لا تدخل أو تخرج إلا بإذن شديد الصرامة، حرية التنقل ممنوعة، سيكون هناك رفض مسبق لزيارتك إلا لو جاءت من أقاربك من الدرجة الأولى، ويجب أن تكون أسباب الزيارة قهرية ومقبولة، هكذا يعيش أبناء 44 مدينة روسية تحت أحكام الطوارئ وقسوتها بشكل دائم، بين جدران قواعد صارمة، ربما لم يكن سيقدم عليها أي جيش احتلال مهمته تهويد الأرض وإرهاب الإنسان، ولكنه الطموح النووي الذي اقتطع أجزاءً من روسيا وجعلها “مدن محرمة”.
لماذا فُتح الملف من جديد؟
قبل أيام قليلة كانت القضية ملفًا قديمًا تعود جذوره إلى أربعينيات القرن الماضي، عندما كانت أعلام الاتحاد السوفيتي ترتفع في عنان السماء وتشق العالم إلى نصفين، يدير أحدها الكرملين، ويتحكم في الآخر البيت الأبيض، والأول يرجع إليه الفضل في عملية اختيار تلك المدن التي احتضنت الأبحاث الخاصة بالمشروع النووي الروسي، وحتى الآن تحاول تحصينه وتطويره ليبقى الأعظم في العالم كما كان يخطط له.
كان الاتحاد السوفيتي قد أقر عدة موانع لتحصين المدن ضد الجواسيس، وأطلق عليها بالروسية اسم “زاتو” أي المدن المغلقة، وبالفعل فرض عليها سياجًا من السرية والغموض، ومع الوقت اختفى الحديث عن الإجراءات الأمنية المبالغ فيها، حتى فتح الملف مرة أخرى في مدينة شيخاني بعد تطورات دولية لم تكن في الحسبان.
الإنترنت كان سبيل الكثير من الروسيين مؤخرًا لمعرفة قصة المدن المغلقة، بعدما ظلت القضية طوال عقود ليست أكثر من ملف سري
فتُحت مدينة شيخاني بشكل مفاجئ، وهي حيلة مخابراتية بالطبع لجأت إليها روسيا الأسبوع الماضي، وخففت من الإجراءات الأمنية في محاولة لضرب المزاعم والتقارير المخابراتية الغربية وخاصة البريطانية التي زعمت وجود أبحاث خاصة بالمدينة عن “النوفيتشوك” المادة التي اعتبرتها إنجلترا قبل أشهر سلاح الجريمة الخفي الذي اُستخدم في محاولة اغتيال الجاسوس الروسي المزدوج السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليوا في بريطانيا، واتهُم به المخابرات الروسية، خصوصًا أن المادة المعلنة كأداة للجريمة كانت محل بحث وتطوير منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتخصصت فيها مدينة شيخاني.
تتمدد المدينة على نهر الفولغا، تبتعد نحو 750 كيلومترًا من جنوب شرق موسكو، ويبلغ عدد سكانها نحو 5500 شخص، ويفرض عليها تعليمات قاسية خلال الدخول أو الخروج إليها، بل والتنقل في حد ذاته، يجب أن يكون بإذن مسبق من السلطات الحاكمة، ولا يمكن لأي عائلة روسية زيارة أبنائها في هذه المدينة أو الـ43 الأخرى، إلا عبر إثبات صلة القرابة أولاً، وثانيًا الحصول على موافقة مكتوبة من الأجهزة الأمنية المعنية، في الوقت الذي يمنع ويحظر تمامًا على الأجانب مجرد الاقتراب من هذه المدن.
المثير أن الإنترنت كان سبيل الكثير من الروسيين مؤخرًا لمعرفة قصة المدن المغلقة، بعدما ظلت القضية طوال عقود ليست أكثر من ملف سري وقصص من حكايات لا يعرف عنها شيئًا إلا القليل من الناس؛ فلا المدن ظاهرة على الخرائط، ولا يدرسها الطلاب ضمن حدود الدولة في جميع المستويات الدراسية، فقط بعض العاملين في القطاعات الأمنية والأجهزة المتقاطعة مع خصوصية المدن، كانوا يعرفون بوجودها، ويفهمون جيدًا أن خلفها أنشطة سرية، الأمر الذي يبرر وجود حراسات أمنية وأكمنة مدججة بأحدث وسائل المراقبة، على جميع الطرقات المؤدية إليها والمدعومة بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة.
“الكي جي بي”.. المخابرات صاحبة الكلمة العليا دائمًا
جهاز “الكي جي بي” أو المخابرات الروسية، يتولى الملف الأمني لهذه المدن، يتصدى لتأمينها ضد أي شخص مجهول يريد الإذن للدخول، وتشمل المحاور الأمنية في الاستعلام عنه بعد التأكد من قرابته لأحد ساكني هذه المدن، أدق التفاصيل التي لا تخطر على بال، لذا كانت هذه الإجراءات الأمنية سببًا كافيًا لترك الكثير من أبناء هذه المدن لتاريخ عائلاتهم فيها بتشجيع من الدولة التي عوضتهم الخسارة ومنحتهم أملاك بديلة لما خسروها في مدن أخرى.
رغم الإجراءات الأمنية المشددة تلك، فإن بعض تقارير الصحافة العالمية أكدت أن المدن الروسية يعشش فيها الفساد
ويعمل جهاز المخابرات الروسية بكل الطرق لإبصار أهالي تلك المدن بحقيقة وأسباب الإجرءات المشددة التي يتبعها معهم، خصوصًا أن العديد من أهلها يعملون في المؤسسات البحثية النووية تلك، وهي أسباب كافية من وجهة نظر المخابرات لإحاطة هذه المدن بقدر كبير من السرية والغموض، بل وعزلها عن العالم للحفاظ على سرية المؤسسات البحثية والمصانع العسكرية فيها وهو ما يبرر تقاسم سن هذه القوانين بين وزارة الدفاع الروسية وقيادة السلاح النووي.
