يشهد العراق موجة جفاف قاسية تفاقمت آثارها خلال السنوات القليلة الماضية، مع تراجع مناسيب الأنهار وشح الأمطار، لتبدأ آلاف العائلات في وسط وجنوب العراق رحلة طويلة من النزوح والمعاناة، مجبرةً على ترك جذورها بحثًا عن حياة أكثر أمانًا.
ومع اشتداد أزمة المياه تحولت الأراضي السهلية الخصبة إلى مناطق طاردة للسكان، حيث باتت التغيرات المناخية تُعيد رسم الخريطة السكانية للعراق.
نزوح الجفاف
ويظهر تقرير جديد أعدّته المنظمة الدولية للهجرة مخاطر جدية تحيق بالبلاد، تمثلت في نزوح أكثر من 24 ألف عائلة بالعراق بسبب الجفاف الناجم عن التغير المناخي. وأشار التقرير إلى أن مصفوفة تتبع النزوح (DTM) التابعة للمنظمة الدولية للهجرة (IOM) تابعت منذ يونيو/حزيران 2018 معظم حالات النزوح الناجمة عن التغيرات المناخية في مناطق وسط وجنوب العراق.
وبحسب التقرير فإن مشكلات الجفاف وتدهور الأراضي وزيادة ملوحة الأنهار والروافد الرئيسية أدت إلى تفاقم الضغط على الزراعة وتربية الماشية وصيد الأسماك، ما أدى إلى عدم قدرة العديد من العائلات على تأمين سبل عيش كافية ومستدامة في المناطق الريفية.
ولا تزال 24.500 عائلة تضم أكثر من 147 ألف شخص، نازحين بسبب العوامل المناخية عبر 12 محافظة عراقية، وتتوزع العائلات النازحة على 440 موقعًا، إذ نزح نحو 52% منهم إلى المناطق الحضرية.
وسجّلت المنظمة الدولية أعلى حركة نزوح في محافظة ذي قار، حيث غادرت 10.440 عائلة مناطقها، وهم يمثّلون 43% من النازحين بسبب الجفاف، تليها 5.363 عائلة من محافظة ميسان، يمثلون 22%، ثم محافظة المثنى 10% بواقع 2.485 عائلة نازحة، ومحافظة القادسية 9% بواقع 2.269 عائلة.
وكشف التقرير عن تزايد عدد العائلات النازحة بسبب الجفاف، مع إضافة 15 موقعًا جديدًا خلال عملية الرصد الأخيرة، خاصة في محافظات: المثنى والبصرة والقادسية، وسط توقعات باستمرار ارتفاع وتوسع عدد المواقع والعائلات النازحة بسبب العوامل المناخية، وسط ترجيحات بأن تكون هذه التحركات دائمة وليست مؤقتة.
شح المياه
تبرز قضية شح المياه باعتبارها واحدة من أكبر التحديات التي تواجه مناطق واسعة في العراق، خاصة في وسطه وجنوبه بسبب التغيرات المناخية. ومع تراجع مستويات الأنهار وتدهور جودة المياه بفعل ملوحة الأراضي والجفاف، أصبح الوصول إلى مصادر المياه الصالحة للاستخدام يشكل تهديدًا مباشرًا لحياة ملايين السكان.
هذه الظروف القاسية لم تؤثر فقط على الزراعة والأنشطة الاقتصادية الحيوية، بل أدت أيضًا إلى تفاقم النزوح الداخلي، حيث تبحث الأسر المتضررة عن مناطق تمكّنها توفير الحد الأدنى من الاحتياجات المائية، ما يضيف أعباءً جديدةً على المناطق المضيفة والبنية التحتية المتردية.
وانخفضت مناسيب المياه والمياه المخزنة في سدود العراق إلى أقل كمياتها عام 2023 مسجّلة 7 مليارات متر مكعب، بعد أن كانت أكثر من 65 مليار متر مكعب، عام 2019.
خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية وتغير المناخ، رمضان حمزة، أكد أن العراق يواجه تحديات كبيرة بسبب تأثير التغير المناخي على مصادر المياه، مما يؤدي إلى تفاقم مشكلة الجفاف التي تعاني منها البلاد.
وأوضح حمزة في حديثه لـ”نون بوست” أن لتأثير التغير المناخي على مصادر المياه عواقب خطيرة، فقد أدى حجز تركيا وإيران لحصص العراق المائية إلى تقليل تدفقات المياه في نهري دجلة والفرات، ما أثر سلبًا على الزراعة والموارد المائية في العراق، وأضاف “كما أن حالة الجفاف وزيادة درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار أثّروا على الزراعة وأسهموا في تدهور الأمن الغذائي، فضلًا عن انحسار مياه الأهوار، ما يهدد التنوع البيولوجي ويؤثر على المجتمعات المحلية التي تعتمد على هذه البيئات في استدامة سبل معيشتهم”.
