ترجمة وتحرير: نون بوست
يعتبر رشيد الشماخي أحد ضحايا الديكتاتورية. وقبل موته، توسل الشماخي لجلاديه قائلا: “ارحموني”. ومن ثم، سقط الشاب أمام بقية السجناء مغشيا عليه والدماء تغطي جسده العاري، ليسارع أعوان الأمن إلى لفّ الشاب، الذي كان يحتضر، في غطاء وحملوه إلى المستشفى، قبل أن يلقى حتفه. وقد تُوفي الشماخي على يد أعوان الحرس الوطني في مدينة نابل في 24 تشرين الأول/أكتوبر عن سن يناهز 27 سنة، بعد ثلاثة أيام فقط من اعتقاله.
بعد ربع قرن، تكفلت إحدى المحاكم بالتحقيق في قضية موت هذا الشاب، الذي كان ينتمي إلى حزب حركة النهضة. وفي يوم المحاكمة، تجمع مئات المتظاهرين أمام قصر العدالة بشارع المنجي سليم في نابل هاتفين “يا رشيد يا شهيد، نفديك بدمائنا حتى تنال حقك”. وكان المتظاهرون يحملون صوره، في الوقت الذي دخل فيه أشقاء الشماخي قصر العدالة.
في الحقيقة، قد تدخل المحاكمة، التي شهدت وقائعها قاعة الجلسات رقم 1، التاريخ، خاصة وأن تونس تعتبر أول دولة عربية تحاول الكشف عن حقيقة الجرائم التي حدثت خلال 60 سنة من حكم الرئيسيْن الأسبقيْن، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. ومن خلال العدالة الانتقالية، تعمل تونس على إماطة اللثام عن جرائم الدولة، التي جدت خلال الفترة الممتدة بين 1955 و2013. كما يعمل القضاء التونسي على التحقيق مع المجرمين وتمكين الضحايا من حقوقهم.
لهذا السبب، أحدث المجلس الوطني التأسيسي هيئة الحقيقة والكرامة، أسوة بجنوب أفريقيا. وترأست هذه الهيئة سهام بن سدرين البالغة من العمر 67 سنة، وهي صحفية سابقة ومن أبرز الوجوه المعارضة لنظام بن علي. ولعل ما عرقل عمل هذه الهيئة المكونة من 15 عضوا هو ما شهدته من استقالات وخلافات بسبب تعنّت بن سدرين. ومنذ 2014، يعمل الخبراء المختصون في القانون على النظر في 50 ألف حالة اعتقال من بينهم 13 ألف امرأة تعرضن للاعتقال في سجون النظام السابق.
في الوقت الراهن، تسهر مختلف المحاكم التونسية على البتّ في 200 دعوى قضائية قدمها ضحايا الديكتاتورية
خلال التحقيقات، تفاجأت الهيئة بفظاعة الممارسات القمعية خلال عهد الديكتاتورية، ولكنها كانت مطالبة في كل الأحوال بالتحقيق مع المجرمين وإنصاف الضحايا، علاوة على الدعوة للمصالحة وتقديم مقترحات لإصلاح الوزارات والأجهزة الأمنية والقضائية. ومنذ سنوات، صُدم الرأي العام التونسي بشهادات حية قدمها ضحايا الإستبداد وسلطوا فيها الضوء على معاناتهم والاضطهاد الذي تعرضوا له خلال عهد الديكتاتورية. في ذلك الوقت، تسمر ثلث الشعب التونسي أمام التلفاز لمتابعة جلسات الاستماع. ولعل الأمر المثير للاستغراب هو أن وسائل الإعلام المحلية لم تبد أي اهتمام بهذه الشهادات.