ورغم الإجراءات الأمنية المشددة تلك، فإن بعض تقارير الصحافة العالمية أكدت أن المدن الروسية يعشش فيها الفساد، وكشفت النقاب عن إحباط أجهزة الأمن عام 1998 لنقل نحو 18.5 كيلوغرام من المواد المشعة بإقليم تشيليابنسك (Chelyabinsk)، بحسب مجلة المسلح المتخصصة في شؤون التسليح بالعالم، ولم يتسن للمراقبين الدوليين التأكد من صحة الواقعة بسبب السياج السري المفروض على المدن، وبالطبع لقوة روسيا وتأثيرها العسكري في العالم، بما يمنع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التعريض بالأمن الروسي والتحدث علانية في هذه الشؤون، على نحو مشابه لما يحدث في باقي بلدن العالم.
4 مناطق رأس المشروع البحثي لـ”المدن المعلقة”
رغم اتساع عدد المدن إلى 44 مدينة، فإن القائمة بها أربع مدن يشار إليهم دائمًا باعتبارهم رأس المشروع البحثي وأكثر من يتم تطبيق هذه الآليات المشددة عليهم، بداية من مدينة “سيفيرسك” الواقعة في مقاطعة تومسك وسط روسيا.
وتعد سيفيريسك أكبر المدن المغلقة على الإطلاق، خاصة أنها تضم منشأة نووية بالغة الأهمية، وفيها يتم إنتاج اليورانيوم والبلوتونيوم، كما تضم المدينة ثاني أكبر محطة نووية لإنتاج الكهرباء في روسيا، وحتى تغطي موسكو على نشاط المدينة، تفتح بها مدخلاً من أحد الجوانب، وفيه تقيم العديد من الأنشطة الرياضية، وقبل عقود كثفت هذا النشاط بشدة لزيادة التمويه، لدرجة أنها باتت أهم معقل للحركة الرياضية بالمنطقة بأكملها.
وقع اختيار روسيا على مدينة تريوخغورني بسبب موقعها الكائن على الحدود بين أوروبا وآسيا، ويقطن فيها ما يقرب من 35 ألف شخص حاليًّا
وعلى مقياس سيفيريسك، لجأت روسيا لإصباغ مدن ثلاثة بنفس الطريقة، وجعلت من مدينة ساروف هي الأخرى معقلاً للأبطال الأولمبيين، وهذه المدينة تبعد نحو 500 كيلومتر عن العاصمة موسكو، وبحسب تقارير أجنبية، هي أهم موطن لتصنيع القنابل الذرية في العالم، ويبلغ مجموع سكانها نحو 90 ألف شخص، منهم 20 ألفًا أي نحو 30% من ساكنها، ينخرطون في العمل بمعهد أبحاث الفيزياء التجريبية بالمدينة.
رغم محاولات التمويه المستمرة، فإن موسكو تقيم معرضًا ومتحفًا عسكريًا من طراز عالمي في المدينة، ويحتوي أهم منتجات المعهد عبر التاريخ، وخصوصًا ما يسمى بـ”قيصر القنابل” التي لوح بها الزعيم السوفييتي خروشوف لأمريكا، خلال الحرب الباردة بين البلدين في ستينيات القرن الماضي، كما تضم المدينة دير “ساروفسكايا بوستين”، وهو الأكبر في روسيا، الأمر الذي يشتت الانتباه بشأن هوية المدينة الحقيقية.
بينما تضم مدينة “سيفيرومورسك”، التابعة لمقاطعة مورمانسك في شمال روسيا، أكبر قاعدة للقوات البحرية الروسية التي بدأ العمل فيها ثلاثينيات القرن العشرين، وحرصت روسيا على ضم المدينة إلى دائرة المدن المغلقة 1996 بعدما خرجت رسميًا من عباءة الاتحاد السوفييتي، رغم أجوائها قاسية البرودة، وبجانبها تقع مدينة “تريوخغورني” التي تضم معامل ومصانع معدات المحطات النووية لإنتاج الكهرباء ومعامل ذخائر الجيش.
وقع اختيار روسيا على مدينة “تريوخغورني” بسبب موقعها الكائن على الحدود بين أوروبا وآسيا، ويقطن فيها ما يقرب من 35 ألف شخص حاليًّا، وتعمد موسكو إلى إحاطتها أيضًا بعوامل التمويه، ودائمًا ما يتبنى التليفزيون والصحف والحكومة حملات زيارة إلى المحمية الطبيعية بالمدينة التي تضم نباتات نادرة وحيوانات لا توجد في أي مكان آخر بالعالم، لإبعاد المدينة عن ألاعيب المخابرات العالمية.
فيما تتمتع مدينة “ميرني” التابعة لمقاطعة أرخانجيلسك في شمال روسيا، بخصوصية خاصة، لا سيما أنها كانت أولى المدن التي أغلقت أبوابها منذ عام 1966، ويوجد بالمدينة كليات وأكاديميات عسكرية، ودائمًا ما تحض سلطات “ميرني” سكانها على الإسراع في النسل، وتحض على زيادة المواليد بشدة لمد الأكاديميات العسكرية الكائنة على أرض المدينة بالأعداد البشرية اللازمة، وهو ما استجاب له أهل المدينة، وأصبحت ميرني في وقت قياسي من المناطق كثيفة السكان بعدد تجاوز المليون نسمة.