تمتع الخليفة الموحدي العاشر الرشيد كأبيه الخليفة المأمون، بمجموعة من الخصال القوية اللامعة، من الذكاء والجرأة وقوة العزم وبُعد النظر، وحاول خلال فترة حكمه التي امتدت إلى نحو عقد من الزمن، إعادة تثبيت عرش الموحدين الذي تزعزع نتيجة الصراع عليه وضربات المتربصين بالدولة من كل جهة، إلا أن الظروف السيّئة التي جاء فيها كانت أقوى منه.
مع ذلك، استطاع تقوية الدولة من الناحية المعنوية، وعقد مصالحة مع بقية الزعماء الموحدين بعد أن بطش بهم أبوه ومزّق شملهم، وكان مقابل ذلك اضطراره إعادة تراث الأب الروحي لدولة الموحدي محمد بن تومرت، والعمل بتقاليده.
مسك أبو الحسن علي السعيد بن المأمون زمام دولة الموحدين من بعده، فحاول مواصلة مسيرته، وتمكّن لبعض الوقت من استرداد قوة دولته التي أشرفت على نهايتها، وصمد أمام هجمات بني مرين المتوالية، إلا أن مقتله كان إيذانًا ببداية انهيار الدولة.
سنخصّص هذا التقرير ضمن ملف “نهضة الموحدين” للحديث أكثر عن عهد الخليفة الموحدي الحادي عشر، وحروبه المتواصلة مع بني مرين وجهوده للتصدي لزحفهم نحو عاصمة الحكم مراكش، فضلًا عن الاضطرابات التي شهدتها فترة حكمه التي لم تتجاوز 4 سنوات، وأبرزها انفصال بني زيان عن مراكش.
الخليفة الحادي عشر
توفي الخليفة أبو محمد الرشيد عبد الواحد عام 640 هجري، عن عمر ناهز 24 عامًا، وترك وراءه دولة متفككة، فاتّجه أكابر الدولة وأشياخ الموحدين إلى اختيار ولد الخليفة المتوفى الصبي، فاعترض بعضهم على ذلك بعد أن سئموا خلافة الصغار.
في الأثناء بايع أبو محمد بن وانودين كبير أشياخ الموحدين أبو الحسن علي بن أبي العُلا إدريس بن يعقوب المنصور، وأقعده في مجلس الخلافة، فتتابع في أثره القرابة والأشياخ وبايعوه، وبذلك تم اختياره لكرسي عرش الموحدين، وتلقّب بالمعتضد بالله كعادة الخلفاء الموحدين الذين سبقوه في الحكم.
عُرف عن الخليفة الجديد قوة شخصيته وعزمه الكبير وسطوته، فضلًا عن ذكائه وحنكته العسكرية والسياسية، وهو ما يريده الموحّدون في هذا الظرف العصيب الذي تمرّ بهم دولتهم والأخطار المحدقة بها من كل جانب.
وما أن جلس على كرسي الحكم، حتى سارع الخليفة بسجن مجموعة من أشياخ الموحدين المعارضين لبيعته ومصادرة أموالهم، كما سجن أمّ أخيه الرشيد حبابة الرومية وغرّمها أموالًا، وذلك حتى لا تحرّض أبناءها على الثورة ضده.
رتّب الخليفة قصر الحكم، ثم عمل على التقرُّب من عرب الخلط وغيرهم من زعماء المنطقة، وأغدق عليهم الهدايا والعطايا حتى يتقي شرّهم، كما اعتنى بأمر الجنود النصارى الذين جلبهم الخليفة الأسبق إدريس المأمون.
وأول اختبار فعلي للخليفة كان في سجلماسة، حيث خرج عنه واليها عبد الله بن زكرِيا الهزرجي ودعا إلى أمير الحفصيين، فسيّر إليه السعيد جنده وتمكّن من القضاء عليه وإعادة المدينة للحكم الموحدي، وكان ذلك إنذارًا شديد اللهجة لخصوم الخليفة.
