تجري بعض أبيات الشعر مجرى الحكمة، وأخرى تسطر تجارب شخصية أو معاناة نفسية، وقد كان الشعر ديوان العرب ووزارة إعلامهم، ثم تراجع إلى مرتبة الوصيف وتربعت الرواية وتسيّدت، فكانت مجالس الخلفاء والخواص وأهل اللغة والفقه تطرب للشعر، واليوم نحلق في آفاق بيتٍ واحد، ونقف مع مواقف عدة ارتبطت بهذا البيت، ونقتطف من فوائدها لطائف عدة.
في العصر الأموي عرفت العرب نوعًا جديدًا من فنون الشعر، إنه الغزل أو النسيب والتشبيب، على اختلافٍ يسير بينها في الدلالة، وكان الغزل أيام الجاهليين وفي صدر الإسلام وسيلةً وليس غاية، لكن الترف الذي عاشه العرب إبان حكم الأمويين دفعهم للاستقلال بالغزل، ونقله من وسيلة كما هو الحال في وصف الراحلة والبكاء على الأطلال إلى فنٍ قائم بذاته، وكانت العرب تعترف لقريش بالسيادة في كل شؤون الحياة عدا الشعر؛ فلما ظهر عمر بن أبي ربيعة وهو رائد فن الغزل الصريح، شهدت العرب لقريش بالسبق في الشعر.
الغزل انقسم إلى غزل صريح وأطلق عليه الغزل العمري (نسبة إلى عمر بن أبي ربيعة)، والغزل العفيف أو العذري (نسبة إلى قبيلة بني عذرة الحميرية، وكانت تقطن وادي القرى الواقع بين الشام والمدينة المنورة)، ولكل نوعٍ منهما مسميات عدة، وعلى اختلاف النوعين فإن النقاد وأهل الأدب يرون أن عمر بن أبي ربيعة رائد فن الغزل في العالم العربي بلا منازع.
رواد الغزل الصريح عمر بن أبي ربيعة والعرجي في مكة المكرمة، والأحوص في المدينة المنورة، والبيت الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم للعرجي، واسمه عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وله قرابة للنبي الكريم من جهة الأم، ولقب بالعرجي نسبة إلى موضع يقال له “عرج الطائف” كما ذكر ابن قتيبة والحصري والمبرد وابن خلكان، ولم تذكر المصادر تاريخ ولادته ولا مكان الولادة، واختلفوا في وقت وفاته فذكر بعضهم أنه لقي ربه سنة 93 هجرًا، ورجح آخرون أن وفاته كانت سنة 120هجريًا.
ومناسبة القصيدة التي يشملها البيت تدخل في إطار الغزل الصريح، لكنه غزل تمخض عن سياسة! فقد رغب العرجي في منصب سياسي في خلافة هشام بن عبد الملك، وتطلعت نفسه لولاية مكة، وكان محمد بن هشام المخزومي خال الخليفة يتلمس نفس المنصب الذي يريده العرجي؛ فأسند الخليفة ولاية مكة لخاله، وهنا بدأ الصدام بين العرجي والمخزومي، ولجأ كلُّ واحدٍ لسلاحه.
ارتكز المخزومي على ابن اخته الخليفة، وتحصّن العرجي بشعره ولسانه؛ فتغزل غزلًا صريحًا في أم المخزومي، وسجنه المخزومي تسع سنوات، وقد ذكر قصة سجنه في مواضع عدة من شعره، والذي يعنينا من ذلك هو قوله:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ليومِ كريهةٍ وسِدادِ ثغر
وصبرٍ عند معتركِ المنايا وقد شرعتْ أسنتُها بنحري
أجرَّر في الجوامِعِ كلَّ يومٍ فيا لله مظلمتي وصبري
كأني لم أكن فيهم وسيطًا ولم تكُ نسبتي في آل عمرو
مات العرجي في السجن؛ فلما أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، قبض على محمد بن هشام المخزومي وسجنه وضربه بالسياط – حتى أدماه ومات متأثرًا بالضرب – انتقامًا للعرجي.
والبيت الأول من هذه القصيدة كان ينشده جار للإمام أبي حنيفة، وكان الجار إسكافيًا يعمل نهاره أجمع؛ فإذا جن عليه الليل عاد لبيته ومعه لحم وسمك وخمر؛ فإذا دبَّ فيه السكر أنشد:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ليوم كريهةٍ وسِداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد البيت حتى يغلبه النوم، وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله ويسمع جاره، ففقده في بعض الليالي وسأل عنه؛ فقيل له: أخذه العسس منذ ثلاث ليال وهو محبوس، فصلى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير عيسى بن موسى وشفع لجاره حتى أخرجه، وأردفه على بغلته ثم قال الإمام: أترانا أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن صحبة الجوار ورعايته، ولله عليّ أن لا أشرب بعدها خمرًا؛ فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه.
