ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ ما يقارب عقدين من الزمن، كانت صفوف القيادة الفلسطينية منقسمة إلى حد كبير. فإلى جانب الانقسام الأساسي بين حركة حماس في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، تنافست العديد من الجماعات الأخرى على النفوذ.
وفي أواخر تموز/يوليو الماضي، اجتمع قادة جميع الفصائل السياسية الفلسطينية الأربعة عشر، بما في ذلك حركتا فتح وحماس، في بكين لإصدار دعوة للوحدة الوطنية. ووعد الاتفاق الذي وقّعوا عليه – المعروف بـ “إعلان بكين” – بإنشاء حكومة توافقية ترأس قطاع غزة والضفة الغربية على حد سواء، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيعها، وإجراء انتخابات وطنيّة.
هذه المقترحات ليست جديدة وتكرر إلى حد كبير المبادئ المنصوص عليها في اتفاقات المصالحة السابقة، ولكنها اكتسبت أهمية أكبر بكثير في ظل الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على غزة. فاعتبارًا من منتصف آب/أغسطس، أدى الهجوم الإسرائيلي الذي شنته إسرائيل ردًا على هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني – معظمهم من النساء والأطفال – وتشريد مليوني شخص قسرًا، وتحويل معظم الأراضي إلى خراب.
لقد أصبح هذا الهجوم أكثر اللحظات دمويةً في التاريخ الفلسطيني وأكثر الحلقات تدميرًا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر منذ قرن تقريبًا. وفي خضم هذه الأزمة، يُقدّم إعلان بكين خارطة طريق لمستقبل فلسطيني مختلف، مستقبل بقيادة ذات مصداقية ومؤسسات سياسية فاعلة ستكون ضرورية لليوم التالي للحرب.
رغم خطورة الوضع، انتقد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية منذ فترة طويلة وزعيم حركة فتح في الضفة الغربية، إعلان بكين على لسان متحدث باسمه ووصفه بأنه غير مفيد وغير مهم (أرسل عباس ممثلًا عن فتح إلى المحادثات بدلًا منه).
ومن المحير أن يبدي زعيم سياسي، لا سيما زعيم سياسي لا يحظى بشعبية كبيرة كعباس، مثل هذا الازدراء العلني لإظهار الوحدة الوطنية في لحظة صدمة وطنية ويأس وجودي.
ربما شعر أن موقف حماس حرج، وبالتالي لم ير حاجة ملحة لتقاسم السلطة مع الحركة، أو ربما لم يرغب في تحدي المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين الذين يعارضون بشدة أي تسوية سياسية مع حماس في أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وفي كلتا الحالتين، فإن رفض عباس المتغطرس للخطة يسلط الضوء على سمتين مميزتين في السنوات العشرين التي قضاها في السلطة: انفصال عميق عن شعبه وعدم الرغبة في الترويج لاستراتيجية متماسكة لتحرير فلسطين.
إذا كان تاريخ الفلسطينيين المؤلم قد علّمهم أي شيء، فهو أن الأمور السيئة تحدث لهم عندما لا يكون لديهم قادة ذوي مصداقية وهذا هو حال محمود عباس اليوم.
فبعد أن كان يُنظر إليه في يوم من الأيام على أنه صانع سلام ومصلح سياسي واعد، تحوّل عباس بشكل مطرد إلى مستبد مضطرب وضيق الأفق مع سجل حافل بالفشل لم ينقطع تقريبًا. وعلى الرغم من أن بعض هذه الانتكاسات كانت نتيجة لقوى خارجة عن سيطرته، لا سيما خلال السنوات القليلة الأولى من حكمه، إلا أن معظمها كان من صنعه هو نفسه.
تشمل قائمة قصيرة من هذه الانتكاسات الذاتية ترك الانشقاق السياسي الداخلي المدمر يتفاقم، وخلق بيئة من الفساد والاستبداد المتنامي، والأهم من ذلك كله الفشل في وضع استراتيجية متماسكة للتحرر الوطني.
