قفزت محافظة البقاع في لبنان إلى رأس الاهتمامات المحلية والمتابعات الإقليمية والدولية لجملة من الاعتبارات التي تبدأ من السمعة التي تلتصق بهذه المنطقة لناحية الفوضى وانتشار السلاح والخروج على الدولة، وصولاً إلى مسألة زراعة الحشيشة (نبتة مخدّرة) والحديث عن تشريعها وتقنين زراعتها، وانتهاء بتواجد البيئة التي يتكىء عليها حزب الله إذ تشكّل عمقاً تاريخياً له، فضلاً عن أن المحافظة محاذية للحدود السورية من ناحية ريف دمشق الجنوبي وصولاً إلى حمص وريفها الغربي مروراً بالقلمون وما يتبعها.
تمتد محافظة البقاع على مساحة واسعة من لبنان إذ تحد قضاءي مرجعيون وحاصبيا من الجهة الجنوبية، ومعظم أقضية جبل لبنان من الجهة الغربية، وكذلك أقضية بشري والضنية وعكار من الجهة الشمالية. وتعتبر منطقة بعلبك والهرمل التي تقع في القسم الشمالي من البقاع المنطقة الأكثر فقراً من ناحية، والأقل استقراراً أمنياً من ناحية ثانية، إذ أنها منذ زمن طويل تُعتبر خارجة عن سيطرة ونطاق الدولة، وقد شهدت في مراحل سابقة من ستينات وسبعينات القرن العشرين ما عُرف في وقته بـ “حرب الطفّار”، أي المواطنين الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم.
وجاءت الحرب اللبنانية في العام 1975 لتكرّس من خروج هذه المنطقة عن سيطرة الدولة، وانتشار فوضى السلاح فيها، فضلاً عن انتشار زراعة المخدرات على نطاق ليس بسيطاً، وقد خلّف ذلك العديد من المشاكل والإشكاليات بين أبناء وعشائر هذه المنطقة من ناحية، وبينهم وبين غيرهم من المناطق المجاورة من ناحية ثانية، ومع الدولة من ناحية ثالثة.
حاولت الحكومة أن تنفّذ العديد من الخطط الأمنية في هذه المنطقة في محاولة لإعادتها إلى كنف الدولة، إلا أن معظم هذه الخطط كانت تصطدم بالحسابات التي كانت قائمة عند قوى الأمر الواقع
وجراء هذا الواقع، وبسبب هذه الإشكالات، سطّر القضاء اللبناني أكثر من 35 ألف مذكرة توقيف بحق أشخاص من أبناء هذه المنطقة على خلفيات خطف، وسرقة، وقتل، واعتداء، وتجارة وترويج مخدرات، أو ما شابه ذلك من أمور، وكل ذلك ولّد في قناعة الكثير من أبناء هذه المنطقة أنهم مستهدفون في قوتهم المعيشي وفي مستقبلهم، ما دفعهم للاحتماء تارة بالقوات السورية التي كانت متواجدة في لبنان حتى العام 2005، وتارة أخرى بقوى الأمر الواقع، وهي حزب الله حصراً، لحماية أنفسهم من ملاحقات الأجهزة الأمنية اللبنانية، وقد ولّد ذلك نوعاً من العلاقة الجدلية مع حزب الله، إذ أنهم يوفرون له بيئة حاضنة هو يحتاج إليها في حروبه التي خاصها سواء في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي قبل العام 2000، أو في حربه إلى جانب النظام السوري في سورية بعد العام 2011.
وبالتالي فهو لا يستطيع رفع الغطاء عنهم لهذا الاعتبار، كما لا يمكنه الدخول معهم في مواجهة. وفي مقابل ذلك يشكّلون بالنسبة له هاجساً، إذ أن ممارسات البعض ( خطف وسرقة واعتداء ومخدرات …) لا تنسجم مع أدبيات الحزب وثقافته وأخلاقه. كما وأن الحزب حاجة بالنسبة لهم أيضاً، على الرغم من الفرق الشاسع بين ثقافة الطرفين، إذ أنهم بحاجة لغطائه لحماية أنفسهم من ملاحقات الدولة. وبهذا الاعتبار، وعلى هذا الأساس نشأت العلاقة بين الطرفين واستمرت طيلة السنوات الماضية، وكانت حاجة كل طرف تزداد للطرف الآخر بقدر ما تزداد وتتعاظم قوّته. وكان كل ذلك يجري فيما الدولة لم تُعِر هذه المنطقة أي اهتمام، وتركتها منسية ومحرومة، ما ولّد نوعاً من الغبن والشعور بالظلم والتحيّز، وقد يكون ذلك من السياسات التي تمّ اتباعها في معاقبة المناطق التي تكون بالعادة متمردة.