“انتصار لكل التونسيين”
في الوقت الراهن، تسهر مختلف المحاكم التونسية على البتّ في 200 دعوى قضائية قدمها ضحايا الديكتاتورية. وفي شهر آيار/ مايو، عاشت مدينة قابس الساحلية على وقع أول جلسة للبتّ في قضية موت الشهيد كمال المطماطي تحت التعذيب. وفي وقت لاحق، شهدت مدينة نابل أول جلسة للنظر في قضية وفاة الشهيد رشيد الشماخي، وهو الابن الثاني من بين تسعة أبناء.
تماما مثلما حدث في جلسة المطماطي، لم يحضر أي من المتهمين جلسة الشماخي. ومن بين المشتبه بهم؛ أعوان الحرس الوطني وطبيبان، بالإضافة إلى وزيريْ الداخلية والعدل الأسبقيْن، عبد الله القلال والصادق شعبان، والديكتاتور الأسبق بن علي، الذي يعيش اليوم في المنفى في المملكة العربية السعودية. حيال هذا الشأن، أفادت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين أن “محاكمة رموز النظام السابق تعد بمثابة انتصار للتونسيين”.
مع ذلك، يشهد مسار العدالة الانتقالية في تونس العديد من الصعوبات، ذلك أن حزب نداء تونس، الذي يُسيّر دواليب الحكم في البلاد منذ فوزه بانتخابات سنة 2014، ويضم في صفوفه العديد من رموز النظام السابق، يسعى إلى أن يُدخل نظام بن علي القمعي طي النسيان. ولعل هذا ما يطمح إليه الرئيس، الباجي قائد السبسي، الذي تقلد منصب وزير الداخلية خلال الستينات والذي تعرض في عهده العديد من الطلبة اليساريين للاضطهاد. في هذا الصدد، صرح السبسي قائلا: “أنا ضد تصفية حسابات الماضي”.
يجري البحث في هذه القضايا، التي بدأ النظر فيها بالفعل، في 13 دائرة خاصة لطالما دار جدل واسع حول عملها
في الواقع، يريد الرئيس التونسي، البالغ من العمر 91 سنة، تبرئة الموظفين الذين عاثوا فسادا خلال عهد الاستبداد، من خلال قانون المصالحة الوطنية، الذي دخل حيز التنفيذ في سنة 2013. ولعل ما يثير الريبة هو أن السبسي تابع جلسات هيئة الحقيقة والكرامة من بعيد. وفي شهر آذار/ مارس، رفض مجلس نواب الشعب تمديد مهمة هيئة الحقيقة والكرامة لسنة إضافية، أي إلى حدود شهر آيار/ مايو سنة 2019، على الرغم من أن تقريرها النهائي لم يكن جاهزا بعد. وبعد أخذ ورد، من المنتظر أن تنتهي أشغال الهيئة في كانون الأول/ ديسمبر القادم، لتبقى الآلاف من الملفات عالقة. ويُفضّل القضاء أن يسلم كل الملفات للمحاكم العادية، التي لا تزال تضم قضاة مارسوا المهنة خلال عهد بن علي.
“أنا لا أريد الانتقام، ولست خائفاً”
يجري البحث في هذه القضايا، التي بدأ النظر فيها بالفعل، في 13 دائرة خاصة لطالما دار جدل واسع حول عملها. ففي البداية، أرادوا توظيف قاض متقاعد، وبعد ذلك قاض من دائرة قضائية عادية. وفي النهاية، ارتأوا أنه يجب ترشيح مجموعة من رجال القانون الشباب، وأصحاب السمعة الطيبة من الذين خضعوا بالطبع لتدريب خاص. ونتيجة لذلك، أصبح هناك أربعة مستشارين قضائيين في نابل، ثلاث نساء ورجل، كانوا جميعهم في بداية الثلاثينات من العمر، بيد أن رئيسة المحكمة كانت أكبر بقليل.