لقد كانت أوجه قصور عباس أكثر وضوحًا وأشد تأثيرًا في قطاع غزة أكثر من أي مكان آخر، فالقطاع يسكنه نحو 40 بالمائة من الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وقد طردت حماس سلطته الفلسطينية منه في سنة 2007. وقد تجنّب محمود عباس باستمرار التعامل مع مشاكل غزة، مما سمح للقطاع بشلّ السياسة الفلسطينية الداخلية وإحباط مفاوضات السلام مرارًا وتكرارًا.
والآن، في خضم الحرب الرهيبة التي لا تنتهي، كان أمام عباس فرصة للتخفيف من بعض الأضرار التي لحقت بالفلسطينيين وبإرثه الخاص من خلال السعي لتحقيق الوحدة الفلسطينية. ولكن حتى في هذه اللحظة الأكثر حسمًا في التاريخ الفلسطيني، لا يزال محمود عباس متفرجًا لا حول له ولا قوة، ولا رأي له في الحرب أو السلام.
وبالطبع، لا يقع اللوم عليه وحده في إهمال القضية الفلسطينية الذي أدى إلى هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، فلا شك أن حماس وإسرائيل والولايات المتحدة وحتى عملية السلام نفسها لعبوا دورًا في ذلك. لكن قيادة محمود عباس القاصرة أسهمت في الظروف التي عجّلت بالحرب، كما أن افتقاره إلى رؤية مستقبلية يساعد على استمرارها الآن.
انتكاسة تلو الأخرى
لقيادة عباس للسلطة الفلسطينية تاريخ طويل من المشاكل. فقد كانت بداية ولايته مبشّرة في كانون الثاني/يناير 2005، بعد وفاة ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس المؤسس للسلطة الفلسطينية الذي كان يهيمن على السياسة الفلسطينية لعقود. ولكن سرعان ما واجه محمود عباس انتكاسة تلو الأخرى، فقد أدى تطوران رئيسيان على وجه الخصوص: فشل فك الارتباط أحادي الجانب الإسرائيلي من غزة في أواخر سنة 2005 وانهيار حكومة الوحدة الوطنية والحرب الأهلية التي تلت ذلك في غزة في سنة 2007، إلى القضاء على قيادته.
لقد كان تركيز عباس منصبًا على هدفين مزدوجين عندما تولى منصبه: توحيد الفصائل الفلسطينية المنقسمة تحت حكمه وتأمين اتفاق سلام ينهي عقودًا من الاحتلال الإسرائيلي ويؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
على عكس عرفات، الذي سعى في كثير من الأحيان إلى الاستفادة من العنف السياسي، كان محمود عباس شديد الالتزام بالدبلوماسية. وبالفعل، كانت شخصية محمود عباس لين الكلام والمتقدم في العمر – سيبلغ التاسعة والثمانين من عمره في تشرين الثاني/نوفمبر – على النقيض تمامًا من شخصية سلفه الأكثر قوة. كان عباس يفتقر إلى الجاذبية بشكل ملحوظ وكان معروفًا بنفوره من الحشود. كانت شخصيته أقرب إلى مدير مدرسة منه إلى قائد حركة تحرير.
حلّ عباس الذي كان يشعر بالإهانة حكومة الوحدة المفترضة واتهم حماس بالقيام بانقلاب في غزة، فكافأت إسرائيل عباس برفع الحصار عن الضفة الغربية بينما عاقبت غزة بحصار كامل
في غضون شهر من توليه منصبه، تمكّن محمود عباس من توحيد الفصائل الفلسطينية المختلفة لدعم اتفاق وقف إطلاق النار مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، منهيًا بهدوء أكثر من أربع سنوات من إراقة الدماء خلال الانتفاضة الثانية.
كان محمود عباس يأمل استخدام الهدوء لتمهيد الطريق للدبلوماسية، لكن شارون لم يكن مهتمًا بعملية السلام. وبدلًا من ذلك، طرح خطة جذرية للانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، وهي خطوة لم تكن تهدف إلى دفع حل الدولتين إلى الأمام بل – حسب وصف رئيس أركان شارون دوف فايسغلاس – كانت تهدف إلى وضع الدولة الفلسطينية في “حالة من الجمود”.
وأغلقت إسرائيل فعليًا حدود غزة مما أدى إلى انهيار اقتصادها. ومع أن فشل فك الارتباط الإسرائيلي أحادي الجانب لم يكن خطأ محمود عباس، إلا أنه أطلق سلسلة من الأحداث التي لن يتعافى منها أبدًا.
