تشكّل السينما في يومنا هذا أهمّ أشكال الثقافة الشعبية بشكلٍ يسبق الكتب والمطبوعات وأيّ وسائل القراءة الأخرى، لا سيّما وأنها ترتبط بالإثارة العاطفية والمشاعرية بصورةٍ أكبر ما يؤدي إلى زيادة أثرها في نفس المشاهد وعلى حواسّه المتعددة، خاصة إذا استطاعت بين دقائقها التركيز على حالةٍ إنسانية وسيكولوجية ما وتصويرها بصورةٍ حية قد تعجز الكتب والمقالات والأبحاث العلمية عن الإتيان بها.
تكمن قيمة الأفلام أيضًا في قدرتها على التعامل مع القضايا التي لا يستطيع الشخص التعامل معها في حياته اليومية أو حتى مناقشتها وتحويلها إلى كلمات، إمّا لأنها صعبة الفهم أو مؤلمة أو حتى لأنه يخاف مواجهتها والتعامل معها. وتمامًا كما كان ينظر الإغريق القدماء للمسرح يجب علينا أن ننظر للسينما والأفلام، فهي ليست وسيلة ترفيه وحسب، وإنما هي وسيلة تنتمي جنبًا إلى جنب مع الدين والفلسفة والفكر في الحياة، تجعل الفرد أكثر حكمةً ونضجًا وتساعده على النمو والمعرفة.
قد تلعب الأفلام دورًا كبيرًا في تكوين العديد من الصور النمطية عن جلسات العلاج والطب النفسيّ في عقول مشاهديها
ومن ذلك المنطلق، لم يكن غريبًا أنْ تركّز السينما منذ بدئها على سبر أغوار النفس الإنسانية في حالاتها الصحية والمرضية المختلفة. فخرجت لنا العديد من الأفلام التي تناولت الطب والعلاج النفسيّين لحالاتٍ متنوعة بدءًا من الاكتئاب والقلق الوجودي مرورًا بمشاكل الزوجين أو الشريكين أو الإدمان، ونهايةً بالاضطرابات السيكوباثية والسوسيوباثية.
لكنّ تلك الأفلام في الوقت نفسه لعبت دورًا كبيرًا في تكوين العديد من الصور النمطية عن جلسات العلاج والطب النفسيّ في عقول مشاهديها. فتارةً ما يعتقد المشاهد أنّ المعالِج أو الطبيب النفسيّ هو قبل كلّ شيء كاهنٌ أو ساحر يستطيع معرفة وفهم كلّ ما يتعلّق بالحياة والنفس الإنسانية وتفاعلاتها مع الآخرين. أو أنه ببضع حوارات وكلمات قادر على جعل العميل/المريض قادرًا على التعبير عن ذاته وسبر أغواره. وبالرغم من كلّ تلك الصور النمطية، لا يمكن أنْ ننكرَ أبدًا أنّ ثمة العديد من الأفلام والمسلسلات استطاعت إعطاء لمحة أو أكثر عن طبيعة العلاج النفسي بمختلف أنواعه القديمة والحديثة.
تلك العلاقة الشهيرة بين الشاب العشريني “جود هانتينغ” ومعالِجه “شون” هي قلب الفيلم الذي أخذ جائزة أفضل سيناريو عام 1997 وحبكته الأساسية. وبكوننا هنا في سياق الحديث عن العلاج النفسيّ في الأفلام، فباختصار يمكننا القول أنّ “جود” الشاب الذكيّ الذي يعمل بوّابًا في كلية هارفرد لكنه في الوقت نفسه يمتلك ذكاءً رياضيًا عاليًا قلّ ما يمتلكه أيّ طالبٍ آخر في الكلية، قدّ كوّن في سني حياته السابقة ما يُعرف في علم النفس بمصطلح “اضطراب الارتباط الكلاسيكي” نتيجة إساءة معاملة والديه له عندما كان صغيرًا، وبالتالي يجد في شبابه صعوبةً في تطوير علاقات ذات معنى ومعزى تتصف بالاستقرار مع البالغين من حوله، سواء العلاقات الاجتماعية أو العاطفية.
كما أنه يفتقد لأيّ تعاطف مع الأشخاص خارج مجموعة أصدقائه المقربين جدًا، ولا يستطيع إدارة مشاعره الأساسية مثل الغضب، والوسيلة الوحيدة لحلّ خلافاته مع الآخرين هي الهجوم والاعتداء الجسديّ أو اللفظيّ. وبالتالي، فإنّ غضبه هو واحد من العديد من أساليب الدفاعات النفسية التي يلجأ إليها لإخفاء مشاعره الداخلية وحماية ذاته ونفسه ممّا حوله. إذ يعتقد العقل الباطن لويل بأنّه من خلال استخدام هذه الأساليب، فلن يتمكن أحد من اختراق دفاعاته وإيذائه مرةً أخرى كما اعتاد على أنْ يؤذى في طفولته.