وهذا البيت حكى عنه الأصمعي قصة، وهي أنه مر على كناس يكنس كنيفا وينشد هذا البيت، قال الأصمعي (وكنت حديث السن فأردت العبث به) فناوشته بقولي: أما سداد الثغر فلا نعلم كيف أنت فيه وأما سداد الكُنُف فمعلوم؛ فأعرض عني مليًا ثم أقبل عليّ وهو ينشد:
وأُكرِمُ نفسي إنني إن أهنتُها وحقِّكَ لم تُكرَم على أحدٍ بعدي
فقلت: وأيّ كرامةٍ حصلت لها منك وما يكون من الهوان أكثر مما أهنتها به! فقال: لا بل والله من الهوان ما هو أكثر وأعظم مما أنا فيه، قلت: وما هو؟ قال: الحاجة إليك وإلى أمثالك، قال الأصمعي: فانصرفتُ وأنا أخزى الناس ذكرت بقول الكناس.
ويحكي صاحب الأغاني أن إسحاق الموصلي غنى بيت العرجي لهارون الرشيد، وسأله الرشيد عن سبب هذا البيت؛ فأخبره خبر العرجي وموته، وتغير وجه الرشيد واغتاظ، فما سرى عنه إلا معرفته أن ابن هشامٍ المخزومي قُتِل جزاء فعلته، وقال: يا إسحاق! والله لولا ما حدثتني به من فعل الوليد لما تركت أحدًا من أماثل بني مخزوم إلا قتلته بالعرجي.
وقصة أخرى تجمعنا بهذا البيت، وننقلها من مجلس الخليفة العباسي المأمون، وبطل القصة النضر بن شميل المازني، والنضر بن شميل من رجالات النحو والأدب والغريب، وهو من أصحاب الخليل بن أحمد الفراهيدي، ضيَّق الدهر عليه حتى خرج من البصرة إلى خراسان، وشيعه في خروجه ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو عروضي أو فقيه أو إخباري أو لغوي، انظر إلى مكانة الرجل وواسع علمه! ومع ذلك فقد قلبت له الدنيا ظهر المجن، حتى قال في وداع هؤلاء: “يا أهل البصرة! يعز عليّ فراقكم، والله لو وجدتُ كلَّ يومٍ أكلة باقلاء ما فارقتكم”.
وفي خراسان استفاد مالًا عظيمًا، ومن ذلك أنه أخذ على حرفٍ واحد ثمانين ألف درهم، وهذا الحرف هو بيت قصيدنا في هذا الحديث، ففي بعض الأيام دخل النضر بن شميل على المأمون، فقال المأمون: ما هذا التقشُّف؟ تدخل على أمير المؤمنين بهذه الخُلقان! (أي الملابس المهترئة البالية)، ثم تشعب بهم الحديث فقال المأمون: حدثني هشام عن مجاهد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا تزوّج الرجلُ المرأةَ لجمالِها ودينها كانت له سَدادًا من عوز”.
قال النضر: صدق يا أمير المؤمنين! وقد حدثنا عوف عن ابن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا تزوج الرجل المرأة لجمالها ودينها كانت له سِدادًا من عوز”، وكان المأمون متكئًا فاستوى جالسًا وقال: يا نضر! كيف قلت سدادًا؟ قال: بالكسر، يا أمير المؤمنين! لأنها بالفتح لحن (أي خطأ لُغوي)؛ فقال المأمون: أوتلحنني؟ قال النضر: إنما ألحنُ هشامًا (راوي الحديث الذي ساقه المأمون) وكان لحانةً فتبِع أميرُ المؤمنين لفظه، قال المأمون: فما الفرق بينهما؟ قال: السَداد بالفتح القصد في الدين والسبيل، والسِداد بالكسر البالغة وكل ما سددت به شيئا فهو سِدادة. قال المأمون: أوتعرف العرب ذلك؟ قال: نعم! هذا العرجي يقول:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ليوم كريهةٍ وسِداد ثغر
قال المأمون: قبّح الله من لا أدب له! ثم دار بينهم كلام وكتب المأمون إلى الفضل بن سهل أن يعطي النضر خمسين ألف درهم؛ فسأله الفضل عن سبب الجائزة فأخبره الخبر؛ فقال الفضل: لحّنت أمير المؤمنين؟ قال: إنما لحنتُ هشامًا وكان لحانة؛ فتبع أمير المؤمنين لفظه، وقد تُتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار، فاستحسن الفضل جواب النضر وأعطاه ثلاثين ألف درهم؛ فأفاد النضر بحرفٍ واحدٍ ثمانين ألف درهم.
ذاع صيت بيت العرجي حتى ضمنه بعض الشعراء في قصائدهم كاملًا أو شطرًا منه، ومن هؤلاء الحريري (446 – 516هـ):
على أَنِّي سَأُنْشِدُ عِنْدَ بَيْعي أضَاعُونِي وَأَيَّ فَتىً أضَاعُوا
وأبو بكر بن اللبانة الداني الأندلسي (ت 507هـ):
وأترك جيرة جاروا وأشدو أضَاعُونِي وَأَيَّ فَتىً أضَاعُوا
وفي العصر الحديث عبد اللطيف الصيرفي (1841 – 1904م):
أيا أسفاه من أرجو بَقاهمْ أضَاعُونِي وَأَيَّ فَتىً أضَاعُوا
واقتبس البيت كاملًا أبو عمر يوسف بن هارون الكندي الرمادي (305 – 403هـ) في عينيته، وأبو بكر جمال الدين بن نباتة المصري (686 – 768هـ) في عينيته أيضًا.