بداية، أنهى انتصار حماس المفاجئ في الانتخابات الوطنية في كانون الثاني/يناير 2006 فعليًا أربعة عقود من هيمنة فتح على السياسة الفلسطينية. وكانت هذه ضربة كبيرة ليس فقط لعباس بل أيضًا لعملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن عباس كان يأمل تشجيع الاعتدال السياسي لحماس، إلا أن الولايات المتحدة وإسرائيل اعتمدتا مقاربة صفرية مع الحركة التي صنّفاها كمنظمة إرهابية: فقد رفضتا رفضًا قاطعًا أي تعامل مع حماس إلى أن تلقي سلاحها وتعترف بإسرائيل.
وبينما حجبت إسرائيل عائدات الضرائب التي كانت تشكل الجزء الأكبر من ميزانية السلطة الفلسطينية، فرضت الولايات المتحدة مقاطعة دولية على الحكومة الجديدة بقيادة حماس، مما أدى إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني ودفع السلطة الفلسطينية إلى حافة الانهيار لفترة وجيزة.
على أمل نزع فتيل الأزمة، أبرم عباس اتفاق وحدة مع حماس في شباط/فبراير 2007 عُرف باسم اتفاق مكة وافقت فيه حماس على التخلي عن السيطرة على معظم وزارات السلطة الفلسطينية لصالح فتح.
وعلى الرغم من أن الاتفاق حظي بدعم المملكة العربية السعودية وحلفاء واشنطن العرب الآخرين، إلا أن الولايات المتحدة وإسرائيل واصلتا رفض أي ترتيب يسمح لحماس بالبقاء في الحكومة. وبدلًا من ذلك، ضغطت إدارة بوش على محمود عباس لحل الحكومة والدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة، وهي خطوة غير عادية وغير دستورية.
واجه محمود عباس خيارًا مستحيلًا: إما إلغاء نتائج الانتخابات الديمقراطية وإشعال حرب أهلية أو المخاطرة بعزلة دولية إلى أجل غير مسمى وانهيار السلطة الفلسطينية في نهاية المطاف. ومع تصاعد الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، اندلع القتال بين حماس والسلطة الفلسطينية في حزيران/يونيو 2007، وانتهى بسيطرة حماس على غزة بالقوة وطرد السلطة الفلسطينية من القطاع.
حلّ محمود عباس الذي كان يشعر بالإهانة حكومة الوحدة المفترضة واتهم حماس بالقيام بانقلاب في غزة، فكافأت إسرائيل عباس برفع الحصار عن الضفة الغربية بينما عاقبت غزة بحصار كامل.
وبعد أن أصيب بالشلل السياسي الآن، أمضى عباس السنة التالية وهو يتجنّب المناشدات الأمريكية لاستئناف المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، ووافق فقط على المشاركة في “محادثات غير مباشرة عن قرب”
وقد أدى انهيار اتفاق مكة والحرب الأهلية التي أعقبت ذلك في سنة 2007 إلى ترسيخ الانقسامات الناشئة في السياسة الفلسطينية وضمان استمرار عدم الاستقرار في غزة. ومن غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل على استعداد لإسقاط السلطة الفلسطينية واتفاقات أوسلو من أجل إبعاد حماس عن السياسة الفلسطينية. ولكن من خلال إعطاء الأولوية لمطالب عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة على الوحدة الوطنية، ضمن محمود عباس عدم حصوله على أي منهما.
ترك الخلاف مع حماس قيادة محمود عباس عاجزة بشكل دائم، فهي أضعف من أن تكون شريك سلام موثوقًا به، وأكثر اعتمادية على الولايات المتحدة وإسرائيل من أن تسعى إلى تحقيق وحدة وطنية فعلية. أصبح هذا واضحًا على الفور تقريبًا مع إعادة إطلاق مفاوضات السلام في أنابوليس في أواخر سنة 2007. واستمرت المحادثات لمدة سنة، إلى أن اندلعت الحرب بين إسرائيل وحماس في كانون الأول/ديسمبر 2008.
