قد تكون فكرة السفر من أجل المتعة وتغيير المزاج هي الأكثر ارتباطًا بالسفر والسياحة على مدى سنينَ طويلة. لكن في وقتنا الحاضر، بات الكثير من الأشخاص، لا سيّما الشباب، ينظرون للسفر والسياحة بمستوىً أعمق بكونه طريقًا تساعدهم في البحث عن ذواتهم وإيجاد المعنى والمغزى من الحياة والوجود في الوقت الذي عجزوا عن إيجادهما في أيّ أمرٍ آخر في حياتهم الرتيبة.
ولعلّ الأفلام ومنصات التواصل الاجتماعيّ قد ساهمت بشكلٍ كبير في خلق هذا النوع من السياحة والسفر لدى الأفراد. ولا أدلّ على ذلك من تأثر الكثيرين بفيلم “طعام، صلاة، حب” حيث تبدأ “جوليا روبرتس” برحلة البحث عن ذاتها بعد سيطرة اللامعنى والملل على حياتها بكاملها لتبدأ رحلة التحوّل والتغيّر واكتساب المعنى شيئًا فشيئًا مع كلّ مكانٍ تزوره وتستكشفه. أما في فيلم “إلى البرية“، يترك البطل حياة البذخ والراحة التي يعيشها ليبدأ حياة التجوّل والترحال باحثًا عن هدفه في الحياة وراغبًا باكتشاف ذاته وأناه بعيدًا عن الماديات والتكنولوجيا التي تسيطر على هذا العصر.
يروي فيلم “Into the Wild” القصة الحقيقية لكريستوفر مكندلز الذي غادر منزلته في رحلة البحث عن الذات
وما بين قصص الأفلام والروايات من جهة، وتجارب الواقع من جهةٍ أخرى، قد يجد المرء نفسه محصورًا بين السؤال عن قدرة السفر فعلًا على كشف الذات وسبر اغوارها، وبين إيمانه بكون الأمر مجرّد كليشيه كالكثير من الكليشيهات المنتشرة بين الناس، وساعدت السينما والسوشيال ميديا على انتشارها وتغللها أكثر وأكثر.
بنى الصوفيّ علاقةً وطيدةً بالسفر والترحال بوصفهما يمثّلان حقيقة الإنسان والأشياء
السفر في الصوفية: وسيلة للخلاص والوصول
على غرار ما اعتاد المتصوّفة على فعله منذ سنين طويلة، بات السفر عند الكثيرين اليوم “رحلة داخلية” يسلكونها بحثًا عن أنفسهم وذواتهم، واختبار أهدافهم، والتحقق من معنى الحياة ومغزى الوجود. ولو اطّلعنا إلى كلمة “سَفَر” في اللغة العربية، لوجدنا أنها تكتنز العديد من المعاني التي توحي عن “الكشف” و”الإظهار”. ومن هنا، بنى الصوفيّ علاقةً وطيدةً بالسفر والترحال بوصفهما يمثّلان حقيقة الإنسان والأشياء. فخروجه من ضيق الرحم لسعة الوجود سفر، ومروره من طورٍ لطورٍ في الحياة سفر، ونموّه الجسديّ سفر، واختلاف أفكاره وخيالاته وخروج الكلمات من أعماقه سفَر، وانتقاله من الدنيا إلى الآخرة سفر، وهكذا دواليك.
ووفقًا لأبي حامدٍ الغزالي فالسفر وسيلةٌ للخلاص من مهروبٍ عنه أو للوصول لمرغوبٍ فيه. ويرى الغزالي أيضًا أنّ “السفر سفران، سفر بظاهر البدن المستقر والوطن، وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السماوات، وأشرف السفر سفر الباطن”.
السفر كوسيلة لتحقيق الذات
تقترح نظرية التحديد الذاتي أنّ لدى الأفراد دافعًا فطريًا نحو النمو والتغيير يتحدد من خلال ثلاث حاجاتٍ نفسية يشتركون بها جميعًا وتنطوي على الكفاءة أو القدرة على العمل بفعالية ممكنة، وحرية الاختيار الذاتي أو مسؤولية الفرد عن قراراته وسلوكياته الخاصة، والارتباط مع الآخرين وتكوين العلاقات معهم.
ينظر الأفراد للسفر بوصفه وسيلةً لتحقيق الذات نظرًا لكون يحقّق الحاجات الثلاث الرئيسية لذلك، خاصة حرية الاختيار والارتباط مع الآخرين وتكوين العلاقات.
فاستيفاء أو إشباع هذه الحاجات الثلاث يؤدي بدوره إلى خلق شعور الفرد بالرضا عن ذاته حيال ما يفعله أو ما يقوم به في شتى مجالات حياته، وأي نقص في مستوى الإشباع فغالبًا ما يؤدي بالفرد للبحث عن سبل أخرى لإشباع تلك الحاجات أو قد يؤدي لخلق مشاكل صحية واضطرابات نفسية في حال تعثّرت محاولات إشباعها.
