اعتادت السويد أن تكون إحدى أكثر الوجهات الأوروبية شعبية للمهاجرين، وهذا ما أثبتته تجربة لجوء كثير من مواطني الدول التي مزقتها الحروب والصراعات خلال السنوات الماضية، إلا أن اسمها لم يعد مرتبطًا بالترحيب بالمهاجرين، بل على العكس، تحاول اليوم بشتى السبل الحد من الهجرة إليها.
وفي المقابل، بات كثير من اللاجئين يغادرون السويد طواعية، حتى تجاوز عدد الأشخاص المغادرين عدد القادمين إليها لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن، وتراجع عدد طلبات اللجوء بشكل حاد إلى مستوى منخفض تاريخيًا رغم أن النزوح العالمي في أعلى مستوياته على الإطلاق.
من القلوب الرحيمة إلى الحدود المغلقة
قبل عشر سنوات، وفي صيف عام 2014، عندما كان عدد متزايد من اللاجئين يتطلعون إلى السويد وسياساتها السخية في مجال اللجوء بحثًا عن المأوى، طلب رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين آنذاك، فريدريك راينفيلدت، من السويديين “فتح قلوبهم” للاجئين، لتبدو وجهة المتجهين شمالًا واضحة، وتبلغ ذروتها مع رقم قياسي بلغ 163 ألف شخص تقدموا بطلبات اللجوء في الدولة الإسكندنافية عام 2015.
وبعد مرور سنوات، أصبحت عبارة “افتحوا قلوبكم” رمزًا للحيرة العامة التي انتابت المؤسسة السياسية السويدية في مواجهة أزمة اللاجئين، وأصبح من الصعب للغاية تخيل استخدام زعيم أكبر الأحزاب نفس خطاب راينفيلدت في جهوده للفوز بالانتخابات اللاحقة التي احتلت فيها الأسئلة المتعلقة بالهجرة مركز الصدارة في المناقشة.
واليوم، تحتفل وزيرة الهجرة السويدية، ماريا مالمر، ستينرجارد بحقيقة أن السويد تشهد “صافي هجرة سلبي” لأول مرة منذ عقود، حيث غادر السويد نحو 5700 شخص أكثر من المهاجرين الوافدين إليها خلال الفترة من يناير/كانون الثاني حتى مايو/أيار من هذا العام، وزادت الهجرة بين الأشخاص المولودين في سوريا والعراق والصومال.
Enligt Migrationsverkets prognos ser Sverige ut att få det lägsta antalet asylsökanden sedan 1997, och för första gången på över 50 år har Sverige nettoutvandring.
🎥 Läs mer och se pressträff med migrationsminister @MariaStenergard här⬇️https://t.co/uTDOMP7cnD pic.twitter.com/E0kBY5zHu9
— Justitiedepartementet (@Justitiedep) August 8, 2024
وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت ستينرجارد أن السويد تستقبل أقل عدد من طلبات اللجوء رغم ارتفاعها في بقية بلدان الاتحاد الأوروبي، بينما تستمر تصريحات الإقامة المتعلقة باللجوء في الانخفاض، حتى وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1997، ما أدى إلى تراجع الهجرة بنسبة 15% على أساس سنوي خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
كما أعلنت هيئة الإحصاء السويدية الوطنية أن الهجرة بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار كانت عند أدنى مستوى ربع سنوي لها منذ عام 2005، باستثناء عامي 2020 و2021، عندما أعاقت جائحة كورونا الهجرة، لكن عدد المهاجرين خلال الأشهر الثلاث التالية كان أقل بكثير، بسبب ما قالت الهيئة إنه “مشروع حديث يسعى إلى إزالة الأشخاص من سجل السكان الذين غادروا البلاد بالفعل”.
ولأول مرة منذ عام 1998 على الأقل، شهدت السويد هجرة صافية سلبية للهنود، حيث غادر ما مجموعه 2837 شخصًا من مواليد الهند بين يناير/كانون الثاني ويونيو/حزيران الماضي، بزيادة قدرها 171% عن نفس الفترة من العام الماضي، ما يجعل الهنود أكبر مجموعة من الأجانب المهاجرين، متقدمين على الأشخاص المولودين في العراق والصين وسوريا.
وقبل ذلك، كانت هجرة الهنود إلى السويد في ارتفاع مستمر منذ عام 2009، بعد تعزيز العلاقات الدبلوماسية وجهود الدولة الإسكندنافية لجذب الطلاب والباحثين والمهاجرين العماليين ذوي المهارات العالية لسد فجوات المهارات في قطاع التكنولوجيا بشكل خاص، وتعد الجامعات التقنية في السويد خيارات شائعة للطلاب الهنود، الذين يتخرجون غالبًا بمهارات أساسية مطلوبة للصناعة السويدية.