في ذلك الوقت، كان ذلك الصراع هو الأكثر دموية على الإطلاق في غزة والأول من بين عدة حروب دامية في السنوات التالية. وأدى الهجوم الإسرائيلي، الذي خلّف نحو 1400 قتيل فلسطيني و13 قتيلًا إسرائيليًا، إلى تآكل دعم محمود عباس بشكل خطير. فقد اعتبره العديد من الفلسطينيين الآن ليس فقط عاجزًا عن وقف الهجوم، بل متواطئًا أيضًا في العدوان نظرًا لعدائه مع حماس.
وبعد أشهر، أُجبر عباس على أن يعيش الكابوس من جديد بعد صدور تقرير غولدستون، وهو تحقيق أجرته الأمم المتحدة في حرب غزة في 2008-2009، والذي اتهم إسرائيل وحماس بارتكاب جرائم حرب. عندما طُرح تقرير غولدستون للتصويت في الأمم المتحدة في أواخر سنة 2009، تعرض عباس لضغوط أمريكية وإسرائيلية مكثفة ليطلب من حلفائه تأجيل التصويت، وهذا ما فعله، مما أثار عاصفة من الغضب.
بالنسبة للكثير من الفلسطينيين، كان استعداد عباس للتخلي عن سكان غزة الذين قُتِلوا في الحرب والتخلي عن جزء مهم من النفوذ ضد المحتلين الإسرائيليين بمثابة خيانة. وعلى الرغم من محاولات عباس للسيطرة على الأضرار، بما في ذلك التلويح الفاتر بالاستقالة، إلا أن كارثة غولدستون كانت بمثابة نقطة متدنية جديدة في رئاسته.
وبعد أن أصيب بالشلل السياسي الآن، أمضى عباس السنة التالية وهو يتجنّب المناشدات الأمريكية لاستئناف المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، ووافق فقط على المشاركة في “محادثات غير مباشرة عن قرب”؛ حيث تواصل المسؤولون الأمريكيون بشكل منفصل مع المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين. وحتى بعد أن تمكنت واشنطن من إقناع محمود عباس باستئناف المفاوضات المباشرة في أيلول/سبتمبر 2010، انهارت المفاوضات في غضون أسابيع قليلة.
الموت بالتثليث
تسببت انتفاضات الربيع العربي، التي بدأت في أواخر سنة 2010 واستمرت في الانتشار في جميع أنحاء الشرق الأوسط خلال سنة 2011، في المزيد من الصداع لعباس. ففي أوائل سنة 2011، أدت الثورة الشعبية إلى الإطاحة بحسني مبارك، رجل مصر القوي الذي حكم مصر لفترة طويلة وأهم حليف لعباس في العالم العربي. وبعد الإطاحة بمبارك، استحوذت جماعة الإخوان المسلمين المصرية – حليفة حماس – على السلطة لفترة وجيزة، مما شجّع خصوم محمود عباس.
ومع تراجع شرعية عباس مع استمرار انقسام السلطة الفلسطينية وفسادها وقمعها، امتدت الاحتجاجات إلى الضفة الغربية وغزة. ومع مطالبة المتظاهرين بإنهاء الانقسامات بين فتح وحماس، اضطر محمود عباس إلى التراجع عن عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة والسعي لتحقيق الوحدة الوطنية.
وفي أيار/مايو 2011، وقّع اتفاق مصالحة مع حماس دعا إلى تشكيل حكومة توافق وطني مؤلفة من تكنوقراط لا ينتمون إلى أي فصيل، فضلًا عن إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. وفي الوقت نفسه، سعى إلى الحصول على عضوية الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من أن كلا الإجراءين حظيا بشعبية كبيرة في الداخل، إلا أنهما أثارا ردًا عقابيًا من الولايات المتحدة وإسرائيل. ونتيجة لذلك، اضطر محمود عباس إلى التريث في تنفيذ اتفاق المصالحة مع حماس، بينما كان يتباطأ في مسعاه في الأمم المتحدة. وقد حصل على دفعة داخلية كان في أمس الحاجة إليها عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 أخيرًا بالاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو. وقد سمح الوضع الجديد للفلسطينيين بالانضمام إلى هيئات دولية أخرى، مثل المحكمة الجنائية الدولية.