ما قد تجده ذاتك في هذا البلد قد لا تجده في آخر، ومن هنا كان السفر وسيلةً لسبر أغوار الذات والكشف عن بواطنها المختلفة.
ولو أسقطنا هذه النظرية على السفر، لوجدنا أنّ الأفراد باتوا ينظرون إليه بوصفه وسيلةً لتحقيق الذات نظرًا لكون يحقّق الحاجات الثلاث الرئيسية لذلك، خاصة حرية الاختيار والارتباط مع الآخرين وتكوين العلاقات. ولعلّ الأمر يرجع بشكلٍ أو بآخر إلى أنّ السفر إلى كلّ تلك الأماكن غير المألوفة تجعل من الشخص أكثر انفتاحًا وصراحةً مع نفسه، إذ يجدها خارج مجتمعه ودائرته التي كانت تقيّده وتُخضعه لقوانينها وعاداتها وقواعدها المختلفة التي ولا بدّ قد لا يجد نفسه تنتمي إليها لكنّه لا يستطيع الفكاك منها. فيجد نفسه حرًا في ذاته وقراراته وخياراته وأفعاله وعلاقاته بالأخرين من حوله، على عكس ما قد يجد نفسه عليها في بلدته أو موطنه.
يرى علم الأعصاب أنّ السفر يعمل على تعطيل الروتين في حياتك وتنشيط أجزاء دماغك التي تتفاعل مع كلّ ما هو جديد، مما يساعد على إعادة تنشيط دوائر المكافآت وتحسين الإدراك والمرونة العصبية.
السفر كعلاج: تجربة الجديد وتحسين الإدراك
ينظر علم النفس الإيجابي في العقود الأخيرة إلى السفر بكونه وسيلةً تكشف إمكاناتها الكاملة لتعمل كشكل من أشكال العلاج النفسي “Therapy” في حياتنا. أمّا علم الأعصاب فيرى أنّ السفر يعمل بشكلٍ جيّد على تعطيل الروتين في حياتك وتنشيط أجزاء دماغك التي تتفاعل مع كلّ ما هو جديد، مما يساعد على إعادة تنشيط دوائر المكافآت وتحسين الإدراك والمرونة العصبية.
ففي جزءٍ منه، يتطلب السفر منّا أنْ ننظر إلى العالم بطريقةٍ جديدة، فكلّ مكانٍ أو وجهةٍ قد نقصدها تحوي في ذاتها صفاتٍ وسماتٍ قد لا تكون في غيره. وعلى الرغم من أنّه لا يوجد أي أطلس أو توثيق لسيكلوجية الأماكن وأثرها على النفس، إلا أنه بكلّ تأكيد ثمة آثار تختلف من مكانٍ لآخر، وبالتالي فما ستجده ذاتك في هذا البلد قد لا تجده في آخر، ومن هنا كان السفر وسيلةً لسبر أغوار الذات والكشف عن بواطنها المختلفة.
ربما كانت الرغبة في السفر أيضًا مظهرًا من مظاهر الغريزة الروحية عند الإنسان ليكون حرًا ورغبة لا شعورية في تجاوز الدنيوي والمألوف.
كما أنّ اكتساب الوعي والإدراك وتطويرهما فيما يتعلّق بالحياة والدنيا من حولنا، لهي أسلوب نموّ وتطوّر نفسيّ عميق قد يكون بذاته هو المعنى الذي يبحث عنه الكثيرون في حياتهم. وربما كانت الرغبة في السفر أيضًا مظهرًا من مظاهر الغريزة الروحية عند الإنسان ليكون حرًا ورغبة لا شعورية في تجاوز الدنيوي والمألوف.
وعلى النقيض من ذلك تمامًا، ثمّة وجهةِ نظرٍ أخرى ترى أنّ السفر قد لا يكون تلك الوسيلة الفعّالة لكشف الذات وإيجاد المعنى. فبالنهاية، السفر لوحده لن يساعدك في سبر أغوار رحلتك الداخلية التي تحدث عن طريق مواجهة أفكارك ومشاعرك الأعمق والأعمق وفقًا لكارل يونغ. وبالتالي فمعرفة الذات ومواجهتها هي خطوة تأتي قبل السفر وخوض تلك التجربة. وهنا يأتي الدور على المسافِر أو الراغب بالسفر، ليحدّد قبل كلّ شيء حاجته من السفر والترحال ونظرته لنفسه وذاته وما الذي ينتظره من تلك التجربة التي قد تكون فعلًا وسيلة للبحث عن الذات، أو مجرّد وهمٍ.