“بدنا كرامة، الشعب السوري ما بينذل”، بهذه الكلمات شارك الناشط السوري يحيى شربجي بإحدى الندوات بمركز داريا بريف دمشق مع بداية الثورة السورية عام 2011، قبل أن تتلقى عائلته خبر تصفيته إلى جانب شقيقه “معن” في سجون نظام الأسد، وبذلك ينضم الشقيقان إلى قائمة من آلاف المعتقلين الذين حُوكموا بشكل صوري من جلادي الأسد ليقضَوا بعدها تحت التعذيب في سجون الأسد، وسط غياب أي شجب أو إدانة دولية للنظام السوري.
الشقيقان كانا ضمن قائمة جديدة من المعتقلين الذين قتلهم نظام الأسد في سجونه، والقائمة تطول، حتى لا يكاد يخلو بيت على امتداد الجغرافيا السورية إلا وله عزيز من أبنائه في سجون الأسد، فإلى متى يبقى المجتمع الدولي يلعب دور المشاهد السلبي للحكاية السورية، وماذا عن اللجان التي قيل إنها شكلت بعد اجتماع أستانة لكشف مصير آلاف المعتقلين.
كلمة الناشط يحيى شربجي في المركز الثقافي بداريا
“قضى تحت التعذيب”.. الموت البطيء في سجون الأسد
وفق ما نقل موقع “صوت العاصمة” الإخباري، فإن النظام السوري سلم قائمة بأسماء 30 معتقلاً، ماتوا في سجونه، بين عامَيْ 2014 و2015، إلى دائرة النفوس في مدينة يبرود بالقلمون الغربي بريف دمشق، وعليها إشارات بضرورة مراجعة الدائرة لاستكمال معاملات الوفاة التي تعود أسبابها – وفق رواية النظام – إلى عوارض صحية، أبرزها “سكتة قلبية”، بالإضافة إلى القنص على يد مسلحين.
أُعلن الخبر من عائلة شربجي، حيث أكدوا تلقيهم نبأ مقتل يحيى إلى جانب شقيقه معن، ويعتبر الشقيقان من قادة الحراك الثوري السلمي في مدينة داريا، الذين اعتقلوا من نظام الأسد في بداية الثورة ثم اتضح أنه قام بتصفيتهم فيما بعد بالإضافة لرفاق الثورة، إسلام الدباس وغياث مطر الذي صفاه النظام بعد ساعات معدودة من اعتقاله.
بدأ النظام السوري مؤخرًا بإرسال قوائم بأسماء أولئك المعتقلين الذين قضوا في سجونه إلى دوائر البحوث في المدن السورية على أنهم توفوا لأسباب مرضية
وبذلك ينضم يحيى إلى قوائم ضمت آلاف المعتقلين، منهم غياث مطر إسلام الدباس ونيراز سعيد، لتكتمل أركان الجريمة التي حاول النظام السوري التهرب منها بشتى السبل، حيث بدأ مؤخرًا بإرسال قوائم بأسماء أولئك المعتقلين الذين قضوا في سجونه إلى دوائر البحوث في المدن السورية على أنهم توفوا لأسباب مرضية، ومنع أقاربهم من إقامة مراسم عزاء لهم، كما حدث في مدينة حماة، حيث داهم عناصر من قوات الأسد 5 بيوت عزاء لمعتقلين تمت تصفيتهم تحت التعذيب في سجونه.
وكان غياث مطر ويحيى شربجي نسران يحلقان في سماء الحريّة، تلاقت طموحاتهما في بناء سوريا الكرامة، وتعمقت صداقتهما فتشاركا أدق تفاصيل يومهما، عندما اُضطرا إلى التواري في أماكن مختلفة، بعد محاولات عناصر المخابرات إلقاء القبض عليهما في عدة مداهمات، فأصر غياث أن يرافقه في خروجه للقاء أخيه معن، الذي اتصل به يخبره أنه أصيب في مداهمة عناصر الأمن للمزرعة التي كان يقيم فيها، ليتفاجأ بكمين دبره لهما فرع المخابرات الجوية، وكان بإمكان يحيى الهرب من الكمين، ولكنه عاد أدراجه عندما أصيب غياث، فاُعتقلا على إثرها، ليعود غياث بعد ذلك بيومين وقد قضى تحت التعذيب، ليبقى يحيى معتقلاً حتى لقي نفس المصير.