تهديد الاستقرار
تراجع الموارد المائية والجفاف في العراق لم يعد مجرد أزمة بيئية، بل أصبح تهديدًا للوضع الأمني، مع نزوح آلاف العائلات وتفاقم الأزمات الاجتماعية وسط مخاوف من تزايد الصراعات على الموارد، ما يجعل التغير المناخي عاملًا رئيسيًا في زعزعة استقرار المنطقة.
ونوّه المجلس النرويجي للاجئين في تقرير نشره 13 مارس/آذار الماضي، أنه بين عامي 2021 و2023، تفاوتت التوترات الاجتماعية بسبب المناخ، فقد هدأت وزادت في ارتباط وثيق مع هطول الأمطار السنوي.
وبحسب التقرير، فإنه في عام 2022، أشار ما يقرب من 40% ممن شملهم الاستطلاع إلى زيادة التوتر المجتمعي، لكنّ هذه النسبة انخفضت عام 2023 إلى 4% فقط، وذلك يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنسبة هطول الأمطار المسجلة في جميع أنحاء البلاد بين عامي 2022 و2023، حيث شهد عام 2022 هطول أمطار أقل من المتوسط مقارنة بعام 2023، مع تباين كبير في جميع أنحاء البلاد.
ويؤيد المجلس النرويجي للاجئين النتائج التي أعلنتها منظمة الهجرة الدولية والتي تشير إلى اتجاه تصاعدي واضح في ارتفاع نسبة النازحين بسبب الجفاف من 2% عام 2021 إلى 5% عام 2023 على مستوى البلاد.
وأشار المجلس النرويجي إلى أن 24% ممن شملهم الاستطلاع في إحدى مناطق سهل نينوى، أكدوا أنهم يفكرون في النزوح بسبب الجفاف وتداعياته.
بدوره، رجح حمزة أن يؤدي تزايد المنافسة على الموارد المائية والأراضي الزراعية، إلى حدوث صراعات داخلية، واضطرابات اجتماعية بسبب تدهور الأمن الغذائي، خاصة في المناطق التي تعاني من ضعف في الحكم والإدارة.
وعلى صعيد التأثيرات الإقليمية، حذّر الخبير الاستراتيجي من أن التغير المناخي في العراق له تداعيات على دول الجوار، ما قد يؤدي إلى صراعات حول الموارد المشتركة، خاصة المياه، وقد تمتد هذه النزاعات إلى نطاق أوسع، ما يزيد من عدم الاستقرار الإقليمي.
استراتيجيات المواجهة
تتطلب مواجهة التغير المناخي في العراق استراتيجيات مبتكرة للتكيف مع الواقع الجديد، وأصبحت الحاجة ملحة لتطوير حلول مستدامة تشمل تحسين إدارة الموارد المائية، وتعزيز التعاون الإقليمي، وتبني تقنيات زراعية متقدمة لضمان الأمن المائي والغذائي في المستقبل.
ويرى حمزة أن مواجهة تحديات التغير المناخي في العراق تتطلب استجابة شاملة تشمل استراتيجيات محلية فعالة وتعاونًا إقليميًا ودوليًا، من خلال تحسين إدارة الموارد المائية، وتعزيز الوعي، وتطوير البنية التحتية، داعيًا إلى ضرورة تفعيل الإدارة المتكاملة للموارد المائية، والعمل على تحديث نظام الري، وإعادة تأهيل السدود وصيانتها لضمان تخزين المياه بشكل فعّال.
وشدد حمزة على ضرورة تطوير خطة التكيف الوطنية للتغلب على آثار تغير المناخ، والسعي إلى تنويع اقتصاد العراق بعيدًا عن الاعتماد على النفط، ما يعزز القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية، ورفع مستوى الوعي حول التغير المناخي وأثره على المجتمع، ما يساعد في تحفيز المجتمع على المشاركة في جهود التكيف والتخفيف.
ويلفت خبير الاستراتيجيات المائية إلى أهمية الاستثمار في تحسين البنية التحتية، خاصة في المناطق الأكثر تعرضًا للجفاف، لضمان استدامة الخدمات الأساسية مثل المياه والصرف الصحي.
وعلى مستوى التعاون الإقليمي والدولي، يشير حمزة إلى توجه بغداد لاستخدام أدوات وآليات “دبلوماسية المياه” مع تركيا وإيران حول إدارة المياه المشتركة، لضمان تدفق كافٍ من المياه إلى العراق، فيما دعا الجهات العراقية المختصة إلى الاستفادة من الدعم الدولي من خلال المنظمات مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة وصندوق المناخ الأخضر، حيث يمكن أن توفر هذه المنظمات التمويل والخبرة، فضلًا عن الانخراط في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتغير المناخ.