توفي الخليفة الموحدي الحادي عشر أبو الحسن علي السعيد بن المأمون وهو في أوج قوته، وكان حينها يستعد للقضاء على تمرد حاكم تلمسان، والسير مع جيشه الجرار نحو إفريقية لاسترجاعها من الحفصيين الذي استقلوا عن حكم الموحدين.
وقبل وفاته في شعب جبل تلمسان نهاية شهر صفر سنة 646 هجريًا، استطاع السعيد أن يهزم بني مرين في أكثر من موقعة وأجبرهم على الاستسلام وطلب الأمان والانضواء تحت لواء الموحدين مجددًا، كما أنه استطاع أن يرتب الأوضاع في قصر الحكم بما يسمح بنهوض الدولة الموحدية واستعادة نفوذها القديم.
لفترة لاح أن الخلافة الموحدية قد نهضت من سباتها وتداركت عثراتها، وأنها أصبحت على وشك الظفر بخصومها واسترداد كامل سلطانها، إلا أن وفاة السعيد أربكت الوضع مجددًا وأعادت بعثرة الأوراق مرة أخرى، فالأعداء المتربصين بالدولة كُثر وهذه الفرصة يمكن ألا تتكرر ثانية.
سارع الطامعون في ملك الموحدين لاستغلال موت الخليفة السعيد، فكان عهد خليفته مليئًا بالأحداث الجسام وإن كان أبرزها تجدد حروب الموحدين مع بني مرين الذين نقضوا البيعة من جديد وأعلنوا تمردهم على الدولة في مراكش.
خلافة المرتضى
ما إن توفي الخليفة أبو الحسن السعيد حتى تخلخل جيشه الجرار، ولتفادي هزيمة متوقعة أمام حاكم تلمسان، عاد الجيش أدراجه إلى مراكش، وبسرعة وصل الخبر إلى بلاط الحكم فاجتمع أشياخ الموحدين لاختيار الخليفة الجديد، فاختير أولًا أخو الخليفة أبى زيد لتولي زمام الأمور إلا أنه تعفف عن المنصب.
أمام رفض أبى زيد خلافة الموحدين، تم اختيار أبى حفص عمر لهذا المنصب لما يتمتع به من خصال تؤهله للحكم، وهو ابن أبي إبراهيم بن الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وبلغته البيعة وهو في سلا، إذ كان حينها والي المدينة الموحدي، وفق ما جاء في كتاب “دولة الإسلام في الأندلس” للمؤرخ محمد عبد الله عنان، وكان الخليفة الجديد هادئ الطبع، شديد الورع، قليل الأطماع.
ما إن بلغته البيعة الخاصة من أشياخ الموحدين، حتى قصد أبو حفص عمر إلى عاصمة الحكم مراكش، وتلقب الخليفة الجديد بالمرتضى لأمر الله، وفي مراكش تمت البيعة العامة من الأهالي وجموع العرب والأمازيغ ومن بقي من جند النصارى.
امتد حكم الخليفة الجديد – البالغ من العمر 50 سنة – لفترة طويلة نسبيًا مقارنة بالخلفاء الذين سبقوه، إذ بقي على كرسي حكم الموحدين 19 سنة (بدأ حكمه سنة 646 وانتهى سنة 665 هجريًا) كانت كفيلة لإصلاح الوضع في الدولة الموحدية إلا أنه لم يفلح في ذلك، فقد ورث دولة مفككة.
توسع بني مرين
حين بلغ زعيم بني مرين أبو بكر بن عبد الحق، خبر موت الخليفة السعيد، نقض العهد مجددًا وتولى عن بيعة الموحدين وهجم على جزء من جيشهم العائد إلى مراكش في جهة مدينة تازة وفتك به، ومن ثم اتجه نحو المدينة واستولى عليها، وكانت تازة أول مدينة مغربية استولى عليها بنو مرين من أيدي الموحدين وذلك في أوائل شهر ربيع الأول سنة 646 هجريًا.
عقب ذلك، اتجه أبو بكر بن عبد الله إلى مكناس وضمها إلى ملك بني مرين، وبعد شهرين من وفاة الخليفة السعيد، وجّه جيشه نحو مدينة فاس فسيطر عليها لضعف الحامية الموحدية الموجودة فيها وعدم ورود أي دعم لها من مراكش، رغم أنها العاصمة الثانية للدولة الموحدية.
