بعد أقل من 20 يومًا على زيارة ولي عهد أبو ظبي لأديس أبابا، قدم خلالها حزمة من الاستثمارات تقدر بنحو 3 مليارات دولار، ها هو رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد يرد الزيارة سريعًا، لكنه هذه المرة لم يكن بمفرده، حيث كان برفقته ولأول مرة منذ 20 عامًا الرئيس الإريتري أسياس أفورقي.
حفاوة بالغة استقبل بها ابن زايد رئيس الوزراء الإثيوبي والرئيس الإريتري، ممسكًا بيديهما، تخللها تقليدهما عددًا من الأوسمة، في مشهد بعث بالعديد من الرسائل الواضحة، ما دفع البعض للتساؤل عن الدوافع الحقيقية وراء تلك الحفاوة غير المسبوقة وأسباب الزيارة المفاجئة.
العنوان الأبرز الذي تصدر الصحف والقنوات الإماراتية عقب هذا المشهد تمثل في دور أبو ظبي في رعاية المصالحة بين الجارتين المتخاصمتين طيلة العقدين الأخيرين، حتى وإن نفت أديس أبابا وجود أي أطراف أخرى في توقيع الاتفاقية مع أسمرة.
المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية ميلس آلم قال خلال مؤتمر صحفي له الأربعاء الماضي إن الاتفاقية جاءت تتويجًا لـ”جهد وعمل دؤوب ورؤية سلام شاملة من رئيس الوزراء الإثيوبي، ولم يكن هناك طرف أو وسيط ثالث.. السلام جاء برغبة ذاتية من كلا البلدين ومن قيادتيهما اللتين قامتا بدور أساسي في تحقيقه”.
مصالحة تاريخية
جاء قبول أديس أبابا تسوية النزاع الحدودي مع إريتريا بمثابة مفاجأة من العيار الثقيل، طوت صفحة عداء استمرت منذ 2002 وحتى الآن، وذلك حين توجه رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد بزيارة رسمية إلى أسمرة في الـ9 من يوليو/تموز الحاليّ، موقعًا مع الرئيس الإريتري إعلانًا أنهى به رسميًا حالة الحرب المستمرة بين البلدين، توجت بزيارة مقابلة من الأخير لأديس أبابا أعاد بها فتح سفارة بلاده هناك.
الاتفاقية الموقعة بين الجانبين تضمنت 5 نقاط هي: عودة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات وفتح الاتصالات بين البلدين وفتح الأجواء الإريترية الإثيوبية واستخدام إثيوبيا الموانئ الإريترية، بالإضافة إلى وقف كل أشكال التحركات العدائية بين البلدين.
سعت أبو ظبي وبكل قوة إلى البحث عن موطئ قدم لها في هذه المصالحة، حيث كثفت وسائل الإعلام الإماراتية في الداخل والخارج جهودها للعزف على هذا الوتر، تتويجًا للوجود الإماراتي في إفريقيا عامة ومنطقة القرن على وجه الخصوص التي تمثل أهمية إستراتيجية لها.
اهتمام أبناء زايد بإثيوبيا خلال السنوات الأخيرة على وجه الخصوص يأتي في إطار مخطط توسيع قاعدة نفوذها في منطقة القرن الإفريقي التي أصبحت الآن تضم القاعدتين العسكريتين الوحيدتين للإمارات خارج حدودها، واحدة في بربرة والثانية في عصب، هذا بخلاف نهجها الجديد الذي وضعت قواعده الأساسية خلال السنوات الـ10 الأخيرة.
تدفع أبو ظبي بقوة إلى عودة العلاقات بين المتخاصمين معاقبة لجيبوتي وعزلها بسبب موقفها الأخير، والبحث عن بديل لموانيها يحقق للإمارات أطماعها الإستراتيجية
هذا النهج يقوم على عدة مراحل مترتبة على بعضها البعض، بدءًا بالتبرع السخي لفقراء إفريقيا ومؤسساتها، ليلحق بهذا التبرع استثمارها في البنوك والموانئ والمشاريع الإنسانية من المؤسسات الاستثمارية الإماراتية الكبرى، حتى شمل هذا الاستثمار مجالات الغاز الطبيعي والأمن الغذائي، ليأتي في مرحلة لاحقة لهذا النهج الانخراط في علاقات تعاون أمني مع مجموعة من الدول الإفريقية، وهو ما يفسر النفوذ الإماراتي المتمدد في هذه المناطق مستغلة فقرها الشديد وحاجة شعوبها، وتسعى الإمارات منذ سنوات إلى تعزيز حضورها الاقتصادي في القارة الإفريقية خاصة في البحر الأحمر، وفي السنوات الأخيرة عززت إريتريا علاقاتها مع الإمارات التي أقامت قاعدة عسكرية في ميناء عصب الجنوبي.
الاهتمام الإماراتي بإثيوبيا وإن كان ممتدًا طيلة الـ10 سنوات الماضية غير أنه خلال العام الأخير فقط – رغم عدم الارتياح الإماراتي لموقف أديس أبابا المحايد من الأزمة الخليجية – شهد تطورًا ملحوظًا غير مسبوق، أسفر عن زيارة 3 من كبار رجالات الدولة (ولي عهد أبو ظبي ووزير الخارجية ووزيرة الدولة) لأديس أبابا في أقل من 6 أشهر، ثم جاء الاحتفاء المبالغ فيه باستقبال زعيمي الدولتين المتخاصمتين طيلة العقدين الأخيرين ليثير التساؤل بشأن الدوافع الحقيقية وراء تلك الحفاوة.
