حينما ظهرت ميغان ماركل زوجة الأمير البريطاني بفستانها الأبيض في العرس الملكي قبل بضعة شهور من الآن كان كل ما يدور في عقول أغلب النساء حاضرات الحفل أو من يشاهدنه في كل أنحاء العالم أن ميغان كانت في يوم من الأيام فتاة عادية إلا أنها الآن زوجة لأمير، لتصير هي الأخرى دوقة بدورها ويتحقق حلم كل فتاة في العالم كما توصفه قصص الأميرات الخيالية التي تربين عليها في صغرهم وهو أن تنتهي القصة بالزواج من الأمير الذي يُبشر بدوره أنه سيحول حياة تلك الفتاة سعيدة الحظ إلى جنة محققًا لها كل ما تريد، وتبدأ بذلك الحياة السعيدة إلى الأبد.
وعلى الرغم من أن هذه هي القصص التي تربت هذه النساء عليها لفترة شغلت أغلب طفولتهم تقريبًا وذاكرتهم البصرية التي حفظت أفلام الأميرات وما شابه ذلك، فإن ذلك الأمير لم يأت أبدًا في حياتهن الواقعية، ولم يكن هناك على أرض الواقع من يستطيع تحقيق أحلامهن الوردية ويأخذهن على حصان أبيض إلى عرس ملكي كما حدث في جل الأفلام الكرتونية، أو على الأقل كما حدث في قصر باكنغهام البريطاني، لقد كان الواقع أكثر بساطة بكثير وربما لم يكن “رومانسيًا” بالشكل الذي صورته الأفلام السينمائية والأفلام الكرتونية، وذلك لأن الرومانسية في حد ذاتها حالة حديثة لم يكن يعرفها الناس قبل القرن الـ18.
وجد كثير من أساتذة علم النفس أن مفهوم “الرومانسية” الحاليّ لم يوجد في الأدب والروايات قبل القرن الـ18، بل لم يوجد في أكثر قصص الحب شهرة عبر التاريخ مثل “روميو وجولييت”، حتى إننا سنجد أن أكثر قصص الحب شهرة في الأدب في مختلف اللغات لم تتم بين اثنين انتهى بهم المطاف إلى الزواج والحياة الهانئة السعيدة للأبد، بل انتهت أغلب تلك القصص نهاية مأساوية، ولهذا أرجع العديد من خبراء علم النفس مفهوم الرومانسية الحديثة إلى ميلاد الرأسمالية.
على الرغم من أن الصورة النمطية للرأسمالية هي السعي وراء امتلاك المزيد والمزيد من الماديات، والصورة النمطية للرومانسية هو زهد الماديات في سبيل تحقيق الأحلام والخيالات، فإن الرومانسية بمفهومها العصري وُلدت مع ولادة الرأسمالية، وبالتالي حوّلت المشاعر والعواطف إلى أشياء يمكننا امتلاكها أيضًا، وذلك منذ بداية صنع بطاقات “فالنتين” للحب مع نهاية القرن الـ19.
الرأسمالية: قصة حب طويلة
حفل زفاف الأمير هاري والدوقة ميغان ماركل الملكي في مايو/أيار الماضي
لا يولد الناس راغبين في حفل زفاف فاخر أو في فساتين زفاف قد يصل متوسط أسعارها إلى ألف دولار أو خواتم من ألماس يصل متوسط أسعارها إلى عشرات الآلاف من الدولارات، ولكن الناس يتعلمون الرغبة في تلك الأشياء على مدار حياتهم ولا يرغبون فيها بالفطرة، وهذا فيما يُعرف بـ”الرومانسية الحديثة” التي يتعلمها الناس من الأفلام والأغاني والقصص والروايات الرومانسية والشعارات الرومانسية الموجودة في أي منهم.
لا تختلف “الرومانسية الحديثة” عن كونها نوعًا من البروباجندا لا يختلف عن البروباجندا الدعائية المُستخدمة للتسويق للمنتجات
عُرفت قصة حب الرأسمالية الطويلة مع الرومانسية الحديثة بـ”الاستهلاكية الرومانسية”، وهي ببساطة نوع من أنواع الاستهلاكية التي تدفع المرء لاستهلاك الكثير بمبالغ طائلة – وأحيانًا خيالية في حالة طبقات المجتمع الغنية – إلا أنها لن تُشعر أي منهم بالندم حيال الإنفاق الزائد عن حده وذلك لأنها استهلاكية رومانسية، التي تقنع المرء بدورها أن استهلاك خاتم زواج من الذهب أو الألماس أو شراء فستان زفاف باهظ الثمن هو السبيل للحب وبالتالي السبيل للسعادة.
اتضح ذلك في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي حينما تزوج الأمير “تشارلز” الأميرة “دايانا” في حفل زفاف وصفته وكالات الإعلام بأنه حكاية من الخيال، كان ذلك الحفل بداية سلسلة من حفلات الزفاف الملكية التي صورت لمئات الملايين من المشاهدين حول العالم أن ذلك هو تحقيق أحلام الحب على أرض الواقع كما صورته الأفلام والروايات وأفلام الكرتون من شركة “ديزني”، الشركة التي حققت النجاح الدولي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي حينما بدأت في إنتاج أفلام كرتونية رومانسية مع بداية سلسلة أفلامها مع فيلم “حورية البحر”.