بصوت هادئ وناعم، تحدثت القاضية مع شهود اليوم الأول للقضية، حيث أنها لم تقاطعهم مطلقاً طوال الجلسة، كما وجهت لهم الأسئلة بكل حيطة وحذر. وفي بداية الجلسة، التي استمرت لأربع ساعات، أحضرت القاضية كرسياً، ووضعته بجوار منصة الشهود، لأنها تعلم أن أغلب الأخوة الثمانية للضحية تجاوزوا الستين من العمر.
تجدر الإشارة إلى أن جميعهم كانوا على اطلاع بعريضة الدعوى، التي تلتها على مسامعهم رئيسة المحكمة. كان رشيد الشماخي معلقاً على عامود طويل، عاري الجسد، وكأنه دجاجة مشوية. ولساعات طويلة، ظل رجال بالزي الرسمي يضربونه وهو على تلك الحالة بالهراوات على ركبتيه وساقيه وذراعيه ورأسه، حتى أصبح جلد جسده يتدلى منه كالخرقة البالية. وفي النهاية، قطعوا له خصيتيه.
في شهادة الوفاة الخاصة برشيد، كتب موظفو المستشفى الجامعي أن سبب الوفاة كان سكتة قلبية نتيجة الالتهاب الكبدي الفيروسي المزمن الذي كان يعاني منه رشيد
فضلا عن ذلك، أفاد هؤلاء المعتدون بكل سخرية أن كل ذلك حدث في الغرفة المقابلة لمكتب رئيس المنطقة، وأنهم اعتدوا على ذلك الرجل بقضيب من حديد وضعوه له في منطقة حساسة. وقال الشاهد الأول في القضية، قاسم الشماخي، وهو أحد إخوة رشيد، في شهادته: “لم أكن أتخيل مطلقاً، أنه بالإمكان تعذيب إنسان بهذه الطريقة الوحشية”.
في شهادة الوفاة الخاصة برشيد، كتب موظفو المستشفى الجامعي أن سبب الوفاة كان سكتة قلبية نتيجة الالتهاب الكبدي الفيروسي المزمن الذي كان يعاني منه رشيد. وبمجرد أن استلم والد رشيد جثته، أخبرته إدارة المستشفى أن مرض ابنه خطير للغاية ومعدٍ، ويجب دفن الجثة بسرعة. وبعد أن حضر جمع من الناس لحمل الجثة، أخرج لهم أحد الضباط النعش، واشترط عليهم عدم فتحه.
على الرغم من ذلك، أحضرت العائلة الجثة إلى المنزل. وأوضح قاسم الشماخي أنهم وجدوا الجثة مليئة بالكدمات التي خلفت بقعاً زرقاء، فضلا عن الكثير من الندوب. كما حاولوا إخفاء آثار التعذيب في الوجه من خلال استخدام بعض مستحضرات التجميل. وختم قاسم شهادته قائلاً: “لقد فقدنا معنى السعادة في الحياة”.
إهانات ومضايقات لعدة سنوات
فيما بعد، تعرضت أسرة الشماخي للمضايقات، حسب ما أكدته شقيقات رشيد الست. فقد عانى الأطفال من الإهانات في المدرسة، وكانت نظرات جيرانهم لهم مليئة بالبغض والاشمئزاز. وذات مرة، هددهم أحد العمال أنه سيبلغ الشرطة إذا لم يحصل على نقود إضافية، أكثر مما يستحق. وقد أفادت الأخت الصغرى لرشيد، وتدعى وسيلة، “لم ننعم قط بحياة هادئة”. وقد حصلت وسيلة على وظيفة في إحدى المؤسسات الحكومية التابعة لوزارة الفلاحة، بعد أن أتمت دراسة الهندسة. وبعد أربعة أيام فقط، طُردت وسيلة من وظيفتها، كما تمت مصادرة جواز سفرها لمدة خمس سنوات.