أما الناشط السوري الشاب إسلام الدباس، فكانت آخر الأخبار الواصلة لعائلته ما نقله معتقل كان معه، وذكر أن إسلام خرج من المهجع، بتاريخ 8 من يناير/كانون الثاني 2013، في وقت لا يخرج فيه إلا المحكوم عليه بالإعدام لتنفيذ الحكم، لتتأكد العائلة من مصيره في الـ16 من يوليو/تموز الحاليّ، لدى تلقيها نبأ وفاته بمراجعة دائرة نفوس داريا التي ينحدر منها، والموثق بتاريخ 15 من يناير/كانون الثاني 2013.
راج في الأسابيع الأخيرة إرسال النظام السوري قوائم بأسماء المعتقلين الذين ماتوا في سجونه إلى دوائر النفوس، إذ سبق وأن أرسل قوائم مماثلة إلى نفوس معضمية الشام والقابون وحماة والحسكة وحماة وحمص بموت عشرات المعتقلين من ذويهم في سجونه إلا أن مكان دفنهم ما زال مجهولاً، فالنظام يمنع ذوي المعتقلين من الحصول على أي معلومات عنهم أو مجرد المطالبة بتسلُّم جثثهم لدفنهم.
وبعد إعلان نشر أسماء الوفيات في دوائر النفوس بمحافظتي حماة وريف دمشق، كشف النظام السوري، منذ أسبوعين، أسماء معتقلين قضوا خلال السنوات الماضية تحت التعذيب في سجونه عبر إدارة النفوس في السويداء، وذلك بعدما كان السؤال عن مصيرهم ضربًا من الأمور الصعبة التي قد تودي بفاعلها إلى السجن أيضًا.
كذلك لم يسلم الفلسطينيون داخل السجون السورية من قبضة جلادي الأسد، فبعد تلقي نبأ مقتل الشاب عامر خالد شهابي من سكان مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، الذي قُتل تحت التعذيب، بعد اعتقاله من قوات الأسد منذ ثلاث سنوات، ارتفع عدد ضحايا التعذيب في سجون النظام السوري من الفلسطينيين، إلى 520 ضحية، منذ عام 2011، بحسب مجموعة “العمل من أجل فلسطينيي سوريا” التي وثقت مطلع يوليو/تموز الحاليّ، مقتل 12 فلسطينيًا من مخيم العائدين بمدينة حمص، قتلوا تحت التعذيب في السجون السورية.
رحلة الموت البطيء في سجون الأسد.. اعتقال فتعذيب فقتل
منذ اندلاع الانتفاضة السورية في 2011 مات كثيرون في مراكز الاعتقال الخاضعة لإدارة المخابرات السورية سيئة السمعة، ففي عام 2012، حددت “هيومن رايتس ووتش” مواقع 27 من مراكز الاعتقال هذه في جميع أنحاء البلاد، الكثير منها في العاصمة دمشق، وتواترت شهادات عديدة عن تصفية المعتقلين بأعداد كبيرة، لكن يبقى نطاق التعذيب وعدد الوفيات في المعتقلات غير معلومين بدقة.
وعلى مدار السنوات التي أعقبت الثورة السورية، اعتقلت أجهزة الأمن عددًا كبيرًا من قيادات الصف الأول في الحراك السلمي الذين لا يزال مصيرهم مجهولًا، لكنها لجأت في الآونة الأخيرة إلى التحايل في ملف المعتقلين، لا سيما الذين قضوا تحت التعذيب، عبر إرسالها لدوائر النفوس المدنية قوائم تضم أسماء أشخاص توفوا داخل المعتقلات، لتفبرك أسباب الوفاة.