وعلى الرغم من التحديات العابرة التي واجهها؛ كان عباس يعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة لدرجة أنه لم يكن بمقدوره الانسحاب بشكل كامل. فقد أصبح تمسكه بعملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة عائقًا داخليًا، حيث اعتبر معظم الفلسطينيين أن هذه العملية غير متوازنة وغير فعالة إلى حد كبير.
وحاول محمود عباس أن يوازن بين هذه المصالح المتضاربة عبر اتباع ثلاثة مسارات في الوقت نفسه: المصالحة الداخلية، وتدويل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال الأمم المتحدة وغيرها من المحافل متعددة الأطراف، والمفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة مع إسرائيل.
وبدلًا من دمج هذه المسارات الثلاثة في خطة واحدة متماسكة للتحرر الوطني، كان عباس يتأرجح بين هذه الأولويات دون الالتزام الكامل بأي منها. وعندما يستنفد أحد المسارات أو يصبح مكلفًا للغاية؛ انتقل ببساطة إلى المسار التالي.
فعلى سبيل المثال؛ عندما انهارت المفاوضات برعاية وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في آذار/ مارس 2014، بعد تسعة أشهر فقط، انتقل عباس إلى مسار آخر من خلال الانضمام إلى 15 اتفاقية ومنظمة دولية وتوقيع اتفاق مصالحة جديد مع حماس.
ومع ذلك؛ ظل عباس عاجزًا عن التأثير على الأحداث في غزة. فقد أدى اندلاع حرب مدمرة أخرى في القطاع في سنة 2014، والتي خلفت نحو 2200 قتيل فلسطيني و70 إسرائيليًا، إلى تقويض مكانة عباس الداخلية مرة أخرى. فقد غضب الكثير من الفلسطينيين من السلطة الفلسطينية، معتبرين أنها دعمت إسرائيل والولايات المتحدة ضد حماس.
ولإخماد هذا الغضب، انضم عباس إلى المحكمة الجنائية الدولية في أوائل سنة 2015، وهي خطوة اعتبرها العديد من الإسرائيليين بمثابة خيار نووي كان عباس يتجنبها بعناية حتى ذلك الحين. وقد أدى هذا القرار إلى فرض عقوبات جديدة على السلطة الفلسطينية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة.
وأصبح عباس الآن عالقًا في حلقة مفرغة من صنعه إلى حد كبير: فكلما ضعف، شعر بأنه مضطر للابتعاد عن إسرائيل وعملية السلام، ولكن كلما تحدى المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، واجه المزيد من العقوبات وأصبح أضعف.
تراجعت شعبية عباس إلى أدنى مستوياتها، حيث أفاد نحو ثلثي الفلسطينيين بأنهم يفضلون استقالته، وهي نسبة من المتوقع أن ترتفع مع مرور الوقت. وأصبحت التكهنات العامة حول من سيخلف الزعيم المسن موضوعًا شائعًا على الصعيد الوطني.
وبحلول سنة 2015، بدأت الضغوط على عباس تزداد بشكل ملحوظ. ورغم أن انضمامه إلى المحكمة الجنائية الدولية منح محمود عباس زيادة مؤقتة في شعبيته، إلا أن هذه الخطوة كانت تعني أيضًا أنه أخذ مسار التدويل إلى أقصى حد يمكن أن يصل. وفي الوقت نفسه، أدى إعادة انتخاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، الذي ترأس ائتلافًا أكثر يمينية من ذي قبل، إلى إنهاء أي فرصة لاستئناف مفاوضات السلام.
وقد أدى الجمود الدبلوماسي والحاجة الملحة لإعادة إعمار غزة إلى تقديم فرصة مواتية لترتيب البيت الفلسطيني، لكن عباس ماطل مرة أخرى في اتخاذ خطوات حاسمة. بينما خففت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من موقفهما تجاه المصالحة الفلسطينية، مشيرتين إلى إمكانية العمل مع حكومة التوافق (أو التعايش معها على الأقل). ولكن عباس، بعد سنة واحدة فقط من تشكيل حكومة التوافق التي لم تكن تعمل في غزة، حلّها، مما أدى إلى تأخير جهود إعادة الإعمار في القطاع الذي دمرته الحرب.