كانت الكلمات الأخيرة لإخوة الشماخي تدل على حجم القهر والمعاناة التي عاشوها. وعندما سألتهم المستشارة رئيسة المحكمة عما إذا كانوا يرغبون في العفو عن الجناة ويفكرون في التصالح معهم، هز جميع إخوة الشماخي رؤوسهم بالنفي. وقالت أخت رشيد الكبرى، وتدعى حبيبة، “أتمنى الموت لكل من شارك في قتل أخي. لن أغفر لهؤلاء المجرمين أبداً”.
على غرار رشيد الشماخي، ذكر باحثون في “الجمعية الدولية لدعم المعتقلين السياسيين” أن هناك ما لا يقل عن 60 شخصا آخرين، قُتلوا بسبب التعذيب الشديد في فترة حكم زين العابدين بن علي
أما محامي العائلة، نبيل لباسي، فلم تكن تلك الكلمات هي الأخيرة بالنسبة له. ففي قاعة المحكمة، أكد لباسي أنه ربما قد تسامح عائلة الشماخي الجناة في حال عرضت عليهم الدولة تعويضاً ماليا ضخما مقابل سنين الاضطهاد التي عاشوها. ومن ثم، استطرد لباسي في مرافعته قائلاً: “لكن، لا يمكن العيش مطلقاً بسلام مع الماضي، دون حد أدنى من العدالة عن كل الألم الذي شعرت به تلك العائلة”. وأردف لباسي أنه لا يمكن تحقيق هذه العدالة والمسؤولون عن تلك الجريمة البشعة لا زالوا طلقاء.
“جل ما يهمني هو مستقبل هذه البلاد”
على غرار رشيد الشماخي، ذكر باحثون في “الجمعية الدولية لدعم المعتقلين السياسيين” أن هناك ما لا يقل عن 60 شخصا آخرين، قُتلوا بسبب التعذيب الشديد في فترة حكم زين العابدين بن علي. ويمثل رشاد جعيدان أحد الناجين من سجون بن علي. وقد بدأت قضية رشاد في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وتابع رئيس الدولة الحالي، الباجي قائد السبسي، القضية برمتها، وكان يرى أن العدالة الانتقالية أمر مزعج.
حالياً، يبلغ رشاد 55 سنة، وقد مكث في السجن 9 سنوات، حيث ألقي القبض عليه بمجرد عودته إلى البلاد سنة 1993. وقد كان رشاد يكمل دراسة الدكتوراه في علم الرياضيات بجامعة السوربون في باريس، قبل أن ينقطع عنها ليعود إلى تونس من أجل مساعدة شقيقته في تحضيراتها لحفل زفافها. وقد خلّف التعذيب إعاقة لدى رشاد، كما أصبح أصماً، وفقد جميع أسنانه، بالإضافة إلى أن ركبتيه لا تتحركان نهائياً. وتحمل يد رشاد اليسرى آثار إطفاء السجائر، كما اتخذت ذراعه المكسورة شكلاً مُعوجاً بعد أن شفيت. وقد صرح رشاد أن “تلك الذكريات لا تغادر تفكيري مطلقاً”.
خلال السنة الماضية، زار رشاد لأول مرة طبيباً نفسياً، منذ أن أُفرج عنه من هذا السجن المظلم قبل 12 سنة. ويسرد رشاد قصته قائلاً: “في إحدى المرات، بقيت عارياً لمدة شهر كامل في زنزانتي، وكانت يدي اليمنى مقيدة بساقي اليسرى”. ويعرف رشاد جيداً أسماء معذبيه، الذين دمروا حياته، كما يعرف أين يقطنون.
بالإضافة إلى ذلك، تلقى رشاد عدة مكالمات هاتفية تهديدية مجهولة المصدر. وفي إحدى المناسبات، فوجئ بوجود رجلين على باب منزله يطلبون منه سحب دعوته. وقبل أسابيع قليلة، عثر على خرطوم الفرامل مقطوعاً في سيارته. وقد قال رشاد جعيدان: “أنا لا أريد الانتقام، كما أنني لست خائفاً. وجل ما يهمني هو مستقبل بلادي”.
المصدر: تسايت