عرفت دولة الموحدين خلال عهد الخليفة إدريس المأمون أحداثًا كبرى أثرت على مستقبلها، فنتيجة الصراع على السلطة بين الأخوة وأبناء العم ضاع ملك الموحدين، حيث انفصل الحفصيون وأسسوا دولة جديدة في إفريقية يصل حدودها إلى مدينة بجاية الجزائرية.
فضلًا عن ذلك فقد الموحدون نهائيًا بلاد الأندلس عقب ثورة ابن هود – وهم الذين حموا الثغور هناك من هجمات الجيوش النصرانية لعقود طويلة – فكان وقع ذلك كبيرًا على مستقبل الإسلام والمسلمين في تلك الربوع، حيث انقض الإفرنجة على ملك المسلمين للسيطرة عليه والتنكيل بالأهالي.
حاول الخليفة إدريس المأمون رص الصفوف وإعادة ترتيب الأمور علّه يستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه إلا أنه فشل في ذلك، فالمنية كانت أسرع من تحقيق أهدافه، كما أن الشيوخ وكبار الحاشية لم يكونوا في صفه، فقد تبرأ من عقيدة الأب الروحي للدولة – المهدي المنتظر – واستنجد بالنصارى في حربه ضد ابن عمه على السلطة، ومنح المسيحيين امتيازات كثيرة وسمح لهم بنشر المسيحية في بلاد المغرب.
ولم يكن عهد خليفته أبي محمد الرشيد عبد الواحد الذي حكم البلاد مدة 10 سنوات أفضل منه، فقد تواصلت الفتن وعرفت الدولة ثورات داخلية عديدة ضدها، وحتى يستميل الشيوخ وأهالي الموحدين أعاد الخطبة بذكر المهدي ابن تومرت، لكن ما باليد حيلة.
بيعة الرشيد
تمّت البيعة بالخلافة لأبي محمد الرشيد عبد الواحد ثاني يوم من وفاة والده، أي يوم الفاتح من شهر محرم سنة 630 هجريًا، وعمره حينها لم يتجاوز 14 ربيعًا، وتوفي والده وهو في طريق عودته على رأس جيشه من سلا إلى مراكش بعد أن سمع أن ابن أخيه يحيي المعتصم سيطر على العاصمة.
كانت بيعة عبد الواحد خاصة، حيث انحصرت في أكابر قادة الجيش والشيوخ والسادة، ذلك أن أمه وهي إفرنجية الأصل، كتمت وفاة الخليفة الراحل إلى حين، حتى يتمكن ابنها من أخذ البيعة من كبار القوم وفرض سيطرته على ما تبقى من الجيش.
أول عمل قام بيه الخليفة الجديد هزيمة ابن عمه يحيى بن الناصر الذي ينازعه في الحكم، واستعاد مراكش ودخل العاصمة ومعه عمه أبى محمد عبد الله بن أبي سعد بن المنصور، وولاه وزارته وكانت له في الدولة مكانة رفيعة، كما وفد معه كثير من عرب الخُلط المخلصين له ولأبيه من قبل، واستقروا في مختلف الأنحاء لتأمينه.
هذا الانتصار الأولي على ابن عمه يحيى الذي ينازعه السلطة، سمح بتعزيز موقف الخليفة الرشيد الشاب الذي لا يزال مستترًا، والذي سيكون مسؤولًا عن حكم الدولة الموحدية المتداعية على مدى السنوات الـ10 القادمة.
ثورة ابن وقاريط
وما إن جلس الخليفة الرشيد على كرسي العرش وبدأ النظر في كيفية الإصلاح، حتى ثار عليه شيخ قبائل الحسكورة ابن وقاريط، رغم أنه سبق أن استضافه الملك في قصره حين نزل من جبله وقدم مراكش ومعه أولاد الخليفة المأمون إخوة الرشيد الصغار، ومنحه العديد من الامتيازات منها جباية هزرجة وأغمات وريكة، وغير ذلك.
اغترّ ابن وقاريط بكثرة جمعه وتوطد نفوذ قبيلته، وأعلن العصيان والرجوع عن بيعة الخليفة الرشيد والانضواء تحت لواء منافسه يحيى المعتصم، وكان ذلك أواخر سنة 630 هجريًا، وهي ليست المرة الأولى التي يثور فيها ابن وقاريط على دولة الموحدين.
استنفر الموحدون لقتال ابن وقاريط وحليفه الجديد يحيى المعتصم، وقاد الخليفة الرشيد الجيش بداية سنة 631 هجريًا إلى معسكر أعدائه في بلاد هزرجة، واستخلف على عاصمة الملك صهره أبا العلى إدريس، وصعد إليهم الجبل فأوقع بيحيى وجموعه واستولى على معسكرهم، ففر يحيى إلى بلاد سجلماسة وولى أصحابه الأدبار.
ظفر الخليفة الرشيد بالمعركة، فارتفع صيته بين الموحدين وزادت حظوته ونفوذه على ما تبقى من ملك آبائه، ورجع إلى عاصمة الملك مراكش وفي نيته إصلاح أوضاع الرعية وإدخال بعض الإصلاحات في الدولة علّه ينقذها من خطر الاندثار.