يستخدم شون في علاجه أسلوب “الانتقال” أو “التحويل”، وهي الظاهرة النفسية التي يقوم فيها اللاوعي بإعادة توجيه المشاعر والمواقف التي ربطوها في شخصٍ ما في مرحلة من مراحل حياتهم المبكّرة بأشخاص آخرين لاحقًا
الفيلم من إخراج “غاس فان سانت” وبطولة روبن ويليامز ومات ديمون وبين أفليك
في الفيلم، يسعى شون من خلال جلسات العلاج إلى الوصول إلى علاقة ارتباط إيجابية مع “ويل” ليكون بإمكانه تكوين صورة ذاتية أكثر تماسكًا والتفاعل بشكل أكثر إيجابية مع الآخرين من حوله. وبكلماتٍ أخرى، يقوم المعالج بتقديم بدائل لأسلوب الارتباط الذي عجز عن تقديمه والديْ “ويل” له. وكما يشير شون، فإنّ “ويل” لم ير أو يشهد أي حميمية حقيقية بين رجل وامرأة لذلك فهو يجد صعوبةً في التعامل بطريقة صحيّة مع حبيبته وعلاقته العاطفية معها.
يستخدم شون في علاجه أسلوب “الانتقال” أو “التحويل”، وهي الظاهرة النفسية التي يقوم فيها اللاوعي بإعادة توجيه المشاعر والمواقف التي ربطوها في شخصٍ ما في مرحلة من مراحل حياتهم المبكّرة بأشخاص آخرين لاحقًا. لذلك يسعى شون إلى نقل تلك المشاعر إلى شخصه، ولم تكن مجرد مصادفة أن يختار شون بدء العلاج في حديقة بوسطن العامة، وهو المكان الذي يصطحب فيه الآباء أطفالهم الصغار للتنزّه واللعب وركوب الدراجات.
وفي مشهدٍ رئيسي بالفيلم، يطمئن “شون” “ويل” أنّ سوء المعاملة والرفض اللذين عانى منهما في الطفولة لم يكونا خطأه، وأنّ إن إساءة معاملة طفل من قبل شخص بالغ ليست أبداً خطأ الطفل، لذلك فإنّ أيّ تطوّر في علاقاته الاجتماعية والعاطفية الحالية ليست ذنبه هو ولا يتحمّل خطأها. ويمكننا القول أنّ العلاج يؤتي ثماره عندما يبدأ “ويل” بتطوير الثقة الكافية لقبول الحبّ والعاطفة التي تكنّه حبيبته تجاهه، وبالتفكير بالتقدّم بالعلاقة خطوة للأمام بعد قبوله الانتقال والعيش معها خارج بوسطن.
يصوّر الفيلم ما قد يحدث لأسرة من الطبقة المتوسطة العليا عندما تضربها المأساة التراجيدية بشكل غير متوقع ويتحول نظامها إلى فوضى عارمة بعد تعرّضها لحادثة مقتل أحد ابنيها المراهقيْن. هنا، يستخدم الدكتور “بيرغر” معظم الأساليب المختلفة للعلاج النفسي لمساعدة “كونراد”، الابن الناجي من الحادثة التي أودت بحياة أخيه.
وبكلماتٍ أخرى، هو فيلمه عن الموت المفاجئ الذي يضرب حياة المراهِق والتأثير النفسي للخسارة على كل فرد من أفراد العائلة المتبقين، وما يحمله معه من اكتئاب واضطراب محتمل في مرحلة ما بعد الصدمة في سن المراهقة، ودور الأسرة والعلاج النفسيّ في الخروج من تلك الحالة المتأزمة.
ففي بداية الفيلم نرى ميله إلى استخدام التحليل النفسي حيث يتمكّن من كشف بعض الأفكار والمشاعر التي قام “كونراد” بقمعها وكبتها لفترةٍ طويلة. فمن جهةٍ، لم يستطع أنْ يغفرَ لوالدته حبّها لأخيه بطريقةٍ تختلف عن حبّها له، ومن جهةٍ أخرى فقد كان غاضبًا من أخيه لعدم قدرته على الصمود والبقاء على قيد الحياة أثناء حادثة غرق القارب، إضافةً لشعوره بالخجل بسبب غضبه من شقيقه الميّت. عوضًا عن شعوره الأساسيّ بالذنب لنجاته لوحده وموت شقيقه. فاضطراب ما بعد الصدمة النفسية وحالات القلق والاكتئاب التي كانت تسيطر على “كونراد” ودفعته لمحاولة الانتحار مرة، جميعها كانت ناجمة عن قمعه لتلك المشاعر والأفكار التي لم يكن يدرك أساسًا أنها موجودة وتقبع في لا وعيه ولا شعوره.
الفيلم من إخراج “روبرت ريدفورد” وقد حاز على جائزة الأوسكار عن فئتي أفضل فيلم وأفضل مخرج في 1980
كما يلجأ الطبيب “بيرغر” إلى استخدام بضعٍ من أساليب العلاج السلوكي المعرفيّ. إذ يحاول أنْ يُقنع “كونراد” أنّ أفكاره ومشاعره الداخلية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتصرفاته وسلوكيّاته. وعلى إثر ذلك، يحاول تغيير أنماط التفكير عنده للتمكّن من تغيير بعض سلوكياته وتصرفاته لتغيير الطريقة التي يشعر بها تجاه ما مرّ ويمرّ به من تجارب ومواقف سواء تلك التي سبقت حادثة موت أخيه أو التي تبعتها.