استقر أمير بني مرين في فاس لقرابة السنة، وخلالها وطّد حكم دولته المستقبلية واستقبل الوفود لمبايعته على الولاء والطاعة، وما إن خرج منها قاصدًا مدن الغرب، حتى ثارت المدينة ضدّ الوالي الذي عينه وقاموا بقتله ودعوا للخليفة الموحدي، ما دفع أبو بكر بن عبد الحق للرجوع على أعقابه للسيطرة مجددًا على هذه المدينة المهمة فتم له ذلك.
عقب تنامي قوة بني مرين، خرج إليهم الخليفة الموحدي لقتالهم في أماكن وجودهم ومنعهم من الوصول إلى مراكش واسترداد فاس وأحوازها، فبقاؤها في أيدي بني مرين يمثل أعظم خطر على كيان الدولة الموحدية، وكان ذلك في شهر رمضان من سنة 649 هجريًا، وضمّ جيشه قوات من الموحدين والعرب وجمع من الجنود النصارى.
أمام عظم جيش الموحدين دعا أمير بني مرين إلى الصلح لكن تم رفض دعوته، فلجأ إلى الحيلة عوض القتال، حيث نشر أتباعه شائعات تفيد بعقد الصلح فانسحب الجيش الموحدي من أرض المعركة دون نظام وكشف عن دفاعاته فاستغل بنو مرين الأمر وانقضوا عليه.
تلاشت دولة الموحدين شيئًا فشيئًا، فبعد هذه الهزيمة، وجّه أمير بني مرين جيوشه إلى سجلماسة ودرعة فتمت السيطرة عليها بحيلة من بعض رجاله الموجودين هناك، فاقتُطعت هذه المنطقة من ملك الموحدين وبدأت الدائرة تضيق أكثر بالخليفة المرتضى.
ولم يبق الوضع على حاله كثيرًا في سجلماسة، فما إن توفي قائد بني مرين أبى بكر بن عبد الله بمدينة فاس في رجب من العام التالي (سنة 652 هجريًا)، حتى انتهز أبو يحيى محمد القطراني فرصة انشغال بني مرين بمن يتولى القيادة فاستولى على حكم المدينة ودعا للخليفة الموحدي.
سلا ورباط الفتح
اتفق بنو مرين على تولية أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق زعيمًا لهم وإخماد الفتنة بينه وبين عمر بن أبي يحيى، ووجّهوا جيوشهم للسيطرة على ما تبقى من ملك الموحدين، وحينها لم يتبق من ملكهم إلا العاصمة وأحوازها والمنطقة الواقعة بين وادي أبي رقراق ووادي أم الربيع، وفيها سهل تامسنا وثغرا سلا ورباط الفتح.
اتجهت جيوش بنو مرين أولًا إلى ثغري سلا ورباط الفتح، وتم لهم السيطرة عليهما في أوائل سنة 658 هجريًا دون صعوبة تُذكر، إذ فرّ قائدهما أبو عبد الله محمد بن أبي يعلى الكومي إلى ثغر أزمور وترك المدينة والأهالي يواجهون قدرهم بأنفسهم.
مثّل فقدان السيطرة على سلا ورباط الفتح خسارة كبرى للموحدين لمكانتهما عند خلفاء الموحدين، فقد تمّ بناء هذين الثغرين من أوائل الخلفاء وأنفقوا لذلك أموالًا ووقتًا كثيرًا وليس من السهل عليهم رؤيتهما تحت سيطرة أعدائهم.
لكن بنو مرين أنفسهم لم يهنؤوا بالسيطرة على سلا ورباط الفتح، إذ جاهر القائد يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق الذي سيطر على الثغرين، وهو ابن أخي قائد بني مرين أبي يوسف يعقوب، بخلع طاعة عمه والاستقلال بأمره.
وكعادة حكام المنطقة، كتب يعقوب بن عبد الله إلى ألفونسو العاشر ملك قشتالة، يرجوه أن يمده بمائتين من الجنود النصارى لمساعدته في مسعاه، فلبى ملك قشتالة الطلب لكن ليس لمساعدة يعقوب بل للاستيلاء على الثغرين.
وجّه ألفونسو العاشر سفنه الحربية من إشبيلية بإيعاز من البابا إسكندر الرابع، إلى سواحل المغرب الشمالية، وظنّ يعقوب أنها المساعدة التي طلبها من ملك قشتالة إلا أن الغدر كان سمة النصارى الأبرز.
بلغت هذه الأخبار الحزينة مسامع قائد بني مرين أبي يوسف، فوجه جزء من جيشه لقتال النصارى الذين عاثوا في الأرض فسادًا، فتم استرجاع الثغرين لملك بني مرين، وهرب النصارى بعد أن نهبوا ما وصلت إليه أيديهم، وبعد سلا ورباط الفتح سيطر بنو مرين على بلاد تامسنا، وخضعت لهم سائر القبائل المجاورة.