استقلال بني زيان في الجزائر
رغم هذه البداية القوية للخليفة أبو حسن السعيد ومحاولاته المستميتة لإصلاح الوضع، إلا أن الأمور خرجت عن سيطرته في الشرق، حيث استغل بنو زيان ضعف حكم الموحدين، وأعلنوا استقلالهم رسميًا عن الخلافة الموحدية بعد سنوات من تبعية صورية لها، وتأسيس دولتهم الفتية التي ستحكم الجزائر لأكثر من 3 قرون.
يرجع أصل بنو زيان، أو كما يُطلق عليهم أيضًا بنو عبد الواد، إلى قبيلة زناتة، وهي إحدى أكبر القبائل العرقية ذات الأصول الأمازيغية التي سكنت بلاد المغرب، وأصل تسميتهم عائد إلى جدّهم عبد الواد، وهم من ولد يادين بن محمد بن رزجيك بن أسين بن ورسيك بن زناتة.
أمسك بنو زيان بزمام الأمور في مدينة تلمسان الجزائرية فعليًا سنة 633 هجري، مستغلين حالة التخبُّط والصراع على الحكم في الإقليم تلمسان، ورغبة الموحدين في تصفية كبار القبيلة لإضعاف قوتها وإخضاعها لدولتهم، فمكّنهم الخليفة الرشيد من ولايتها، وأبقوا على الدعاء له في الخطبة وذكر اسمه في السكة.
ويُعتبر يغمراسن بن زيان أول حكّام الزيانيين، ووصل إلى سدّة الحكم على الإقليم بعد أن كتب إليه الخيفة الموحدي عبد الواحد الرشيد بن المأمون بالعهد بتولي الحكم على ولاية المغرب الأوسط، وعاصمتها تلمسان.
وشملت حدود الدولة الزيانية إقليم المغرب الأوسط (أو شمال غرب الجزائر حاليًا)، إلا أن هذه الحدود لم تكن ثابتة، وبقيت في مدّ وجزر بسبب هجمات بني مرين غربًا وبني حفص شرقًا، وكانت لا تتجاوز في بعض عهودها أسوار العاصمة تلمسان.
طوّر بنو مرين الزراعة واعتنوا بالصناعة، وخاصة منها صناعة السفن التجارية والحربية، فضلًا عن صناعة الأدوية والنسيج، كما ازدهرت التجارة في المنطقة في عهدهم، وأحيوا النشاط العلمي والفكري في البلاد واهتموا ببناء المساجد والمدارس، فكانت همزة وصل بين دول أوروبا وأقطار ما وراء الصحراء الأفريقية، وملتقى طلاب العلم من مختلف الأقطار.
مواجهة بني مرين
فضلًا عن بني زيان، استفحل في أيام أبو الحسن السعيد أمر بني مرين، فسيّر إليهم سنة 642 هجري جيشًا ضخمًا لقتالهم، فنشبت بين الموحدين وبني مرين معركة عظمى، هُزم فيها بنو مرين وقُتل زعيمهم أبو معرِّف محمد بن عبد الحق، وكانت ضربة شديدة هدّت من عزائم بني مرين لبعض الوقت.
من ثم رأى الخليفة الموحدي أن يعقد هدنة مع بني مرين، يُريح بها جيش الموحدين ويرتّب خلالها الأوضاع، ذلك أن بني مرين يفوقونهم عددًا وعدّة، وانتشروا في الأرض وحكموا مناطق كثيرة وطوّقوا عاصمة الحكم.
لم تدم هذه الهدنة طويلًا، فبني مرين يواصلون الزحف والسيطرة على المدن والقلاع، وأمام خشيته على ملكه خرج الخليفة إليهم مجددًا وكان ذلك سنة 643 هجري، فيما جمع له أميرهم الجديد أبو بكر بن عبد الحق جموع زناتة لقتاله، لكن السعيد اضطر الرجوع.
رجع سعيد عن حربه ضد بني مرين بعد خيانة كانون بن جرمون له، حيث تخلف هذا الأخير عن جيش الخليفة الموحدي وتوجّه إلى آزمور واستولى عليها، وتمكّن الخليفة الموحدي من القضاء على تمرد بن جرمون -حليف بني مرين الجديد- وعاد إلى مراكش.