مصالحة تاريخية بين إثيوبيا وإريتريا بعد 20 عامًا من الخصومة
معاقبة جيبوتي
جاء إلغاء جيبوتي في 22 من فبراير/شباط الماضي لامتيازات شركة “موانئ دبي” – الذراع الاقتصادية والإستراتيجية للإمارة الثرية – لميناء البلد الإفريقي الساحلي، التي تعود إلى عام 2004 والمفترض أن تمتد حتى 2054، بمثابة الصدمة للجانب الإماراتي، خاصة في ظل الأهمية الإستراتيجية لهذا الميناء الحيوي.
تزامنت هذه الخطوة مع إطلاق بكين المرحلة الأولى من أعمال منطقة التجارة الحرة الدولية في محطة حاويات “دوراليه” على سواحل جيبوتي التي يُخطط لها أن تكون الأكبر من نوعها في إفريقيا، وهو ما أعاد إلى السطح مجددًا الصراع بين البلدين، الإمارات والصين، على النفوذ في جيبوتي.
الشركة الإماراتية هددت باتخاذ إجراءات قانونية ضد جيبوتي والصين على خلفية إنشاء الأخيرة منطقتها الحرة، غير أن خبراء أشاروا إلى فشل مثل هذه التحركات القضائية في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة، وقد يكون الاستسلام – بصيغة اتفاقية تضمن لدبي موقعًا مهمًا على الطريق التجاري الصيني – أمرًا واردًا، وإن أدى إلى تقليص طموحات الإمارات الكبيرة.
الاهتمام الإماراتي السعودي بدول إفريقيا يأتي في إطار محاولة البلدين تدشين نظام إقليمي جديد يقوم في الأساس على ربط أمن الخليج مع أمن القرن الإفريقي
جيبوتي ظلت طيلة السنوات الماضية تشكل المعبر الرئيس لصادرات إثيوبيا ووارداتها، مستغلة الخلافات الحادة بين أديس أبابا وأسمرة، بجانب الاضطرابات في الصومال، إلا أن إعادة البلدين الجارتين – إثيوبيا وإريتريا – جسور التواصل بينهما قد يفرز ظهور إريتريا كبديل للموانئ الجيبوتية.
ومن ثم تدفع أبو ظبي وبقوة إلى عودة العلاقات بين المتخاصمين معاقبة لجيبوتي وعزلها بسبب موقفها الأخير، والبحث عن بديل لموانيها يحقق للإمارات أطماعها الإستراتيجية، هذا بجانب مناهضة النفوذ الصيني في هذه المنطقة الحيوية.
إلغاء جيبوتي امتيازات شركة “موانئ دبي” لدى مينائها أثار حفيظة أبو ظبي
تعميق للنفوذ
تمثل إفريقيا بالنسبة إلى كل من الإمارات والسعودية أهمية كبرى، خاصة بعد تحديد مصالحهما الإستراتيجية في هذه المنطقة الإستراتيجية، كما نجحا وبشكل نسبي عبر توظيف نفوذهما داخل القارة في تحقيق مصالحهما والدعم في الصراعات الإقليمية بالمنطقة، كالاستعانة ببعض جنود دول القارة في الحرب في اليمن أو الضغط على آخرين لقطع العلاقات مع قطر أو إيران.
الاهتمام الإماراتي السعودي بدول إفريقيا يأتي في إطار محاولة البلدين تدشين نظام إقليمي جديد يقوم في الأساس على ربط أمن الخليج مع أمن القرن الإفريقي، وهو ما يمهد الطريق أمام تنفيذ مخططاتهما سواء في اليمن أو في العمق الخليجي ذاته، بتجييش دول القارة لدعم توجه سياسي بعينه.
الإمارات تسعى وبشكل واضح إلى تحقيق المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية عبر تحقيق أكبر استفادة ممكنة من ميناء عصب (جنوب إريتريا) عند مضيق باب المندب الذي بدأت أبو ظبي في بناء قاعدته البحرية عام 2015، ويتمتع بقدر كبير من الإمكانات التجارية غير المستغلة.
ومن ثم ومع تحقيق المصالحة بين إريتريا وإثيوبيا فإنه من المتوقع أن يحقق الميناء الحد الأقصى من نسبة التشغيل وهو ما يعود بالنفع على الجانب الإماراتي، خاصة أن الميناء يحقق للأطراف الثلاث مصالحهم، فالإمارات ستحقق مزيدًا من الوجود في منطقة القرن الإفريقي بتطوير الميناء وتشغيله مدنيًا، فضلًا عن كونه قاعدة بحرية لها، وهو ما يعود بالنفع على إريتريا التي تعاني اقتصاديًا، كما أنه سيكون بمثابة رئة بحرية تتنفس منها إثيوبيا التي لا تملك أي سواحل.
علاوة على ذلك فإن هرولة أبو ظبي لتعميق نفوذها داخل إفريقيا يأتي كذلك في إطار مواجهة التقارب الملحوظ بين قطر وتركيا من جانب ودول القارة من جانب آخر، حيث شهدت العلاقات بين الجانبين خلال العامين الأخيرين على وجه الخصوص تطورًا لم تشهده من سنوات طويلة، وهو ما أثار – بلا شك – قلق المحمدين (ابن زايد وابن سلمان) ما دفعهما لمزيد من التوغل في شؤون بعض دول القارة مستغلين الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتردية.