ترجمة وتحرير: نون بوست
اعتاد فؤاد على سماع دوي الطائرات التي تقلع من المطارات بالقرب من منزله في حي الربصة في مدينة الحديدة اليمنية. ويجني الرجل اليمني لقمة عيشه من العمل كناقل بضائع على متن دراجته النارية، وذلك لإعالة زوجته وأطفالهما الأربعة وعائلته الموسعة. ومنذ بدأ المعركة من أجل السيطرة على الحديدة في آذار/ مارس 2018، طغى صوت رحى الحرب التي تدور في المدينة على هدير محركات الطائرات، حيث باشرت القوات التي تقودها السعودية وحلفاؤها بالهجوم على الميناء اليمني الذي يمثل بوابة المساعدات والواردات للبلاد، والذي يسيطر عليه الحوثيون منذ 2015.
خلال شهر حزيران/ يونيو الماضي، قام فؤاد، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي لدواعي أمنية، ببيع دراجته النارية، ثم انضم رفقة عائلته إلى جحافل العائلات الأخرى التي فرت من المنطقة خلال الأشهر الأربعة الفارطة، والتي تقدر منظمة الأمم المتحدة عددها بحوالي 35 ألف عائلة. في البداية، اتجهت عائلة فؤاد صوب محافظة إب، واستقل الجميع حافلة لنقل الركاب في رحلة تستغرق ست ساعات نحو منطقة أكثر أماناً، وتبعد عنهم 225 كم وتخضع لسيطرة الحوثيين.
كانت معركة الحديدة واحدة من أشد المعارك التي دارت خلال حرب اليمن التي دامت لثلاث سنوات، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار المدينة آمنة بالنسبة للمدنيين
في هذا الصدد، صرح فؤاد قائلا: “مكثنا داخل مخيم مؤقت في مدينة إب ولم نتلقى أي مساعدات من طرف المنظمات الدولية”. وتابع الرجل البالغ من العمر 39 سنة إنه لم يكن هناك سوى بعض الأشخاص الذين قدموا لهم الطعام، وأنه قد راوده شعور سيء عندما كان يعتمد على الآخرين لتوفير قوت يومه، مما دفعه إلى بدأ رحلة البحث عن عمل. وفي نهاية المطاف، تمكن فؤاد من إيجاد عمل مناسب يعيده إلى مسقط رأسه، لكن هذه المرة لن يكون مصحوباً بعائلته.
قاتل وتحوّل إلى غني
كانت معركة الحديدة واحدة من أشد المعارك التي دارت خلال حرب اليمن التي دامت لثلاث سنوات، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار المدينة آمنة بالنسبة للمدنيين. وأثناء التجول داخل الحديدة، تظهر مخابئ القناصة والخنادق الممتدة وحواجز الطرق، فضلا عن وجود العديد من الألغام الأرضية التي قام الحوثيون بتوزيعها حول ضواحي المدينة. وذكرت وسائل الإعلام المؤيدة للحوثيين أن إحدى الضربات الجوية لقوات التحالف أصابت حافلة تقل عددا من المدنيين الذين كانوا متجهين إلى مدينة تعز.
في الوقت الحالي، تشهد المدينة هدوءا نسبيا، لكن طرفيْ القتال مستمران في إرسال التعزيزات إلى المنطقة. ولإنجاح مخططاتها، تحتاج القوات الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي إلى مقاتلين ملمين بخبايا شوارع المدينة وضواحيها، فضلا عن امتلاك معرفة بجميع تفاصيل المطارات والطرق، وهو ما دفعهم إلى الالتجاء إلى مواطني المدينة الذين فروا منها مؤخرا.
عامل يمني يقوم بإخلاء الطعام أثناء التهام النيران للمستودع التابع لبرنامج الأغذية العالمي الذي تديره الأمم المتحدة في شهر آذار/ مارس 2018.
عمد أحد أصدقاء فؤاد إلى إخباره عن إحدى المخيمات التي تسيطر عليه القوات الموالية لهادي، والذي يقع على بعد 180 كيلومترا جنوبي محافظة لحج، وقال إنه يأوي النساء والأطفال، في حين يعود الرجال للحديدة من أجل القتال وتلقي رواتب مرتفعة تدفعها لهم الرياض بواسطة الريال السعودي. ويمكن القول إن في ذلك فائدة عظيمة، حيث يعتبر الريال السعودي عملة أكثر استقراراً من نظيرتها اليمنية التي ما تنفك قيمتها تتأرجح.