رغم الأدلة المتوافرة، فإن التأثير الفعلي في ملف المعتقلين في سجون النظام السوري كان خجولاً
وكانت تقارير حقوقية تحدثت عن إصدار النظام السوري تقارير طبية مفبركة بالتنسيق مع المشافي، حيث يُدوّن في التقرير الطبي أن المعتقل توفي بشكل طبيعي نتيجة أزمةٍ قلبيةٍ أو نوبة ربو، بينما هو في الحقيقة توفي لشدة التعذيب، كما يمنع نظام الأسد ذوي القتلى من التحري عن صحة تلك التقارير.
وكان مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني قد أشار في حديث لـ“نداء سوريا” أن النظام يسعى من خلال تسجيل المختفين قسريًا كمتوفين في سجلات النفوس إلى استغلال أجهزة الدولة والتلاعب بالسجلات المدنية بهدف توجيه الصدمات للمجتمع السوري وتركيعه وإشاعة الخوف فيه.
ومع غياب الأرقام الرسمية، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان وجود أكثر من 118 ألف معتقل سوري بالأسماء، لدى النظام السوري وحده منذ مارس/آذار 2011 حتى نهاية يونيو/حزيران 2018، ويُحتجز قرابة 88% منهم في الأفرع الأمنية بمدينة دمشق والسجون العسكرية ومراكز الاحتجاز السرية وغير الرسمية، لكن التقديرات تشير إلى أن العدد يفوق الـ215 ألف معتقل.
تأجيل ملف المعتقلين في معظم المؤتمرات الدولية المتعلقة بالوضع في سوريا يعني – بحسب مراقبين – تجاهل دولى لأمر المعتقلين في سجون الأسد
كما أفادت الشبكة السورية لحقوق الإنسان الشهر الماضي، أن قرابة 82 ألف مواطنًا سوريًا مختفي قسريًا لدى النظام في الفترة ذاتها، في حين أنَّ عدد الضحايا الذين قُتلوا بسبب التعذيب في سجون النظام الرسمية والسرية بلغت قرابة 13 ألف مواطنًا سوريًا، منهم 99% أيضًا على يد النظام، ويوجد في داريا أكثر من ألفي معتقل موثقين بالاسم في أفرع المخابرات السورية، بحسب بيانات مجموعة “معتقلي داريا” التي تضم ناشطين متخصصين بمتابعة قضاياهم.
ورغم هذه الأدلة، فإن التأثير الفعلي في ملف المعتقلين في سجون النظام السوري كان خجولاً، فالملف الذي أُثير في معظم المؤتمرات الدولية المتعلقة بالوضع في سوريا شُكلت له مجموعة عمل خلال مؤتمر “أستانة 9” من الدول الضامنة، روسيا وإيران وتركيا، إلا أن ذلك الملف أُجِّل مرة أخرى، ما يعني – بحسب مراقبين – تجاهل دولي لأمر المعتقلين في سجون الأسد الذين لن يتواني أحدهم عن المطالبة بمحاسبة النظام وميليشياته في الأجهز الأمنية وفقًا للقانون.
“سوريا الصغرى“.. صيدنايا ترحب بكم
معرض صور “القيصر” لضحايا التعذيب في مقر الأمم المتحدة
جثث عارية لنساء سوريات مُتن من الجوع والتعذيب، وجثث لصِبية ماتوا بنفس الطريقة، وأخرى لكبار سن وشبان أيضًا قضوا جوعًا وألمًا في سجونٍ مظلمة موحشة، ثم “غلفوا” بأكفان “نايلون”، وكدسوا كما في علب “السردين” وأرسلوا إلى مصيرٍ مجهول، ربما مقابر جماعية أو حتى محارق بشر.