فيسعى الطبيب لمساعدة “كونراد” في التخلص من عقدة الذنب ولوم النفس تلك من خلال تعليمه أنّ نجاته كانت بسبب مقاومته الأقوى للموت وليست نتيجة ذنبٍ اقترفه. كما يسعى معه ليريه أنّ والدته قد لا تكون قادرة على أن تحبه بالطريقة التي يتوقعها، ولذلك يجب عليه أن يقبلها كما هي في الوقت الحاضر.
يركّز على العلاج النفسي الفردي والعلاج الأسري إضافة للوصمة المجتمعية التي لا تزال تحيط باللجوء للعلاج النفسي بين العديد من الأفراد
يستكشف هذا الفيلم، بالمعنى الأوسع، الاستجابات وردود الأفعال المتنوعة للشخصيات المختلفة التي تكافح من أجل التعامل مع حزنها وكآبتها الكامنة. كما أنه يركّز على الأسرة التي تفتقد لأساليب التواصل الفعّالة وتختبر اضطراباتٍ في الارتباط العاطفيّ بين الوالديْن وابنهما المراهِق لا سيما بعد محاولة انتحاره. وبالتالي فهو يسلّط الضوء على أهمية التواصل الجيد داخل نطاق العائلة، حيث يكشف الفيلم تدريجيًا عن الصعوبات الكبيرة التي كانت موجودة بين أفراد العائلة وكيف استطاع العلاج النفسيّ التخفيف من حدّتها ومحاولة إصلاحها.
يوفر “أناس عاديون” نقطة انطلاق جيدة لمناقشة المؤشرات الخاصة بالعلاج النفسي الفردي والعلاج الأسري ويوضح بدقة المقاومة النفسية لأحد أفراد العائلة لأي شكل من أشكال التدخل الخارجي الذي يمكن أن يتداخل بشكل خطير مع شفاء الأسرة بأكملها وتحسّن حالها. كما يركّز على الوصمة المجتمعية التي لا تزال تحيط باللجوء للعلاج النفسي بين العديد من الأفراد، وربما تساعدنا على فهم سبب وجود حاجة ملحة لتشجيع الوعي بين الشباب حول آثار الاكتئاب والأفكار والنزوعات الانتحارية والمساعدة المتاحة للتخلص من ذلك.
على الرغم من كون الفيلم كوميديًا مضحكًا، إلا أنه استطاع بقدرةٍ عالية التركيز على الكثير من الجوانب السيكولوجية الواقعية ضمن إطار العلاج النفسي، بعيدًا عن الصور النمطية التي اعتادت هوليوود وأفلامها على إنتاجها وإظهارها لنا.
هنا، سنرى أمثلةً جيدة عن آليات الدفاع النفسية على سبيل المثال، كالإنكار والتقليل من الشأن، كما سنشاهد عدة أمثلة عن العديد من الموضوعات الفرويدية مثل التطهير والتنفيس، وتحليل الأحلام والعجز الجنسي والشلل. إضافةً إلى أساليب “كارل روجر” العلاجية في التفكير والاستبطان، وكسر الحدود العلاجية في الجلسات بين الطبيب والعميل. وبكلماتٍ أخرى، نستطيع القول أنّ الدارس لعلم أو طب النفس والمتعّن فيهما، سيفهم هذا بشكلٍ أفضل بعد متابعته للفيلم.
الفيلم من إخراج “هارولد راميس” وبطولة روبرت دي نيرو وبيلي كريستال
أما قصة الفيلم فتركّز على “فيتي” الذي يواجه العديد من التقلبات العاطفية التي تؤدي إلى صعوبة في أداء وظائفه اليومية، بدءًا من إدراته لعصابة المافيا التي يقودها مرورًا بالوظائف الجنسية والاجتماعية وغيرها، فيلجأ إلى الطبيب النفسي “سوبيل” الذي يشخّصه بنوبات الذعر والهلع التي تؤدي إلى كلّ تلك الأعراض. أما سبب تلك النوبات، فسنعلم خلال مشاهد الفيلم أنها تعود للطفولة حيث لم يستطع “فيتي” تحذير والده من محاولة الاغتيال التي أودت بحياته، فبقي شاعرًا بالذنب حيال ذلك طوال السنين اللاحقة.
وعلى الرغم من تركيز الفيلم على العديد من الجوانب السيكولوجية القوية، إلا أنه أبدى في الوقت نفسه ضعفًا في تصوير حقيقة العلاج النفسي، خاصة في الجانب الأخلاقي للعلاج، فلا نجد هنا أيّ فصل بين الحياة الخاصة للطبيب والمريض، كما يحاول المريض دومًا الوصول الفوريّ لطبيبه الذي قد يقطع جلساته الأخرى لأجل “فيتي”، الأمر المرفوض كليًا في إطار جلسات العلاج النفسية المختلفة.