عام مر على “مقاطعة” أو “حصار” بعض الدول الخليجية إلى جانب مصر لها، عامٌ سعت خلاله إلى تنويع مصادر تعاونها الاقتصادي والدبلوماسي والأمني والعسكري، بهدف تنويع خيارات مناورتها وحماية ذاتها على صعيد إستراتيجي، ووصلت آخر مناورتها في تعزيز تحركها العسكري إلى تقديم طلب بالانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطسي “الناتو”.
ولم يمضِ كثيرًا حتى أعلن الناتو رفضه للعرض القطري، مشيرًا إلى أن العضوية محفوظة للولايات المتحدة والدول الأوروبية فقط وفقًا للمادة 10 من معاهدة واشنطن المؤسسة له، لكن هل انتهت فرص قطر للتعاون مع الناتو على نحو إستراتيجي؟
لعل المادة الـ10 لواشنطن السبب المباشر لرفض الناتو الطلب القطري، لكن يبدو أن هناك بعض الأسباب غير المباشرة أو المُحتملة لرفض الناتو هذا الطلب، ويكاد تخوف الناتو من الإخلال بميزان القوى مع الدول الخليجية الأخرى أحد الأسباب الرئيسية ضمن الأسباب غير المباشرة لرفض ذلك.
وفي إطار الأسباب غير المباشرة أيضًا، ربما لعب عدم رغبة أعضاء الناتو في إضافة عضو جديد يزيد من تعقيدات موافقة جميع أعضاء الحلف للقيام بأي ضربة عسكرية أو خطوة إستراتيجية، وبحسبان انحدار قطر من منطقة الشرق الأوسط التي تشكل حديقة خلفية لأغلب أعضاء الناتو، يصبح انضمامها الكامل غير عملي بالنسبة للناتو الذي قد يتعرض لعرقلتها، بحكم علاقاتها المترابطة على نحو وثيق مع عدد من دول المنطقة.
يكاد الحرص “الناتوي” على عدم إقدام قطر على المُضي قدمًا نحو فتح صفحة للتعاون العسكري مع روسيا، ومحاولته الحيلولة دون سير قطر على نهج تركيا فيما يتعلق بالتعاون العسكري مع روسيا
في المقابل يبدو أن رفع مستوى تعاون قطر التي تحظى بدور ونطاق إقليمي وعالمي ملموس مع الناتو يمثل له أهمية عالية، وبالأخص في ظل اتساع مستوى وظيفته، أي الناتو، ودوره بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وظهور نوعية جديدة من التهديدات كالإرهاب العالمي والحرب السيبرية، وغيرهما.
ويكاد الحرص “الناتوي” على عدم إقدام قطر على المُضي قدمًا نحو فتح صفحة للتعاون العسكري مع روسيا، كعقد صفقة معها بشأن شراء منظومة الدفاع الجوي “آس 400″، سواء تم ذلك بنية قطرية فعلية أم لم يتم بنية قطرية للضغط على الناتو فقط، يلعب دوره في التفاته لقطر كموقع جيوإستراتيجي يوفر له نطاق عسكري ضد المنافسين الإقليميين (إيران)، والدوليين (روسيا)، ومحاولته الحيلولة دون سير قطر على نهج تركيا فيما يتعلق بالتعاون العسكري مع روسيا.
وربما يؤدي مشروع الناتو المعروف باسم “منطقة الشرق الأوسط الكبرى” الذي تبلور نتيجة تنامي المخاطر الأمنية جراء الحرب على العراق ويشمل بناء شراكة سياسية ـ أمنية مع دول المنطقة، دوره في مقابلة الناتو لطلب قطر بتحرك يرفع من رصيده على أصعد إيجابية مغايرة لسيناريو الانضمام الكامل.
سيناريوهات التعاون بين قطر والناتو
ـ سيناريو التحرك المشترك تحت إطار مجلس إستراتيجي:
بينما يأتي الأردن على قمة الدول العربية التي تحظى بشراكات أمنية ـ عسكرية مع الناتو، حيث شارك التحالف الانتشار ضمن قوة الأمن الدولية في أفغانستان “إيساف”، وقد يُطبق هذا السيناريو مع قطر ذات الموقع الإستراتيجي بالقرب من مضيق هرمز
يُشار بهذ السيناريو إلى تطبيق الناتو فلسفته المتبلورة حديثًا تحت اسم “مبادرة منطقة الشرق الأوسط الكبرى”، لا سيما بعد أحداث 11 من سبتمبر/أيلول والحرب على العراق وما أحدثته من نتائج سلبية على أمن المنطقة ومحيطها، حيال الشرق الأوسط، والقائمة على بناء شراكة سياسية ـ أمنية بتراتبية مختلفة مع دول المنطقة.
فبينما يأتي الأردن على قمة الدول العربية التي تحظى بشراكات أمنية ـ عسكرية مع الناتو، حيث شارك التحالف الانتشار ضمن قوة الأمن الدولية في أفغانستان “إيساف”، وقد يُطبق هذا السيناريو مع قطر ذات الموقع الإستراتيجي بالقرب من مضيق هرمز الذي يمر منه نحو 17 مليون برميل من النفط الخام يوميًا، وذات النفوذ الناعم القوي الذي يخدم تحركات لناتو”، فضلًا عن نفوذها “الأخطبوطي” في دورها بحل النزاعات بين دول المنطقة وجماعاتها.