في الأثناء لم يتوقف بنو مرين عن التضييق على الموحديين، إذ تقدم زعيمهم إلى مدينة مكناس فضايقها، فقتل أهلها الوالي الموحدي وخلعوا بيعة الرشيد، وحولوا دعوتهم إلى الأمير أبي زكريا الحفصي صاحب أفريقية (في ذلك الوقت كان بني مرين يدعون أيضًا للحفصيين).
مصرع الخليفة الرشيد
إعلان أهل مكناس البيعة لأمير الحفصيين ومن قبلهم بني مرين، زاد من غضب الخليفة الموحدي وخشيته على حكمه، خاصة أن أهل إشبيلية وأهل سبتة بعثوا بطاعتهم أيضًا للأمير أبو زكريا الحفصي، وبعث أبو علي بن خلاص صاحب سبتة إليه بهدية.
تنامي عظمة أمير الحفصيين أبي زكريا، دفع الخليفة الموحدي إلى جمع جيشه قصد مواجهة حلفائه المحيطين بمراكش، ذلك أن ركونه في قصر الحكم سيعجّل بزوال ملكه واندثار دولته إلى الأبد، فالخطر المحدق بما تبقى من الدولة الموحدية كبير.
يُذكر أنه في ذلك الوقت لم يتبقَّ تحت ملك الموحدين إلا جزء يسير من دولتهم، فابن أبو حفص اقتطع أفريقيا، ويغمراسن بن زيان اقتطع تلمسان، وابن هود اقتطع جزءًا من الأندلس، وما تبقّى اقتطعه ابن الأحمر، فيما تملّك بنو مرين ضواحي مراكش وأغلب مدن المغرب الأقصى.
نهض الخليفة الموحدي من مراكش سنة 645 هجري وقصد مواجهة الثائرين عليه، وكانت خطته تقضي بالتوجُّه أولًا إلى مكناس وبني مرين، ثم تلمسان ويغمراسن، وبعدها التوجُّه إلى أفريقيا وابن أبي حفص.
أمام عظمة الجيش الموحدي، انسحب زعيم بني مرين أبو بكر بن عبد الحق من مكناس، وخرج الأهالي يطلبون العفو بعد أن قتلوا فيما سبق الوالي الموحدي، فعفا عنهم الخليفة وأعطاهم الأمان على ألا يُعاد صنيعهم مرة أخرى.
وما يسجّل للخليفة أبو الحسن السعيد أنه دفع زعيم بني مرين لطلب العفو منه والسماح له في الانضواء تحت رايته والدعوة له، وأمدَّ أبو بكر بن عبد الحق الخليفة الموحدي بأكثر من 500 مقاتل من بني مرين لمعاضدته في حربه ضدّ حاكم تلمسان الزياني.
أتت بيعة بني مرين للخليفة الموحدي وهو في مدينة فاس، ويوم 14 محرم من سنة 646 هجري ارتحل الخليفة من فاس يريد مدينة تلمسان التي يسيطر عليها يغمراسن بن زيان، وحاول هذا الأخير عقد صلح مع الموحدين بطريقة غير مباشرة، إلا أن الخليفة أبى إلا أن يأتي إليه يغمراسن مباشرة، وهو ما لم يحصل.
بالنظر إلى قوة الجيوش، كانت الغلبة تتجه للجيش الموحدي، إلا أن مشيئة الله كان أقوى، فبينما يتفقد الخليفة الموحدي أبو الحسن السعيد جيشه حتى خلا به جمع من أنصار يغمراسن وقاموا بقتله دون جيشه (آخر صفر سنة 646 هجري)، ولمّا سمع من معه بما حصل للخليفة حلّت الفوضى بينهم، واستغلّ بنو عبد الواد الأمر وانقضّوا على الجيش، وقبل ذلك كانوا يرومون الصلح والانضواء تحت لواء الموحدين مجددًا.
استطاع الخليفة أبو الحسن السعيد أن ينهض خلال سنوات حكمه الأربعة بالدولة الموحدية، ويعيد إليها بعض إشعاعها، ويجبر بني مرين على الولاء والطاعة له، ويتمكن من صدّ عديد الفتن المحيطة بالموحدين، وكاد أن يعيد أفريقيا إلى ملك الموحدين، إلا أن وفاته كانت ضربة قاتلة للدولة.