وكانت هزيمة ابن وقاريط على هذا النحو الشامل، ضربة شديدة للطوائف المتربصة بعرش الدولة الموحدية، كما أنقذت مراكش من كابوس خانق، فانتظمت الأحوال لفترة وانتعشت النفوس، وعمرت الديار، وارتفعت المظالم.
الصلح مع زعماء الموحدين
أهم ما غنمه الخليفة الرشيد من نصره الأخير عودة بعض زعماء الموحدين إلى بطانته، فالعديد من الزعماء الذين اصطفوا في بداية الصراع على السلطة إلى جانب يحيي المعتصم، قد أبدوا رغبتهم في العودة إلى حظيرة الرشيد وطلبوا العفو منه.
ويعود سبب ذلك أولًا إلى غلبة كفة الرشيد على كفة يحيى في الحرب، وثانيًا إلى تحركات يحيى وارتمائه في أحضان قبائل هسكورة وابن وقاريط، وهم خصومهم الأبرز في المنطقة، فتم عقد صلح بين هؤلاء الزعماء والخليفة الرشيد الذي أصدر عهده لهم بالأمان.
أمر خليفة الموحدين العاشر إعادة رسوم الإمام محمد بن تومرت وقوانينه وتقاليده كما كانت منذ قيام الدولة الموحدية، فضلًا عن إعادة الدعاء له بعد الصلاة
لم يكن هذا الصلح بالأمر الهين، فقد وقف ضده شيخ الخلط مسعود بن حميدان، ورأى في انضمام الموحدين إلى الخليفة الرشيد تقوية لشوكته، وإضعافًا لمركز الخلط، فعمل على القضاء على زعماء الموحدين الراغبين في الصلح مع الخليفة.
اضطر الخليفة الرشيد إلى مواجهة زعيم الخلط لاستكمال خططه، إلا أن القضاء عليه لم يكن أمرًا هينًا لكثرة الموالين له وامتلاكهم السلاح الكامل، فرأى الخليفة خداع ابن حميدان وقتله في مراكش، وأعدّ لذلك خطة تتمثل في ارسال جيش الموحدين إلى بلاد حاحة للحصول على جبايتها واستقدام زعيم الخلط إلى مراكش، ذلك أنه يخشى المثول في العاصمة مع وجود الجيش.
دخل مسعود قصر الحكم معززًا مكرمًا، لكن ما هي إلا أيام قليلة حتى قُتل مع أصحابه، فزال الخطر لبعض الوقت، وعلى الإثر توافد زعماء الموحدين إلى البلاط لإتمام عملية الصلح مع الخليفة الرشيد فالعقبات قد زالت.
الرجوع لإرث المهدي
حتى يضمن الخليفة الرشيد نجاح المصالحة مع زعماء الموحدين واستمالة الأهالي، كان عليه أن يلغي أبرز قرارات أبيه إدريس المأمون المتعلقة بالأب الروحي للدولة الموحدية محمد بن تومرت الذي ادعى حين جهره بدعوته أنه المهدي المنتظر.
وأمر خليفة الموحدين العاشر إعادة رسوم الإمام محمد بن تومرت وقوانينه وتقاليده كما كانت منذ قيام الدولة الموحدية، فضلًا عن إعادة الدعاء له بعد الصلاة، فرحب الأهالي بذلك لما يكنون من محبة كبير لصاحب الدعوة الموحدية.
وكان الخليفة السابق قد تبرّأ من عقيدة ابن تومرت ولعن صاحبها ووصفه بالغوي المذموم، وأنكر عنه العصمة وأمر بمحو اسمه من السكة والخطبة وتغيير سننه التي ابتدعها للموحدين وجرى عليها، ومنها النداء للصلاة باللغة الأمازيغية وزيادته في أذان الصبح، كما أمر بتدوير النقود التي ضربها ابن تومرت مربعة.
الوحدة السياسية
في أثناء انشغاله بإعادة ضبط الأمور في منطقة سجلماسة، وصل سنة 633 هجريًا إلى مسامع الخليفة الرشيد خبر طال انتظاره، فقد بلغه أن جمعًا من عرب المعقل قتلوا يحيي المعتصم بن الناصر وأرسلوا جثته إلى مراكش لدفنها هناك، وكان يحيى قد لجأ إلى هذه القبيلة لحمايته.
بذلك تمكن الخليفة الرشيد من إعادة الوحدة السياسية مرة أخرى، التي تم كسرها إثر وفاة خامس خلفاء الموحدين أبي يعقوب يوسف المستنصر، وكان هذا الانقسام نذير شؤم على الدولة الموحدية وبداية تفككها وانهيارها.
يُذكر أن يحيى المعتصم حكم الموحدين لفترة صغيرة بعد أن قام شيوخ الموحدين بخلع الخليفة أبى محمد عبد الواحد وقتله في شهر شعبان من سنة 621 هجريًا، إلى أن تم خلعه هو الآخر وتقديم إدريس المأمون مكانه على رأس الدولة، ومنذ ذلك الوقت استمر يحيى في التشكيك في شرعية الخلافة إلى حين مقتله على يد من لجأ إليهم.