ما تقدم يختصر ما شاهده المنشق الملقب بـ”القيصر” مباشرة الذي راجت أنباء عن مغادرته سوريا في يناير/كانون الثاني 2014، حاملاً آلاف الصور التي يُظهر الكثير منها جثث معتقلين ماتوا في مراكز الاعتقال السورية، التي صورها بصفته مصور الطب الشرعي الرسمي للشرطة العسكرية.
هكذا حول الأسد سوريا إلى “مسلخ بشري”، وهو وصف اختارته منظمة العفو الدولية للإشارة إلى سجن “صيدنايا” سيء السمعة، وعنونت به تقريرها الأخير الذي يوثق الواقع المروع في هذا السجن العسكري، إلى جانب عشرات السجون الشهيرة ومراكز الاحتجاز السرية التي تديرها أجهزة المخابرات التي لا تخضع لأي نوع من الرقابة، ولدى القائمين عليها حصانة من الملاحقة القانونية.
وفي تقريرها، وصفت منظمة العفو الدولية معتقلات النظام بأنها الأكثر إثارة للرعب في العالم، وكان من المستحيل تصور أو تصديق ما تضمنته التقارير من أشكال الرعب والوحشية والإذلال في معتقلات النظام لولا ما فعله “القيصر”، الشاهد الملك في ملف تسريب أكثر من 50 ألف صورة لـ11 ألف جثة، قتل أصحابها بشكل ممنهج في سجون بشار الأسد.
“يمكنك أن تحصل على صور من أي شخص وتدعي وجود تعذيب، ليس هناك أي تحقق من هذه الأدلة، وبالتالي جميعها ادعاءات بلا أدلة” يقول بشار الأسد
“إنه يحطم إنسانيتك” هذا أيضًا عنوان لتقرير سابق لمنظمة العفو الدولية وثقت فيه منهجية التعذيب المتبعة التي تجعل آخر ما يموت الإنسان جسده، وتلك منهجية يعرفها كل السوريين وخبرها كثير منهم، حيث يُستقبل المعتقلون فور وصولهم بما يعرف بحفلة الترحيب، وهي دوامة من الضرب المبرح تستمر لساعات يستخدم فيها أدوات عدة منها صوت ينهش في كل مرة يهوي على جسد المعتقل شيئًا من لحمه.
من لا ينقذه الموت من هذا الضرب تتكرر معه جلسات الضرب ما بقي معتقلاً وحيًا، يضاف إليها أجهزة وأدوات مختلفة ومخصصة للتحكم في شدة الألم المراد إنزالها في جزء محدد من جسد المعتقل، إنه العنف الجنسي، وإجبار معتقل على اغتصاب آخر وثقته أيضًا منظمة العفو الدولية كأداة تعذيب.
وفي تقرير آخر لمنظمة هيومان رايتش واتش، وثقت المنظمة الوفيات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية ديسمبر 2015، متهمة النظام السوري بارتكاب سياسة إبادة، وفق ما حدده نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية.
لكن هذه الأدلة لم تضعف قدرة الأسد على الإنكار والتكذيب وادعاء الفبركة أو التسييس، كما درج على ذلك حيال كل جريمة كان يقوم بها، ففي مقابلة مع مجلة فورين أفيرز في 20 من يناير/كانون الثاني 2015، قال الأسد: “يمكنك أن تحصل على صور من أي شخص وتدعي وجود تعذيب، ليس هناك أي تحقق من هذه الأدلة، وبالتالي جميعها ادعاءات بلا أدلة”.
إنها الإبادة بعينها، وإن استحال معاينتها في أقبية المخابرات السورية، فإن مشاهد تؤكدها وبدقة عالية، وقد رآها العالم كله، ولم يحرك ساكنًا، وهي أيضًا آلة موت قوات النظام التي قتلت مئات الآلاف وشردت الملايين ودمرت ثلث البلاد.