حيال هذا الشأن، صرح فؤاد: “لقد انضم بعض أصدقائي بالفعل إلى معركة الحديدة للقتال رفقة القوات الموالية لهادي. إنهم يحصلون على حوالي 4000 ريال شهرياً، وهو ما يعادل 1065 دولارا، وقد دفعهم ذلك ليوصوا بوسيط جيد”. ويمكن لك مقارنة هذا الراتب بمبلغ 120 دولار الذي اعتاد فؤاد على تلقيه نظير عمله في نقل البضائع، أو راتب 60 دولار الذي كان ليتحصل عليه إذا ما عمل في ميناء الحديدة.
أدى وصول فؤاد إلى المخيم إلى حدوث مشكلة إضافية، حيث لم يكن الحوثيون ليسمحوا له بمغادرة إب والدخول إلى أماكن تخضع لسيطرة القوات الموالية لهادي. وعلى الرغم من سعيه الحثيث لإقناعهم بأنه عائد للحديدة بهدف العمل مع أصدقائه، لم يوافق الحوثيون على طلبه. وفي هذا الصدد، قال فؤاد: “في نهاية المطاف، أخبرنا أحد الأصدقاء عن وجود مهربين ينقلون الناس عبر الجبال والوديان”.
يتكون المخيم الذي ستسكنه عائلة فؤاد من خيام مؤقتة لا توفر حماية من الشمس، كما أن كمية الطعام المتوفرة قليلة نسبيا
كلفت رحلة الذهاب إلى المخيم، التي استغرقت ثماني ساعات، مبلغ 60 دولار، حيث اضطر فؤاد إلى مرافقة عائلته خلال عبورهم للمعابر والطرق المخفية، التي تضمنت السير على الأقدام في أغلب الأحيان، وذلك لتجنب نقاط التفتيش التي يديرها الحوثيون. وفي الثامن من تموز/ يوليو الجاري، وصل فؤاد وعائلته إلى المخيم الذي يقع في صحراء لحج، ليجد أن المخيم يضم حوالي 120 عائلة من الحديدة.
أُقيم المخيم في أواخر شهر حزيران/ يونيو الفارط، ويشرف عليه في الوقت الحالي بعض الجنود الموالون لهادي. ويتكون المخيم الذي ستسكنه عائلة فؤاد من خيام مؤقتة لا توفر حماية من الشمس، ناهيك عن كونها تصبح شديدة الحرارة عندما تشتد الحرارة في الخارج. ويطغى صوت هبوب الرياح على صوت هتافات الأطفال الذين يلعبون داخل المخيم، كما أن كمية الطعام المتوفرة قليلة نسبيا. بالإضافة إلى افتقار المكان إلى العناصر الأساسية الأخرى مثل خدمات الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب. علاوة على ذلك، يتساءل الكثيرون حول ما إذا كان هذا المكان آمنا أو لا.
رواتب مغرية للمشاركة في المعارك الرئيسية
عندما أدرك فؤاد أن أسرته أصبحت في مأمن، اتصل بالوسيط الذي يقوم بتجنيد الرجال للمشاركة في القتال في الحديدة، وسرعان ما عقد صفقة معه للقتال لمدة ثلاثة أشهر. تم تكليف جميل، وهو رائد في الجيش اليمني في محافظة لحج، بتجنيد رجال مثل فؤاد (الذي طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي لأنه لا يُسمح له بالتحدث علنا). وقد صرح جمال قائلا “يأمل النازحون في الحديدة في تحرير المحافظة من الحوثيين، فقد خاطروا بالسفر إلى المناطق التي تم تحريرها حتى يتمكنوا من الانضمام إلى معركة الحديدة”.
اليمنيون يتفقدون سيارة بعد الاشتباكات التي جدت بين الحوثيين والقوات الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي بالقرب من الحديدة في شهر أيار/ مايو من سنة 2018.
في سياق متصل، أضاف جميل أن “هؤلاء الرجال ينضمون إلى المعارك في الحديدة فقط لأنهم يعرفون المنطقة جيدا ورغبة منهم في تحريرها من الحوثيين والعودة إلى منازلهم”. وتجدر الإشارة إلى أن المجندين الجدد لا يتلقون تدريبا عسكريا قبل الانضمام للمعركة، وإنما يعتمدون على المهارات التي اكتسبها معظم الرجال اليمنيين حول كيفية التعامل مع الأسلحة النارية (تسجل البلاد واحدا من أعلى المعدلات في حيازة الأسلحة النارية في العالم)، أما البقية فعليهم التعلم في ساحة المعركة.