وعلى الرغم من أن حماس، بموافقتها على تقاسم السلطة، قد أبدت استعدادها للتخلي عن دورها في الحكم في القطاع، إلا أن محمود عباس كان مترددًا في وراثة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية العديدة في القطاع، والتي لم يكن لديه حلول فعّالة لها. بالإضافة إلى ذلك، كان أقل اهتمامًا بتقاسم السلطة مع حماس في منظمة التحرير الفلسطينية الموسَّعة والمُصلحَة.
وخلال هذه الفترة، تراجعت شعبية عباس إلى أدنى مستوياتها، حيث أفاد نحو ثلثي الفلسطينيين بأنهم يفضلون استقالته، وهي نسبة من المتوقع أن ترتفع مع مرور الوقت. وأصبحت التكهنات العامة حول من سيخلف الزعيم المسن موضوعًا شائعًا على الصعيد الوطني.
عباس الطاغية
عندما بدأت إستراتيجيته في التنقل بين المسارات تتلاشى، ومع تضاؤل شرعيته المحلية، أصبح عباس أكثر استبدادًا وجنونًا. وبدأ يهاجم منافسيه الحاليين والمحتملين، سواء كانوا حقيقيين أو متخيلين، وامتدت قائمة أعدائه الداخليين لتشمل قائد الأمن السابق في غزة، محمد دحلان، ورئيس الوزراء السابق، سلام فياض، والشخصية البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عبد ربه. وكان عباس يحكم فعليًّا بموجب مرسوم منذ سنة 2007، دون أي رقابة برلمانية أو مؤسسية.
ولإخفاء الطابع التعسفي لحكمه؛ أنشأ في سنة 2016 محكمة دستورية عليا جديدة، وملأها بالموالين له لمصادقة قراراته. وبعد ذلك بسنتين، أعاد محمود عباس إحياء المجلس الوطني الفلسطيني، وهو برلمان منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان خاملًا منذ فترة طويلة في المنفى، لأول مرة منذ 22 سنة، بهدف انتخاب لجنة تنفيذية جديدة. وقد أعاد تعيين نفسه رئيسًا جديدًا له، مما جدد ولايته كرئيس للسلطة الفلسطينية بشكل ملائم ودون الحاجة إلى إجراء انتخابات. وعلى الرغم من انتقادات المجتمع المدني وجماعات المعارضة لهذه الإجراءات، أصر عباس على تنفيذها. وبحلول نهاية سنة 2018، استخدم عباس صلاحياته الجديدة لحل المجلس التشريعي التابع للسلطة الفلسطينية، (الذي كان عاطلًا إلى حد كبير)، بشكل رسمي.
وبعد أن ربط نفسه بشكل كامل بسفينة عملية السلام الغارقة بقيادة الولايات المتحدة؛ وجد محمود عباس نفسه عرضة لتقلبات السياسة الأمريكية والإسرائيلية على مدى السنوات العديدة التالية. ففي البداية؛ حاول عباس إرضاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكنه اضطر إلى تغيير مساره في أواخر سنة 2017 عندما اعترف ترامب بالقدس كعاصمة لإسرائيل، مما أدى إلى تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة التي استمرت سبعين سنة، ثم اتخذ عباس الخطوة غير المريحة – وغير المسبوقة بالنسبة للسلطة الفلسطينية – بإعلانه أن الولايات المتحدة لم تعد طرفًا في عملية السلام.
ولكن ترامب كان قد بدأ للتو في تنفيذ سياسته. فعلى مدار السنوات القليلة التالية، عملت إدارته بكل جهد على الضغط على محمود عباس، حيث قامت بقطع جميع المساعدات المقدمة للفلسطينيين سواء داخل الأراضي المحتلة أو خارجها، وأعادت النظر في السياسات الأمريكية بشأن المستوطنات، معتبرة إياها قانونية، وألغت مبدأ الأرض مقابل السلام، بل واستغنت عن فكرة أن الفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي. (أطلق ترامب على الأراضي “المتنازع عليها” أو ببساطة “يهودا والسامرة”) ومن المفارقات أن الهجوم الأمريكي المعادي للفلسطينيين ساعد بشكل غير متوقع في تعزيز موقف قيادة عباس الضعيفة.