لقد حاولت الحكومة أن تنفّذ العديد من الخطط الأمنية في هذه المنطقة في محاولة لإعادتها إلى كنف الدولة، إلا أن معظم هذه الخطط كانت تصطدم بالحسابات التي كانت قائمة عند قوى الأمر الواقع، وبالتالي كانت هذه الخطط تفشل وتسقط في منتصف الطريق. ولكن “السيل قد بلغ الزبى”، كما يُقال.
فتفاقُم الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان عموماً، وفي مناطق الأطراف خصوصاً، والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على حزب الله، وإهمال الدولة لتلك المناطق، والضرر الذي أصاب أهالي تلك المنطقة جراء الحرب السورية بسبب وقف التهريب وتراجع الوضع الاقتصادي في سورية، كل ذلك جعل “فشّة خلق” هؤلاء الناس تتجه نحو القوى السياسية التي تسيطر على قرار المنطقة، وبرز جزء من ذلك خلال الانتخابات النيابية الماضية في 6 مايو/ أيار 2018 حيث ظهر امتعاض الناس من نواب المنطقة وأغلبهم محسوب على حزب الله، وجرى الحديث في حينه وفي وقته عن تزوير واسع لنتائج الانتخابات لحساب حزب الله.
أقدم الجيش خلال الأيام الماضية على تنفيذ خطة أمنية في بعلبك، وسقط خلال مداهمات نفذها في بلدة بريتال عدد من القتلى والجرحى، ألقى كل طرف المسؤولية في الدماء التي سالت على الطرف الآخر.
اليوم يكاد يكون البقاع مرجلاً يغلي بناسه ومشاكلهم ومعاناتهم، وبوجه القوى السياسية وبوجه الدولة أيضاً، وقد اعترفت القوى السياسية والدولة بهذا الأمر، ودفعها ذلك للبحث عن تهدئة الشارع البقاعي من خلال إيجاد بعض المشاريع المعيشية والحياتية التي تخفف من معاناته، خاصة في ظل تنامي وتعاظم ظاهرة الحديث في الوسط البقاعي عن ميزانيات كبرى صُرِفت من قبل الدولة لتنمية المناطق الجنوبية ذات الكثافة الشيعية، التي لـ “حركة أمل” برئاسة رئيس المجلس النيابي، نبيه برّي، حضور فاعل فيها.
بينما حُرم البقاع الشمالي ذو الأغلبية الشيعية أيضاً من مشاريع الإنماء والخدمات، ولحزب الله حضور بارز فيه. ولذلك جرى البحث في إمكانية إيجاد مشاريع تخفف من معاناة الناس، من بينها تشريع زراعة الحشيشة. لكن تشريع هذه الزراعة، وتنفيذ مضمون هذا المشروع يحتاج إلى فرض الدولة سيطرتها وسلطتها على تلك المنطقة، ولذلك أقدم الجيش خلال الأيام الماضية على تنفيذ خطة أمنية في بعلبك، وسقط خلال مداهمات نفذها في بلدة بريتال عدد من القتلى والجرحى، ألقى كل طرف المسؤولية في الدماء التي سالت على الطرف الآخر.
وقد ولّد ذلك جوّاً من الإحتقان دفع إلى إحراق علم حزب الله وسط المدينة، وإطلاق التهديدات والعبارات والشتائم التي نالت من المسؤولين في الدولة اللبنانية، ومن رموز الطائفة الشيعية تحديداً، في مشهد لم يعتد عليه اللبنانيون، لا سيما في تلك المنطقة، وربما يحمل الكثير من الدلائل والإشارات، وفي عملية محاكاة تشبه إلى حد بعيد التظاهرات التي تجري في العراق ضد ما يمسّونه هناك الفساد.
يتحوّل البقاع الشمالي اليوم شيئاً فشيئاً إلى مرجل يغلي بكل المعنيين به، من الدولة اللبنانية، إلى أهالي البقاع، إلى القوى الحزبية التي تسيطر على قراره، لا سيما حزب الله، والبعض يضع كل ما يجري هناك في إطار محاصرة “المقاومة” (حزب الله)، ويجد أن هناك استغلالاً لتحركات الناس في مواجهة الحزب بهدف تقويضه، فيما يجد آخرون أن كل التخوين والإتهامات لا يلغي حقيقة المعاناة التي يعيشها البقاعيون، والتي تهدد بانفلات الأمور في لبنان إذا لم يجرِ معالجة الأوضاع بشكل سريع، ولا يبدو أن الأمور حالياً تتجه نحو الحلحلة في ظل انسداد أفق تأليف الحكومة حتى الساعة.