في أوائل شهر تموز/ يوليو، أعلنت القوات الموالية لهادي في الحديدة أن سبعة آلاف من المجندين الجدد من المدينة قد انضموا إلى ساحة المعركة، كما انضم مقاتلون آخرون في عدة دفعات قبل ذلك. ومن جهته، أوضح جميل أن مئات النازحين من الحديدة قد عادوا بالفعل في شهر تموز/ يوليو، مع مئات المجندين أمثال فؤاد، وانضموا إلى القتال في وقت لاحق من نفس الشهر. ويخطط فؤاد في الوقت الحالي، للقتال لمدة ثلاثة أشهر، ومن ثم استخدام تلك الأموال للعودة إلى دياره واستئجار منزل لعائلته في محافظة عدن.
في الواقع، إن المكافآت المقدمة للمقاتلين ضد الحوثيين في ساحات القتال الأكثر دموية في اليمن ضخمة للغاية، لكن هذا لا يعني أن الرجال يستمتعون بالقتال. بدأ عثمان، وهو مقاتل من أنصار الرئيس هادي، القتال في الصعدة خلال السنة الماضية، لكنه انسحب لأنه كان يكره القتال، مؤكدا أن القوات الموالية لهادي لا تدفع رواتب مغرية سوى للمشاركين في المعارك الخطرة.
صرح عثمان بأن “المقاتل في الحديدة يتلقى أكثر من ألف دولار، بينما يتقاضى المقاتل في تعز 120 دولارا فقط. ويعزى ذلك أساسا إلى أن المعركة في الحديدة خطيرة للغاية وحاسمة بالنسبة للقوات الموالية لهادي، لذلك يدفعون هذه الرواتب المغرية من أجل تشجيع الرجال على الانضمام للمعركة”. وأضاف عثمان أن “هؤلاء النازحين اليائسين يقعون ضحايا في مناسبتين، الأولى عندما يفرون من منازلهم وثانيا عندما ينضمون للمعركة”.
أوضح فؤاد أن “البعض يملكون خيارين فقط، إما رؤية أطفالهم يموتون جوعا داخل المخيمات أو الانضمام إلى المعارك، وهم يخيرون الكفاح من أجل إنقاذ أطفالهم”.
بناء على ذلك، بين أستاذ علم اجتماع في جامعة تعز، فضل محمد، أن الفقر الذي يعاني منه النازحون يؤجج الصراع، فنحن لا نرى الأثرياء يقاتلون على الخطوط الأمامية لأنهم مشغولون جدا بالاستمتاع بحياتهم. في المقابل، يلتحق الأشخاص اليائسون بالجبهات على أمل الحصول على حياة أفضل”.
الخيار الأقل سوء
يتجه فؤاد اليوم شمالا نحو الحديدة، حيث من المتوقع أن يقاتل بالقرب من الجهة الخلفية لموقع المطار، بعيدا عن حيه القديم. لا يريد فؤاد لا هو ولا عائلته الذهاب إلى المعركة، لكنه يفكر في المستقبل، وفي توفير ما يكفي من المال من خلال المشاركة في القتال حتى يتمكن من استئجار منزل لعائلته في عدن.
في هذا الإطار، قال فؤاد إن “القتال هو أفضل خيار بالنسبة لي لأنني سأحصل على المال الذي سيمكنني من مساعدة عائلتي، وحتى إذا قُتلت ستقوم الحكومة بمساعدة أسرتي، فأنا لا أحب أن أتوسل الناس لمساعدتي”. كما أوضح فؤاد أن “البعض يملكون خيارين فقط، إما رؤية أطفالهم يموتون جوعا داخل المخيمات أو الانضمام إلى المعارك، وهم يخيرون الكفاح من أجل إنقاذ أطفالهم”.
لكن الشكوك مازالت تساور فؤاد، كما هو الحال مع عائلته، التي دعمت قراره فقط عندما سمعت أنه سيذهب مع أصدقائه. وأكثر ما يقلق فؤاد هو خوفه من عدم رؤية زوجته وأطفاله مرة أخرى، حيث أقر بأنه “حتى لو حصلت على المال من القتال، فهو ليس أفضل من حياتي السابقة، فالعمل على دراجتي النارية أفضل من القتال من أجل المال. كما أنني لازلت مشتاقا للعودة إلى حيي ولوظيفتي السابقة”.
المصدر: ميدل إيست آي