وردًّا على ما عُرف بصفقة القرن التي أعلنها ترامب، وهي تسوية سلمية مزعومة تمنح إسرائيل جميع مطالبها الرئيسية تقريبًا، بالإضافة إلى الحديث المتزايد بين الإسرائيليين عن ضم رسمي للضفة الغربية، نفذ عباس تهديده القديم بقطع العلاقات الأمنية مع إسرائيل، مما منح الزعيم المحاصَر دفعة شعبية عابرة.
علاوة على ذلك؛ أجبرت اتفاقات إبراهيم – وهي اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين التي وُقِّعت في أيلول/ سبتمبر 2020 – الفلسطينيين على التكاتف للدفاع عن قضيتهم التحررية التي كانت قد تم تهميشها فعليًا. وشكلت هذه الاتفاقات تحولًا في السياسة الخارجية للعديد من الدول العربية، التي كانت ترى في السابق أنها لن تقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل إلا مقابل تقديم تنازلات للفلسطينيين. وفي غضون أيام من توقيع اتفاقات إبراهيم، وقعت حركتا فتح وحماس على اتفاق المصالحة الأكثر شمولًا حتى ذلك الوقت، والذي تضمن لأول مرة جدولًا زمنيًا للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
مع اندلاع الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، ظل محمود عباس عاجزًا وغير ذي صلة، وبدأت حتى سلطته في الضفة الغربية تتداعى. فقد كانت السلطة الفلسطينية تعاني من أزمة مالية خانقة، مما أثر على قدرتها على دفع الرواتب لموظفيها
وإذا كانت هناك فرصة سانحة لعباس لإعادة تشكيل إرثه، فإن الانتخابات الوطنية التي كان المقرر إجراؤها في ربيع وصيف 2021 كانت ينبغي أن تكون تلك الفرصة. وعلى الرغم من أن حركتي فتح وحماس حاولتا التلاعب بالنتائج مسبقًا، إلا أنه كان هناك حماس شعبي حقيقي لاحتمال إحياء الحياة السياسية الفلسطينية بعد سنوات من الركود. وكانت الانتخابات تعِد بمشاركة 36 قائمة انتخابية وأكثر من 1300 مرشح في أول انتخابات وطنية تُجرى منذ 15 سنة. ولكن في كانون الثاني/ يناير 2021، تولى الرئيس جو بايدن منصبه، ومرة أخرى، وضع عباس احتياجات شعبه جانبًا في محاولة لكسب ود الإدارة الجديدة في واشنطن.
في البداية؛ سارع محمود عباس إلى استئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل وقدم إيماءات أخرى في محاولة للعودة إلى حظوة واشنطن، لكن هذه الجهود لم تقابل بمشاعر متبادلة. فعلى الرغم من أن الرئيس جو بايدن أعاد المساعدات للفلسطينيين، إلا أنه لم يكن مستعدًا لاستثمار رأس مال سياسي كبير في الفلسطينيين أو في عملية حل الدولتين. ومع بداية ذوبان الجليد في العلاقات مع الولايات المتحدة، شعر عباس بالارتياح مجددًا في تجميد السياسة الداخلية.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الفلسطينية، زادت مخاوف عباس بشأن مستقبل حزبه “فتح”، الذي كان لا يزال يعاني من انقسامات شديدة. وقبل أكثر من ثلاثة أسابيع فقط من موعد التصويت، قرر عباس إلغاء الانتخابات، مما أثار موجة من الاستياء الواسع بين الفلسطينيين، وقوبل القرار بصمت من واشنطن.
وثبت أن قرار محمود عباس بإلغاء الانتخابات كان من بين أكثر الخطوات أهمية في مسيرته السياسية. فإجراء الانتخابات كان من شأنه أن ينهي الانقسام الطويل والمُنهك مع حركة حماس عبر دمجها في السياسة الرسمية، وربما كان من الممكن أن يمنع حتى هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لأن حماس كانت ستفقد إلى حد كبير قدرتها على التصرف كفاعل مستقل. وبدلًا من ذلك، بإلغائه الانتخابات، ختم عباس إرثه الكارثي وعجّل بزواله السياسي. وبعد أسابيع قليلة من إلغائه الانتخابات؛ قُتِل نزار بنات، وهو ناشط شعبي ومنتقد صريح لعباس، على يد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، مما أثار أسابيع من الاحتجاجات وأبرز الفساد الأخلاقي في إدارة عباس.
ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، ظل محمود عباس عاجزًا وغير ذي صلة، وبدأت حتى سلطته في الضفة الغربية تتداعى. فقد كانت السلطة الفلسطينية تعاني من أزمة مالية خانقة، مما أثر على قدرتها على دفع الرواتب لموظفيها. وقد أدت الحملة الإسرائيلية العنيفة على المتمردين المسلحين في شمال الضفة الغربية إلى قلب حياة الفلسطينيين العاديين رأسًا على عقب. كما تسببت هذه الحملة في إجبار قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على الانسحاب من بعض المناطق في شمال الضفة الغربية.
شكرًا لكم.. التالي
وبالطبع، يواجه أي زعيم فلسطيني قيودًا كبيرة على سلطته. فبسبب انعدام الجنسية الفلسطينية وتبعية السلطة الفلسطينية لإسرائيل، لا يستطيع أي زعيم فلسطيني التأثير على النتائج بنفس الطريقة التي يتمكن بها نظيره الإسرائيلي أو الأمريكي. وعلى الرغم من القيود التي واجهها محمود عباس، فقد أظهر في بعض الأحيان قدرته على تحقيق إنجازات كبيرة، وغالبًا ما كان ذلك في ظل مخاطر كبيرة. فقد تمكن محمود عباس من مقاومة العقوبات الأمريكية والإسرائيلية ليحقق في سنة 2012 صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة لفلسطين، ومن ثم الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في سنة 2015.
وكانت حملة محمود عباس لجمع الدعم الدولي للفلسطينيين من خلال الهيئات المتعددة الأطراف هي التي مهّدت الطريق لتحقيق محكمة العدل الدولية في جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل هذه السنة، وقيام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بطلب إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيل وحماس.
ومع ذلك؛ لم يكن عباس مستعدًا لتحدي الولايات المتحدة وإسرائيل إلا عندما كان ذلك يخدم مصالحه الشخصية، مثل تحسين مكانته المحلية. فهو لم يكن مستعدًا المخاطرة بالقدر نفسه في خدمة قضايا شعبه، مثل إنهاء الخلاف مع حركة حماس، الأمر الذي كان سيتطلب شكلًا من أشكال تقاسم السلطة.
ولطالما كانت معضلة محمود عباس المركزية هي كيفية تحقيق التوازن بين الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل وحتمية الوحدة الوطنية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن ما فشل عباس والقادة الإسرائيليون والأمريكيون في فهمه هو أن تحقيق سلام دائم مع إسرائيل لا يمكن أن يتم دون المصالحة الوطنية الفلسطينية.
فمن خلال التضحية بالتماسك السياسي الفلسطيني وشرعيته الداخلية على مذبح عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة، ألحق عباس ضررًا كبيرًا بالنضال الفلسطيني. بينما عملت إسرائيل على تعزيز الانقسام الفلسطيني من خلال إستراتيجية فرق تسد، التي ثبت أنها قصيرة النظر وضارة، كما تجلى بوضوح في الهجوم الذي وقع في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
لكن محمود عباس لن يكون موجودًا إلى الأبد، ومن الضروري أن يتطلع الفلسطينيون إلى اختيار خليفة قادر على تجاوز التوترات التي أعاقت قيادة محمود عباس منذ البداية. وسيتعين على الخليفة أن يتعامل مع هذه المعضلة من خلال توحيد النظام السياسي الفلسطيني الممزق، بما في ذلك دمج حركة حماس في الهياكل السياسية الرسمية مثل منظمة التحرير الفلسطينية.
سيكون من الصعب جدًا على المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين تقبل ذلك، لكن حركة حماس لن تختفي، والسماح لها بالاستمرار كعامل مستقل سيؤدي إلى تفاقم الوضع. وسواء كان هناك دعم من الولايات المتحدة أم لا، يجب على الزعيم الفلسطيني القادم أن يضع رؤية واضحة للوحدة الوطنية والتحرير؛ رؤية تتجاوز عملية السلام المعطلة والتي عفا عليها الزمن.
المصدر: فورين أفيرز