنياء ويضيق عليهم، حتى تسود هذه الطبقة، وتضيق على من كانوا يسيطرون على جميع فرص التعليم الراقي في مرحلة ما قبل عبد الناصر.
كان يلزم لهذه الخطوة، خطوة أكثر أريحية، فتكفلت الحكومة بتوظيف الخريجين جميعًا، ولم يكن مهمًا أن يعمل أحد، المهم أن يحصل الفقير على راتب دون عمل، بما أسس لدولة تطفو على بحيرات من البيروقراطية والفساد والمحسوبية، ولم ينتبه ناصر طوال حكمه إلى ضرورة عمل توازن بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة، في ضوء الشراكة والمسؤولية الاجتماعية التي هي لب فكرة العدالة الاجتماعية، فانتهكت سيادة القانون، ومع مرور الوقت والسنوات وتراكم المشكلات والأزمات، بدأت كل طبقات المجتمع تشعر بثمن المعنى الهلامي للعدالة الاجتماعية.
صاحب هاجس تصعيد الفقراء “عبد الناصر” في جميع قرارته، فكان تصعيد هذه الطبقة وتمكينها، جل ما يسعى إليه الرئيس المصري الأسبق
أصبحت الوظيفة الحكومية جزءًا أصيلاً من ثقافة المجتمع، بعدما وضعت الدولة بجهازها البيرواقراطي الضخم، جميع العقبات التي لا تخطر على قلب بشر أمام قوى السوق في الحقبة الناصرية، وأصبحت بديهيات المجتمعات المفتوحة التي انطلقت من ذلك التاريخ في بلدان مجاورة كانت تقبع في مستنقعات التخلف، من رابع المستحيلات، وظلت مصر طيلة حكم عبد الناصر، تناهض قواعد السوق الحرة وتعزيز مبدأ التنافسية، وسيطرت اليد الطولى للدولة على كل شيء.
صاحب هاجس تصعيد الفقراء عبد الناصر في جميع قرارته؛ فكان تصعيد هذه الطبقة وتمكينها، جل ما يسعى إليه الرئيس المصري الأسبق صاحب الشعبية الأكبر في تاريخ المنطقة، لدرجة أنه لجأ إلى حيلة غريبة للتعامل مع ظاهرة الإحجام عن بناء المنازل بسبب القانون 4 لسنة 1921 الذي كان ينتقص من حقوق الملاك، وبدلاً من الوصول إلى صيغة تحفظ حقوق جميع الأطراف، أصدر ناصر مرسومًا عسكريًا يقضي بعرض جميع الوحدات التي تم بناؤها منذ عام 1944 وما بعدها بنظام العرض والطلب.
استجاب المؤجرون للقانون، وتم ملء فراغ أغلب الواحدت القديمة، ليتفاجأ الجميع بمرسوم آخر من عبد الناصر، يأمر فيه بتخفيض القيمة الإيجارية للوحدات التي خضعت لهذا القانون، وحصن المستأجر من المالك حتى بعد انقضاء مدة التعاقد، وأعطى له الحق في تمديد عقد الإيجار إلى أقاربه من الدرجة الرابعة، ما مثل كارثة بجميع المستويات على العاملين بهذا القطاع، الذي دمر تمامًا وتوقف طوال تلك الفترة، مما أثر بشكل كبير على تفشي أزمة السكن التي تفجرت خلال عصر السادات، بعدما قفز تعداد مصر من 18 مليون نسمة وقت صدور هذا القرار إلى 36.6 مليون نسمة منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
كثيرة هي إنجازات عبد الناصر وكثيرة أخطاءه أيضًا، مثل كل إنسان، له ما له وعليه ما عليه، حاول تأسيس دولة قوية تناطح العالم، نجح في عمل تأثير غير مسبوق وأسس لأيدلوجية جديدة ـ إن جاز التعبير ـ تسمى القومية العربية، تجمع العرب من المحيط للخليح، ونجحت في ذلك بالفعل، ولكن التجربة أثبتت أن الناصرية والقومية لم يخلفا وراءهما إلا فشلاً متراكمًا وشخصية مشوهة وبذرة حكم تفرض قرار الحاكم بالحديد والنار، وأنظمة تداعب الفقراء وتتلاعب بغرائزهم وليست منهم في شيء.