وتعد قبيلة بني معقل التي قتلت يحيى من أكبر قبائل العرب في المغرب، وقد ذكر المؤرخ ابن خلدون أنهم من “أوفر قبائل العرب”، وكان دخول هذه القبيلة لبلاد المغرب مع بني هلال في عدد قليل يعادل 200 فرد، قبل أن تتوافد باقي شعوب القبيلة لينتشروا في بلاد المغرب مكتسحين جميع فيافيه.
عودة إشبيلية لرحاب الموحدين
بعد أن أحكم الخليفة الرشيد سيطرته على كرسي الحكم بمراكش وبعد مقتل ابن عمه يحيى المعتصم، رأى أهل إشبيلية أن ينقضوا طاعة ابن هود ويبايعوا الرشيد، وتم ذلك سنة 635 هجريًا، أي في عهد الوالي أبو عمر بن الجد.
وبذلك عادت حاضرة الموحدين في الأندلس إلى أبناء عبد المؤمن، إلا أن واليها عقد في وقت لاحق معاهدة مع قشتالة تنص على أن تكون مدينة إشبيلية تابعة لمملكة قشتالة، وأن يحضر اجتماعات البلاط، ويؤدي الجزية لملك قشتالة، ويقدم له العون متى طلب إليه ذلك، فثار عليه الأهالي وقتلوه.
وكبادرة حسن نية، أمر حاكم إشبيلية بالقبض على ابن وقاريط الذي لجأ إلى الأندلس بعد تراجع قوته في المغرب، وأرسل به إلى الخليفة الرشيد في مراكش، وما إن وصل ابن وقاريط إلى الرشيد حتى أمر بقتله وتعليق جثته على باب الشريعة وتم ذلك أواخر سنة 635 هجريًا، وانتهى بذلك أمر ابن وقاريط واستراح الخليفة من أحد أبرز أعدائه.
عقب ذلك، منح الخليفة الموحدي الإشبيليين حق اللجوء إلى المغرب، وبعد سقوط المدينة في يد النصارى قدم العديد من الإشبيليين إلى المغرب هربًا من الانتقام منهم.
وبعدها بسنة، وصلت إلى الخليفة الرشيد بيعة محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر صاحب غرناطة ومالقة، وكان ابن الأحمر، يتردد في الطاعة بين الانضواء تحت طاعة ابن هود، والخلافة الموحدية والخلافة العباسية.
اشتداد عود بني مرين
عادت بعض مدن الأندلس إلى رحاب دولة الموحدين، في المقابل فقد الموحدون مدنًا وحصون مهمة في المغرب لصالح بني مرين الذين استغلوا انشغال أبناء عبد المؤمن بالصراع على الحكم طيلة أكثر من عقد ونصف، لرص صفوفهم وإعادة ترتيب بيتهم الداخلي بعد الانقسام الذي حصل داخلهم إثر مقتل زعيمهم محيو بن أبي بكر.
انتشر بنو مرين ببلاد المغرب واشتدت شوكتهم بها، فاختار الخليفة الرشيد الزحف إليهم لوقف تقدمهم، إلا أنه هُزم في المرة الأولى والثانية والثالثة وامتدت المعارك بينهما سنتين تكبد خلالها الموحدون خسائر كبرى، فاضطر الرشيد إلى العودة لمراكش والتحصن بها.
سيطر بنو مرين على العديد من المدن وفرضوا الجباية على مكناسة ووصلوا أحواز فاس دون أن تتمكن الدولة الموحدية من التصدي لهم، فوسعوا سلطانهم ووطدوا حكمهم واندفعوا غربًا، وأطاعتهم معظم القبائل في تلك المنطقة ومنها هوارة وتسولة.
ورغم مقتل زعيمهم أبي سعيد عثمان بن عبد الحق، فإنهم لم يتوقفوا على الزحف نحو حاضرة الموحدين، إذ تولى زعامتهم أبو معرف محمد بن عبد الحق وضمّ إلى صفه معظم القبائل العربية، كقبائل بني هلال والخلط وبني جابر وبني زغبة وبني سفيان وسويد وبني سليم وبني عامر وبعض بني رياح، بالإضافة لبعض بني معقل.
أمام قوتهم وتزايد أعدادهم باستمرار، رأى الخليفة الموحدي أن القتال معهم لن يجدي نفعًا، وقرر مسايرتهم والصلح معهم لكن المنية وافته قبل أن يتم ذلك، حيث توفي بداية شهر جمادي الآخرة من سنة 640 هجريًا.
امتدت خلافة الرشيد أكثر من 10 سنوات وتوفي في الـ24 من عمره، وخلال سنوات خلافته استطاع الرشيد أن يقوم ببعض الإصلاحات في الدولة، إلا أن حوادث كثيرة أرغمته على أن يخوض جل وقته في الدفاع عن عرشه ومحاربة خصومه.