وقد يشمل هذا السيناريو موافقة الحلف على تدريب القوات العسكرية القطرية، كما تم سابقًا مع القوات العسكرية العراقية عام 2004.
ويكتسب هذا السيناريو واقعيته التي تفوق السيناريوهات الأخرى من كونه يأتي في إطار وجود أصلًا مباردات للناتو للتوجه نحو تحقيق علاقات سياسية عسكرية مع دول منطقة الشرق الأوسط، لا سيما دول الخليج، التي أطلق معها مبادرة باسم “مبادرة إسطنبول للتعاون” عام 2004، وشملت مواضيع عدة كمواجهة الإرهاب والتدريب والمناورات المشتركة في سبيل تحقيق أمن الطاقة والملاحة البحرية، التي انضمت إليها دول الخليج باستثناء عُمان والمملكة العربية السعودية، وتأتي في إطار امتدادي لمبادرة “الحوار المتوسطي” التي أطلقها الحلف عام 1994 لتسهيل الحوار السياسي مع دول الشرق الأوسط قاطبة، بما فيها الجزائر ومصر و”إسرائيل” والأردن وتونس والمغرب.
وإلى جانب ذلك قد يؤدي الاتجاه الأمريكي نحو الانعزالية والانكفاء دورًا في تحفيز الناتو على مقابلة مبادرة قطر برفع مستوى التعاون بالإيجاب، لا سيما أن قطر تحتضن القاعدة الأمريكية الأكبر في المنطقة، فذلك يشكل نقطة في رصيدها لدى الناتو الذي قد يرى في هذه القاعدة أهلية لتدويلها، أو يراها نقطة إيجابية في رصيد قطر كدولة يمكن بناء أسس تعاون قوية معها.
في إطار مبادرة إسطنبول عرض الناتو مقترحات للتعاون مع الدول الخليجية بصيغة 28+1، أي أن التعاون مع الدول الخليجية سيكون بناء على وضع كل دولة
وفي ظل عدم انضمام عُمان لمبادرة إسطنبول، ربما تكسب قطر من محاولتها للتقارب من الحلف تحركًا إيجابيًا على تعاونهما الذي قد يتطور على صعيد النظر في استخدام القواعد الجوية والبحرية، في إطار دور الناتو بحماية مضيقي هرمز الذي يغذي 40% من حجم الطلب العالمي للطاقة، وباب المندب الذي يشكل ممرًا مهمًا لأكثر من 12% من حجم التجارة العالمية.
أيضًا في إطار مبادرة إسطنبول عرض الناتو مقترحات للتعاون مع الدول الخليجية بصيغة 28+1، أي أن التعاون مع الدول الخليجية سيكون بناء على وضع كل دولة، فقد يقع الاختيار على إحدى الدول لإقامة برامج المراقبة البحرية وأخرى البرية وأخرى الجوية وأخرى المعلوماتية، وهكذا تصبح لدى قطر ذات التحرك الدبلوماسي المشهود على الساحة الدولية فرصة أكبر فيما يتعلق بإمكانية الاتجاه نحو بذل جهود مضنية للحصول على برامج حيوية في التعاون مع الناتو.
ـ سيناريو التعاون الظرفي
يقوم هذا السيناريو على احتمال أن ينظر الناتو لقطر كجغرافيا مفيدة تُشكل نقطة انطلاق للعمليات العسكرية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط عند الحاجة، وينبع هذا السيناريو من نظرية محاولة الناتو موازنة علاقاته مع دول الخليج، كما أن تحركاتها خارج إطار التعاون الثنائي مع الولايات المتحدة محكوم بمعادلات لا يمكن تخطيها، إلا في حال تركت الولايات المتحدة لها هوامش يبدو أنها لن تكون واسعة حرصًا من الولايات المتحدة على ميزان قوى معتدل نسبيًا بين دول الخليج.
ـ سيناريو الانضمام الكامل
لقد قابل الناتو قطر برفضٍ سريع ومباشر بعد تقديمها لطلب الانضمام، مستندًا إلى مادة قانونية لا تسمح للدول غير الأوروبية بالانضمام، وإلى جانب هذا الرفض يُذكر أن الناتو لم يقبل العضوية الكاملة لجورجيا وأوكرانيا الأقرب له من قطر والأكثر أهمية بالنسبة لها، انطلاقًا من موقعهما القريب من روسيا الاتحادية “الغريم القديم الجديد”، على الرغم من محاولتهما الحثيثة للظفر بذلك، وبذلك يبدو أن سيناريو الانضمام الكامل غير متوقع.
الأمر قائم على مدى سعي دولة قطر، وقدرتها على مدى استغلال نفوذها الدبلوماسي والمنظماتي لتحقيق ذلك
في المحصلة، لا تنعدم فرص قطر لتحقيق تعاون مع الناتو بالكامل، بل إنها قد تذهب نحو اتباع سياسة “صيد الفرص” للمناورة في إطار ترسيخ سيناريو تأسيس مجلس شراكة إستراتيجي تحظى بواسطته برامج تعاون حيوية تُعلى من رصيدها الإقليمي كدولة صغيرة المساحة كبيرة النفوذ، أو تأسيس أرضية لسيناريو التعاون الظرفي في أسوأ الأحوال، والأمر قائم على مدى سعيها وقدرتها على استغلال نفوذها الدبلوماسي والمنظماتي لتحقيق ذلك.