بهذا يكون بنو مرين قد اقتطعوا جزءًا كبيرًا من دولة الموحدين وسيطروا على ثغور مهمة لهم، وبدأ صيتهم يتنامى شيئًا فشيئًا أمام الدولة التي انطلق في بنائها الخليفة عبد المؤمن بن علي قبل نحو 180 سنة.
ثورة آيت يدر
في الوقت الذي يقاتل فيه الموحدون بني مرين، ثار ضدّهم سنة 651 هجريًا والي السوس علي بن يدِّر، وجاهر بالعصيان تماشيًا مع باقي المناطق التي استقلت عن حكم الموحدين، فبعث الخليفة المرتضى حملة موحدية إلى السوس لإخضاعه، ولكنها عجزت عن ذلك وارتدت خائبة إلى مراكش.
عجز الخليفة عن التصدي لهذا التمرد دفع علي بن يدّر للتوسع أكثر فاشتدّ ساعده وانضم إليه من طوائف العرب، من عرب الشبانات وبنى حسان وغيرهم وأخذ الجباية، ثم سار إلى حصار تارودانت عاصمة السوس بهدف الاستيلاء عليها، لكنه امتنع عنها بعد وصول حملة جديدة ضده من مراكش.
لم يستطع الموحدون مجددًا الوصول إلى ابن يدّر فارتدوا عائدين إلى العاصمة، وفي المقابل عاد ابن يدّر إلى مضايقة تارودانت والمناطق المجاورة لها، وسمح له انشغال الخليفة بحرب بني مرين، بالسيطرة على مناطق أخرى في السوس.
بعد 9 سنوات من بداية تمرده، أرسل الخليفة مجددًا حملة عسكرية للقضاء عليه، لكنها هُزمت أيضًا وقُتل قائدها محمد بن علي بن أزلماط، وحتى الحملة التي قادها أحد وزراء الخليفة يُدعى أبو زيد بن يخيت بمعية جند من النصارى لم تتمكن من القضاء عن ثورة بن يدّر.
ثورة أبو دبوس
بالعودة إلى بني مرين، نرى أن قائدهم أبي يوسف قد وجّه جيشه سنة 652 هجريًا إلى مراكش حتى يقضي نهائيًا على دولة الموحدين، وكان له معارك ضدّهم قرب جبل إيجليز القريب من العاصمة، وخلال إحداها قُتل ابنه الذي يُدعى عبد الله، فمال زعيم بني مرين إلى وقف الحرب لفترة زمنية.
توقف بنو مرين عن غزو مراكش لكن الحرب هناك لم تنته، حيث ثار أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن أبي حفص بن الخليفة عبد المؤمن – ويعرف بأبي دبوس لأنه كان فترة وجوده بالأندلس يحمل الدبوس باستمرار فشهر به – ضد الخليفة الموحدي في عاصمة ملكه.
خرج أبو دبوس من مراكش في شهر محرم سنة 663 هجريًا، وقصد فاس حيث قائد بني مرين ليسأله العون والنصرة ضدّ الخليفة المرتضى على أن يكون تحت طوعه في حال سيطرته على مراكش، فوافقه أبو يوسف على الفور ومنحه بعض الآلاف من الجنود وزوده بالخيل والسلاح ولزوم الحرب.
وفي طريقه إلى مراكش توافدت الكثير من القبائل لصف أبى دبوس، فقوي أمره وازداد نفوذه وهو ما أثار خشية الخليفة الموحدي، إلا أنه لم يحتط من الهجوم المنتظر بل العكس، إذ أرسل ما تبقى من جيشه لقتال حاحة ورجراجة فخلت مراكش من أي دفاعات.
رأى أبو دبوس أن الوقت مناسب لدخول مراكش والسيطرة عليها، فدخلها يوم 22 من المحرم سنة 665 هجريًا، فيما فرّ الخليفة المرتضى وقصد الجبل فلم يجد هناك نصيرًا، ومن ثم توجه إلى مدينة أزمور إلا أن واليها انقلب عليه وبايع بني مرين وسلّمه إليهم، وفق ما جاء في كتاب “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” للمؤرخ أحمد بن خالد الناصري.
بعد القبض عليه، قُتل الخليفة الموحدي في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة 665 هجريًا، وقد كان حين جلوسه على كرسي العرش وقبله، رجلًا تقيًا ورعًا يميل إلى التزهد والتصوف محبًا للإصلاح، إلا أن الصراع على السلطة قد أنهك قوته.