وفي المجمل، ارتفعت أعداد من غادروا السويد بنسبة 60% وفقًا لهيئة الإحصاء، وبلغ عدد طلبات اللجوء في البلاد العام الماضي حوالي 12500 طلب، وهو ثاني أدنى رقم منذ بداية الألفية، أما في النصف الأول من العام الحالي فقد تم تسجيل 5600 طلب لجوء فقط، ما يمثل انخفاضًا بنسبة 27% مقارنة بالعام الماضي.
وخفضت مصلحة الهجرة توقعاتها لعدد طلبات اللجوء إلى حوالي 10 آلاف طلب في عام 2024، وهو أدنى رقم منذ بداية القرن الحالي، في حين بررت وزيرة الهجرة هذه النتائج المعلنة بقولها إنها تعكس رغبة الحكومة وسياستها حول الهجرة، معتبرة أنها ضرورية لهجرة أكثر استدامة ولمواجهة التحديات المتعلقة بالاندماج في السويد.
ما علاقة اليمين المتطرف؟
دائمًا ما كانت السويد واحدة من الوجهات المفضلة للمهاجرين حول العالم بشكل عام والعرب بشكل خاص، فقد استقبلت عددًا كبيرًا من المهاجرين منذ التسعينيات، لكن مع نهاية عام 2023 تغير هذا الواقع، حيث تم تسجيل أكثر من 66 ألف شخص هاجروا من السويد، وهذه أرقام تثير الكثير من القلق، خاصة في ظل انخفاض عدد الولادات إلى معدلات غير مسبوقة، أدت إلى تراجع النمو السكاني ليصبح الأدنى منذ عام 2021.
أسباب كثيرة دفعت إلى تصاعد الهجرة العكسية، خاصة بين العرب في السويد، يكمن أولها في الافتقاد إلى الروابط الاجتماعية كالعلاقات مثلًا بين المواطنين الأصليين والقادمين الجدد، فالحياة في السويد يصفها المهاجرون بـ”الباهتة”، كما تهيمن عليها القيم والأعراف الفردية المطلقة، فيما يرتبط المهاجرون بشكل عام بقيم الجماعة خاصة المهاجرين العرب.
أما السبب الثاني والأهم فهو صعود أقصى اليمين في البلاد مع وصول حزب المعتدلين إلى السلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وتحالفه مع حزب الديمقراطيين السويديين اليميني المتطرف الذي سعى بيانه الانتخابي إلى خلق واحدة من أكثر البيئات عدائية لغير الأوروبيين في أوروبا، واستغل المخاوف بشأن الهجرة لاكتساب التأييد لدى عدد متزايد من الناخبين.
وأفضى ذلك التحالف إلى مشاركة اليمين المتطرف بشكل عام في وضع سياسات صارمة ضد الهجرة – بما في ذلك على التأشيرات والجنسية وإحضار الأقارب إلى البلاد – جعلت إجراءات اللجوء ولم الشمل أكثر تعقيدًا، وفرضت قيودًا إضافية على منح تصريحات العمل حتى في قطاعات حيوية.
ومنذ تشكيلها قبل عامين، انتهجت حكومة الزعيم السويدي المحافظ، أولف كريسترسون، المدعومة من أقصى اليمين سياسات لجوء أكثر تقييدًا، وأعلنت سعيها لخفض عدد المهاجرين إلى أدنى مستوى ممكن، ووسعت جهود صد اللاجئين قبل وصولهم، وبات على معظم الواصلين الانتظار 3 سنوات قبل التقدم بطلب للإقامة الدائمة.
وتدرس الحكومة السويدية تقديم مبالغ مالية أكبر لحث اللاجئين على العودة لبلدانهم، فقد أطلقت مؤخرًا تحقيقًا حكوميًا يدرس إمكانية توسيع البدل المالي للمهاجرين لتشجيعهم على العودة الطوعية إلى بلدانهم الأصلية، واقترحت أن يتم توسيع الفئات التي يحق لها الدعم المالي ليشمل الأشخاص الحاصلين على الجنسية السويدية.
“الشخص بدو يتخلى عن الجنسية السويدية مشان 350 ألف كرونة؟!”
الحكومة السويدية تثير الانتقادات بعد مقترح دفع بدل مالي للمهاجرين لتحفيزهم للعودة إلى بلادهم
تقديم: ديما أبودان @DimaAbodan#تلفزيون_سوريا #المهجر pic.twitter.com/Y3DUvsrXik
— تلفزيون سوريا (@syr_television) August 16, 2024
وبحسب المقترح، سيصل الدعم المالي إلى 350 ألف كرون للشخص بدلًا من 10 آلاف كرون حاليًا للتنازل عن الإقامة والجنسية السويدية، لكن لجنة التحقيق الحكومي خلصت إلى عدم جدوى الخطة من الناحية الاقتصادية، واعتبرت أن رفع البدل المالي لن يكون له تأثير كبير في رفع أرقام العودة الطوعية، مشيرة إلى أن هذه الخطة تضر بعملية اندماج المهاجرين بالسويد.
بخلاف هذه السياسات، برزت قضية تدخل مؤسسة “السوسيال” – وهي إدارة خدمات اجتماعية في السويد تأسست عام 2002، تعرف نفسها بأنها مسؤولة عن تنشئة الأطفال – بحياة الأسر أكثر من أي وقت مضى، حيث تتعرض عائلات لاجئة، وخاصة الأسر العربية المهاجرة في السويد، لقيام السلطات بفصل أطفالها عنها بذريعة وجود مزاعم العنف على الطفل أو وجود خطر صحي أو نفسي أو أن تلك العائلات غير مؤهلة لرعاية أطفالها.
وتمتلك “السوسيال” سلطة قوية لانتزاع الأطفال من منازل أسرهم أو المدرسة دون علم أهلهم وحتى دون الحاجة إلى إذن محكمة، عملًا بقانون صدر عام 1990 بعنوان “رعاية الشباب”، وترسل الأطفال لعائلات أخرى، وتأخذ الوصاية عليهم من ذويهم، وتزعم أنها لا تفرق بين مواطنين ومقيمين.
وتظهر بيانات “السوسيال” ارتفاع أعداد الأطفال المنتزعين من 7900 في عام 2019 إلى 27 ألف طفل في عام 2020، انتقل 19 ألفًا منهم للعيش لدى أسر بديلة، ما دفع فئات المهاجرين للتظاهر ضد “السوسيال” للمطالبة باسترداد أطفالهم الذين يتهمونها بسرقتهم ومحاولة غسل أدمغتهم وإرسالهم لغير ذويهم.
سياسات أكثر تقييدًا
تواصل الحكومة السويدية حتى اليوم التضييق المتزايد على المهاجرين عبر مشروعات قوانين وأحكام تصعب عليهم كذلك الاندماج داخل هذه المجتمعات، وفي سبيل ذلك، تدفع لتمرير “قانون الوشاية” الذي من شأنه أن يفرض على العاملين في القطاع العام قانونًا بالإبلاغ عن المهاجرين غير الشرعيين.
الاقتراح الموصوف بأنه “غير إنساني تمامًا” كان بين العديد من التدابير المدرجة في اتفاق عام 2022 الذي تم التوصل إليه بين 4 أحزاب يمينية في السويد، وبعد مرور ما يقرب من عامين منذ أصبح حزب “الديمقراطيين السويديين” أكبر أحزاب اليمين وثاني أكبر حزب في البلاد، يجري العمل على تحويل الاقتراح المتعلق بالعاملين في القطاع العام إلى قانون، ومن المتوقع أن تقدم اللجنة التي عينتها الحكومة المسؤولة عن صياغة هذا الاقتراح نتائجها بحلول نهاية نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
وعلى الرغم من كونها في المراحل المبكرة، فإن الفكرة، التي قد تؤدي إلى إجبار ما يصل إلى مليون عامل، من أطباء الأسنان إلى المعلمين، على الإبلاغ عن أي اتصال مع المرضى غير المسجلين والطلاب، واجهت ردود فعل عنيفة من العاملين في القطاع العام، ومعارضة واسعة النطاق من نشطاء حقوق الإنسان والجمعيات المهنية.
وتُوصف التدابير بأنها جزء من اتجاه متزايد في جميع أنحاء أوروبا لتجريم التضامن مع الأشخاص الذين ليس لديهم وثائق. على سبيل المثال، تفكر الحكومة الفنلندية أيضًا في توسيع الالتزامات بالإبلاغ عن الأشخاص الذين ليس لديهم وثائق، بينما في ألمانيا، تكافح مكاتب الرعاية الاجتماعية منذ عقدين من الزمن مع التزامات الإبلاغ.
ويكمن مثالًا آخر في التدابير التي قدمتها رئيسة الوزراء تيريزا ماي في بريطانيا عام 2012، مستشهدة بسياسات “البيئة المعادية” التي سعت إلى الحد من الوصول إلى العمل والمزايا والحسابات المصرفية ورخص القيادة وغيرها من الخدمات الأساسية لأولئك الذين لم يتمكنوا من إثبات أن لديهم الحق القانوني في العيش في بريطانيا.