تفترض الاستهلاكية الرومانسية أن البشر يقضون نسبة كبيرة من وقتهم بحثًا عن النهايات السعيدة، وبالتالي فهم يغرقون بتفكيرهم في الخيالات بدلًا من التفكير في الواقع، وبالتالي لن يشغلهم كثيرًا مشاكل مثل تحكم النخبة في مجتمعاتهم بأكثر من 80% من دخولهم الشهرية، ولن يشغلهم مشكلة الاحتباس الحراري مثلًا ولن تجذب كثير من المشاكل السياسية انتباههم ما داموا يبحثون عن النهاية السعيدة مع الشريك الأمثل ليحظوا بمستقبل أفضل.
الاستهلاكية الرومانسية: السياحة نموذجًا
في كتاب “تاريخ مختصر عن البشرية” للكاتب يوفال نواه حراراي تطرق لعلاقة الاستهلاكية الرومانسية بالسياحة، وعقد مقارنة بين البشرية في العصر الحديث والبشر في حقبة الحضارات القديمة، وأشار إلى أنه لم يكن لدى الفراعنة القدماء رغبة في إثبات حبهم لزوجاتهم بأخذهم للسياحة في إحدى مدن حضارة بابيلون، لم يكن هناك رغبة للسياحة من الفراعنة إلا لو كانوا يرغبون في السيطرة على ما في شرقهم والأقوام التي تسكن جنوب حضارتهم، إلا أنهم لم يجدوا في السياحة وسيلة أساسية لحياة سعيدة مع زوجاتهم، لقد كانت وسائل الفراعنة شديدة الاختلاف عن الإنسان العصري الحاليّ، كان من الممكن أن يبني الفرعون لزوجته المقبرة التي ترغب فيها لكي يثبت حبه وولائه لها، أما الآن فيكفي الزوج أن يأخذ زوجته في رحلة إلى باريس لقضاء عطلة قصيرة من مكان تطل نافذته على برج إيفل لكي يزيد من حبها له.
يصف المسيري الاستهلاكية الرومانسية بـ“الإمبريالية النفسية”
يرى حراراي أن الرومانسية تخبرنا أن على المرء شراء كثير من الخبرات المختلفة لكي يعيش حياة ترضيه، حيث يرى الكاتب أن شركات الطيران لا تبيع تذاكر فحسب بل تبيع خبرة، وهنا يأتي دور الاستهلاكية التي تخبرنا أن السبيل للسعادة هو استهلاك شيء جديد، منتج جديد أو خدمة معينة، ويأتي امتزاج الاثنين (الرومانسية والاستهلاكية) كون “الرومانسية الاستهلاكية” جعلت من رحلة باريس منتجًا معينًا على المرء أن يستهلكه للوصول إلى مستوى معين من السعادة مع شريك حياته، أو للوصول إلى تلك النهاية السعيدة.
لقد وصف المفكرون العرب “الاستهلاكية الرومانسية” بمصطلحات مختلفة، فوصفها المسيري بأنها “الإمبريالية النفسية” التي تعتمد على مظاهر باهظة الثمن ومعقدة التركيب تفرض وتعكس حالة اجتماعية معينة لسلوك اجتماعي خاص بطبقة اجتماعية ذات مكانة عالية، وبالتالي فهي من تتمتع بمظاهر السعادة التي تحددها هي ويقررها كل فرد ينتمي إلى تلك الطبقة، أما الكاتب الاقتصادي جلال أمين فوجد في “الرومانسية الاستهلاكية” سلوكًا وصفه بـ”أثر المحاكاة” الذي يدفع المرء لمحاكاة سلوك طبقة مجتمعية لا ينتمي في الأصل إليها.
قد يتضح فكر المسيري وجلال أمين في وصفهم للاستهلاكية الرومانسية في كثير من المجتمعات التي تعتمد على “الرفاهية في الاستهلاك”، لا لأنها تمتلك المال اللازم لاستهلاك المنتجات المُرفهة أو باهظة الثمن ولكنها تود الظهور بمظهر تلك الطبقات التي تستهلك تلك المنتجات بشكل طبيعي، فقد يلجأ البعض ممن وصفهم جلال أمين بأنهم يتبعون سلوك “أثر المحاكاة” إلى الاقتراض واستخدام كثير من بطاقات الدين أو بطاقات الائتمان للتمتع بسلوك استهلاكي مرفه رغم عدم امتلاكهم ذلك المال على أرض الواقع.
لقد انتقد كارل ماركس الرأسمالية بسبب التغير في وسائل الإنتاج والمتحكمين بها، وانتقدها ماكس فيبر لاعتقاده أنها مستوحاة من المسيحية وأن كسب الأرباح هو أمر ديني أو رباني، إلا أن كثير من نقاد الرأسمالية لم ينتبهوا لزواجها بالرومانسية في العصر الحديث، ولما كان هناك تأثير كبير لها على حياة الناس ومستقبلهم لولا اندماجها مع الرومانسية وخلق حلم “النهاية السعيدة” الذي يسعى خلفه الملايين، وفي سبيله تعلموا شراء خاتم من ألماس أو من ذهب وفستان مطرز بالحرير، حتى لو لم يملكوا المال على أرض الواقع.