ترجمة وتحرير: نون بوست
يعمل أحد الخوادم في الطابق الثالث من مبنى المكاتب وسط مدينة كوبنهاغن، على بعد 2500 ميلا من دمشق، على مهل. وتتألف بياناته البالغة 600 ألف غيغابايت من آلاف الصور لرجال ونساء وأطفال وحسابات لشهود وأعمار وأسباب وفاة وأسماء أماكن ورتب عسكرية وأنواع من الأسلحة.
تحمل قاعدة البيانات تلك قصة انزلاق سوريا من السلطوية إلى حرب أهلية، تحولت بشكل مأساوي خلال ثماني سنوات طويلة إلى صراع دولي، مع تكلفة بشرية لا يمكن تخيلها. لذلك، قد يكون بنك الذاكرة أفضل أمل لدى العديد من السوريين لتحقيق العدالة. وعموما، تعود ملكية قاعدة البيانات إلى مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، وهي منظمة غير حكومية أسستها المحامية رزان زيتونة، الناشطة السورية في مجال حقوق الإنسان، والتي كانت رائدة في هذا المجال حتى قبل اندلاع الثورة خلال سنة 2011.
عندما ضيّق بشار الأسد الخناق أمام الاحتجاجات الأولية، وبدأت المعارضة في الانشقاق، مع ظهور فاعلين جدد، أرادت زيتونة تسجيل كل خرق للقانون الدولي الإنساني في اتفاقيات جنيف واتفاقيات لاهاي والمعاهدات ذات الصلة وقانُون السوابق القضائية. كنتيجة لذلك، كان لا بدّ من توثيق كل شيء بداية من السجن وصولا إلى التعذيب والقتل والاختطاف. علاوة على ذلك، لا بد من تحديد هوية الضحايا كلما كان ذلك ممكنا، وتسجيل أسماء الجناة بغض النظر عن ولاءاتهم.
ترسل الشهادات والبيانات الأولية إلى فريق مُكوّن من 15 شخصا مدربين بشكل قانوني ومتفرغين لهذه المهمة في جميع أنحاء أوروبا، الذين يستخدمون شبكاتهم الكبيرة وعلاقاتهم الشخصية في سوريا للتدقيق فيما يتلقونه من بيانات ولطلب المزيد من المعلومات
خلال سنة 2012، اضطرت زيتونة إلى الفرار من مدينتها دمشق خوفا من اكتشاف أمرها من قبل نظام الأسد، فانتقلت إلى دوما، الواقعة على بعد ستة أميال إلى الشمال الشرقي من العاصمة. هناك، اختطفت الفتاة البالغة من العمر 36 سنة في التاسع كانون الأول/ ديسمبر سنة 2013 من منزلها على يد عناصر جيش الإسلام، رفقة زوجها وائل حمادة، وزميله المحامي والشاعر ناظم حمادي وسميرة خليل، الناشطة التي سجنت سابقاً داخل سجون نظام حافظ الأسد. في ذلك اليوم من شهر كانون الأول/ ديسمبر، كانت آخر مرة شوهد فيها هؤلاء الأربعة أشخاص في دوما. من جهة أخرى، استمر توثيق تلك الملفات الجنائية الدقيقة من قبل آخرين.
إن قطع الأحجية التي تم تخزينها من قبل مركز توثيق الانتهاكات في كوبنهاغن لن تقدم صورة كاملة على الإطلاق. في المقابل، يبذل 35 موظفا مأجورا في المركز في سوريا، وشبكته الهائلة من المتطوعين، قصارى جهدهم حتى يكونوا على بيّنة مما يحدث في كل التجمعات، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة أو داخل الأراضي التي يسيطر عليها نظام الأسد.
في الحقيقة، ترسل الشهادات والبيانات الأولية إلى فريق مُكوّن من 15 شخصا مدربين بشكل قانوني ومتفرغين لهذه المهمة في جميع أنحاء أوروبا، الذين يستخدمون شبكاتهم الكبيرة وعلاقاتهم الشخصية في سوريا للتدقيق فيما يتلقونه من بيانات ولطلب المزيد من المعلومات، قبل إرسالها إلى أولئك الذين يقومون بدورهم بإدخالها في قاعدة البيانات.
لكن المعلومات الواردة من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة في سوريا، تلفها الغموض وغالبًا ما تكون غير مباشرة نظرًا للمخاطر التي تحيط بالعمل هناك. وتتميز قاعدة البيانات تلك بالمرونة، إذ يتم تحديثها إثر وصول معلومات جديدة إما من قبل الشهود أو عبر مشاهد تبث من السجون أو من خلال السجلات الطبية أو أسر الضحايا أو حتى من الأئمة الذين يدفنون الضحايا بشكل يومي.
مثل الضحايا المدنيون ثلثي الوفيات الموثقة. وخلال السنوات الأولى، كانت جل البيانات المسجلة حول الاعتقالات وعمليات التعذيب، والإعدام
تقول التقديرات إن أكثر من 500 ألف شخص قتلوا في سوريا نتيجة للحرب. وقد وثّق مركز توثيق الانتهاكات 188.957 حالة من الوفيات. كما تشير السجلات إلى أنه من المحتمل أن يكون 77 بالمائة من مجموع هذه الحالات قد قتلوا بسبب انتهاك نظام الأسد للقانون الإنساني. أما 12 بالمائة من الحالات التي تم توثيقها، فقد لقوا حتفهم على يد جماعات المعارضة المسلحة، في حين أن 4 بالمائة منهم من ضحايا تنظيم الدولة وجماعة النصرة. علاوة على ذلك، لقي 3 بالمائة منهم مصرعهم على يد الروس، وقُتل 1.4 بالمائة منهم على يد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. ويُعتقد أن القوتين التركية والكردية، إلى جانب جهات خارجية أخرى، مسؤولون عن سقوط بقية الضحايا.
في الواقع، مثل الضحايا المدنيون ثلثي الوفيات الموثقة. وخلال السنوات الأولى، كانت جل البيانات المسجلة حول الاعتقالات وعمليات التعذيب، والإعدام. وفي الوقت الحالي، يقوم مركز توثيق الانتهاكات في سوريا بشكل رئيسي برصد عمليات القصف وإحصاء المرات التي استُخدمت فيها البراميل المتفجرة المليئة بالمواد سريعة الانفجار والشظايا والبنزين، التي كانت تلقيها المروحيات. وغالبا ما يتم استهداف المستشفيات والمخابز الواقعة في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة، لا سيما بعد الدعم الذي حظي به نظام الأسد من القوات الروسية.
تمكن المركز من التعرف على هوية 420 قتيلا فقط من بين 804 حالة وفاة موثقة في شهر نيسان/ أبريل، بينما سُجلت 384 حالة في خانة مجهول. كما سجل المركز أسباب الوفاة على النحو التالي: 127 قتيلا على إثر الهجمات الجوية والبراميل المتفجرة، و105 قتيلا بالأسلحة النارية والقناصة، و103 آخرين قتلوا بالدبابات والمدافع وقذائف الهاون، و85 قتيلا جراء التعرض لغاز الكلور، بالإضافة إلى 66 آخرين من ضحايا الألغام الأرضية والسيارات المفخخة، إلى جانب 10 قتلوا بعد تعرضهم للتعذيب في مراكز الاعتقال التابعة للحكومة السورية، واثنين آخرين جراء التعذيب على أيدي خاطفين.
إلى جانب 28 منظمة غير حكومية سورية، أبرم مركز توثيق الانتهاكات اتفاقية لتبادل المعلومات مع الآلية الدولية غير المتحيزة والمستقلة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة
هذه السنة، تلقى الناشط في مجال حقوق الإنسان حسام القطلبي، البالغ من العمر 36 سنة، الذي تسلم منصب المدير التنفيذي لمركز توثيق الانتهاكات بعد زيتونة، أنباء محبطة، بيد أنها حفزته على مواصلة جهوده. وقد أشار القطلبي إلى أنه “حين غادر جيش الإسلام دوما بشكل نهائي، تمكنا من الحصول على معلومات جديدة حول زيتونة”.
في سياق متصل، أورد حسام القطلبي “لا يمكننا الجزم بعد، ولا يسعنا سوى التشبث بالأمل… لكن تشير المعطيات التي بحوزتنا حاليا إلى أنها قد لا تكون على قيد الحياة، لكننا سنواصل العمل من أجل معرفة مصيرها، ومقاضاة الجناة… إلى حد الآن، فقدنا 12 آخرين، بما في ذلك الزملاء الأربعة المحتجزين في دوما”.
إلى جانب 28 منظمة غير حكومية سورية، أبرم مركز توثيق الانتهاكات اتفاقية لتبادل المعلومات مع الآلية الدولية غير المتحيزة والمستقلة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، التي ترمي إلى إحالة المسؤولين إلى القضاء بتهمة ارتكاب أفظع الجرائم. ولكن، اتُهم بعض أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وعلى وجه الخصوص العضو الروسي، بعرقلة سير الإجراءات القضائية.
مع ذلك، ستتيح لنا هذه الآلية الجديدة فرصة للالتفاف حول الحكومة الروسية ومد المحاكم الوطنية بالأدلة الدامغة التي تحتاجها من أجل هذه المحاكمات. وأفاد القطلبي بأن “الهدف الرئيسي بالنسبة لي والفريق على حد السواء هو ترك سجلات للجيل القادم. إلى جانب ذلك، نود تحقيق نتائج ملموسة تتمثل في تقديم أدلة قوية حول القضايا الجنائية، من أجل محاسبة المسؤولين عن ارتكاب هذه الفظائع”.
صرح القطلبي “أعتقد أنه علينا في المقام الأول العمل على الإطاحة بكبار المسؤولين. وعلى حد علمنا، تُعنى الآلية الدولية غير المتحيزة والمستقلة بتكوين ملفات حول القضايا الجماعية وليس الفردية
سنة 2008، هاجر القطلبي، الذي كان والداه أسرى في سجون حافظ الأسد خلال سنوات طفولته تقريبًا، إلى هولندا بعد أن اعتُقل رفاقه من عدة جامعات في حلب ودمشق. وخلال الأشهر الأخيرة، شرع مركز توثيق الانتهاكات بالتعاون مع المدعين العامين في كل من ألمانيا وفرنسا في تجميع معلومات حول أنشطة السوريين في تلك المناطق، والتسلسل القيادي لمختلف الجماعات العسكرية.
حيال هذا الشأن، صرح القطلبي “أعتقد أنه علينا في المقام الأول العمل على الإطاحة بكبار المسؤولين. وعلى حد علمنا، تُعنى الآلية الدولية غير المتحيزة والمستقلة بتكوين ملفات حول القضايا الجماعية وليس الفردية. ونحن على علم بأن هذا لا يكفي لتحقيق العدالة ومحاسبة جميع الجناة، لكن الأهم الآن هو الإحاطة بكبار المعارضين والجنرالات، وأفراد الدائرة المقربة من الأسد، وإن لزم الأمر، بشار الأسد نفسه. وفي الحقيقة، هذا ما نصبو له فعلا”.
المصدر: الغارديان