وفي وقت لاحق، تبين أن العديد من المقيمين في بريطانيا بشكل قانوني لم يتمكنوا من إثبات وضعهم، وأن وزارة الداخلية كانت تصنف المقيمين القانونيين بشكل خاطئ على أنهم “مجرمو هجرة”، ما دفع مكتب التدقيق الوطني إلى استنتاج في عام 2018 أن سياسات البيئة المعادية التي تسببت في “فضيحة وينددراش” لم تقدم قيمة مقابل المال لدافعي الضرائب.
ووفقًا للمنتقدين، إذا أصبح الاقتراح السويدي قانونًا، فقد ينتهي الأمر بالسويد إلى التعامل مع عواقب مماثلة، ففي كل مكان تم فيه تطبيق الالتزامات بإبلاغ الأشخاص غير الموثقين، كانت النتيجة المزيد من التمييز والمعاناة والخوف.
ومن المرجح أن يكون للاقتراح السويدي تأثير ضئيل عندما يتعلق الأمر بتقليص عدد الأشخاص الذين ليس لديهم وثائق في البلاد، ويمكن لوجهة نظر هذه أن تفسر المعارضة الواسعة النطاق للخطة، فاعتبارًا من ديسمبر/كانون الأول 2023، خرجت أكثر من 150 منطقة سويدية وبلدية ونقابة عمالية ومجموعات أخرى من المجتمع المدني ضد الفكرة.
وتشهد وكالات الإغاثة ومنظمات مساعدة طالبي اللجوء وأعضاء مجتمعات المهاجرين قلقًا متزايدًا بشأن القيود المفروضة على الهجرة، وتلقي باللوم على الخوف من سياسات الحكومة وخطابها اليميني المناهض للهجرة وارتفاع حوادث الإسلاموفوبيا واستهدافها فئات من المهاجرين، ما جعل البلاد أقل جاذبية، لا سيما لأصحاب الكفاءات والأشخاص المتعلمين تعليمًا عاليًا من دول مثل الصومال والعراق وسوريا.
وعلى الرغم من تعهد الحكومة السويدية بجذب المواهب الدولية، فإن تسريح العمال في قطاع التكنولوجيا وقواعد تصاريح العمل الأكثر صرامة تخلق عقبات جديدة للمهاجرين، فقد انخفض عدد تصاريح العمل الممنوحة للمهاجرين المؤهلين تأهيلًا عاليًا بنسبة 20% في النصف الأول من عام 2024 مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وانخفضت تصاريح العمل لأول مرة للمواطنين الهنود بنسبة 30% في نفس الإطار الزمني.
وشجعت هذه القيود المزيد من الناس على مغادرة البلاد أو طلب اللجوء في مكان آخر، وهذا يعني أن السويد تتخلص من زخم المهاجرين بها، خاصة بعد أن تم منح العديد منهم الجنسية السويدية بعد قضاء مدة متواصلة في البلاد، وذلك عن طريق ما يسمى بـ”الهجرة العكسية”، فالعديد من المهاجرين الذين يحملون الجنسية السويدية قرروا تكرار الترحال إلى بلدان أخرى.
وفي أواخر العام الماضي، كشف تقرير نشرته صحيفة “SE24” السويدية أن آلاف المهاجرين في السويد بدأوا بالفعل بالهجرة العكسية بعد حصولهم على الجنسية التي تسمح لهم بالسفر والانتقال بسهولة للعديد من دول العالم التي قد لا يستطيعون الوصول لها بجوازات سفر بلدانهم الأصلية.
وأوضح التقرير أن أغلب المهاجرين المغادرين من العرب لا سيما أن أكثرهم من السوريين والقليل من الجنسيات العربية الأخرى، لافتًا إلى أن الدول التي يستهدفها هؤلاء تنقسم إلى فئتين: الأولى المغادرة داخل الدول الأوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا، وهي النسبة الأقل، والفئة الثانية إلى دول عربية وإسلامية مثل مصر وتركيا، وهي النسبة الأكبر.
ويظهر هذا التحول في معدلات الهجرة تأثير سياسات الأحزاب اليمينة المعادية للهجرة على الائتلاف الحاكم، وبحسب وصف رئيس الشبكة السويدية لمجموعات دعم اللاجئين (Farr) تيرجي هولمجرين “إذا قارنت الوضع اليوم بما كان عليه قبل 10 سنوات، فقد أصبح من المقبول بشكل أكبر أن تكون معاديًا علنًا لطالبي اللجوء، بل أصبح أيضًا، وعلى نطاق أوسع، من المقبول عمومًا أن تكون مقيدًا للهجرة وتقلل من طلبات طالبي اللجوء في السويد”.