لم تنفك “إسرائيل” عن إصدار أوامر الإخلاء لسكان غزة وإجبارهم على ترك أماكنهم قسرًا، منذ 13 أكتوبر/ تشرين الأول، أي بعد أسبوع على بدء عدوانها، فقد أمر الجيش الإسرائيلي في بيان له سكان شمال وادي غزة بالنزوح إلى جنوب الوادي بزعم أنه منطقة آمنة وإنسانية، ومن بعدها ارتفعت وتيرة الإخلاء لكل مكان، إذ طالت العمليات الجنوب الذي نزح إليه مليون ونيف من مواطني الشمال.
يصدر الجيش الإسرائيلي أوامر الإخلاء القسري عبر منشورات تسقط من الطائرات، أو من خلال الاتصالات الهاتفية، أو مواقع التواصل الاجتماعي، وغالبًا لا يسمح الجيش الناس الوقت اللازم للمغادرة ولا معلومات واضحة أو دقيقة حول المنطقة “الآمنة” الجديدة، بل تباغتهم طائرات الكواد كابتر، والقذائف المدفعية، وفي أحيان كثيرة يباغت الجيش المنطقة دون سابق إنذار، ما يخلف عددًا كبيرًا من الشهداء والإصابات.
مع كل أمر إخلاء يصدره الجيش، يبدأ الغزيون بالتساؤل “وين نروح؟”، وهو السؤال الأصعب الذي يعيشه الغزيون في حرب الإبادة هذه، وبحسب الدفاع المدني الفلسطيني فإن الاحتلال يزعم أنه يوجّه الناس نحو المناطق الآمنة والإنسانية، وهذا ادّعاء كاذب، كونه يتلقى بلاغات دائمة بوجود استهدافات فى المناطق الآمنة، ومنها بلاغ من منطقة القادسية في مواصي خانيونس إذ تعرضت لـ 3 استهدافات، ويؤكد: “الاحتلال لا يفرّق بين منطقة يزعم أنها إنسانية وأخرى، فهو يستهدف كل ما هو فلسطيني في كل مكان”.
في شهر أغسطس/ آب 2024 أجبر جيش الاحتلال 250 ألف موطن غزي على النزوح عنوة، بإصداره 12 أمر إخلاء خلال شهر واحد فقط، ما فاقم المعاناة الإنسانية للسكان الغزيين.
نازحو غزة: “وين نروح؟”
“جيش الدفاع الإسرائيلي سوف يعمل بقوة ضد المنظمات الإرهابية في منطقتكم. من أجل أمنكم، نناشدكم بالإخلاء بشكل فوري”. بمجرد أن تفتح أروى أبو رجلية هاتفها وتسمع الاسطوانة تطلق تنهيدة لا آخر لها، ويبدأ التساؤل الأبدي الذي لا إجابة له “وين نروح؟”.
تقول أروى من مدينة خانيونس، وتحديدًا منطقة خزاعة الحدودية: “كون منطقتي قريبة من الحدود فنحن ننزح كل حرب إلى بني سهيلا، لكن هذه الحرب نزحنا عشرات المرات لم أعدّ كم مرة، لكننا في كل مرة نواجه الموت عن قرب، فالقذائف تتساقط علينا من كل حدب وصوب، وطائرات الكواد كابتر تطلق رصاصها على كل متحرك”.
أثناء عملية خانيونس الأخيرة التي كانت في أغسطس/ آب المنصرم، نزحت أروى وعائلتها من بلدة خزاعة التي عادوا إليها بعد انسحاب الجيش منها، لكنه عاد من جديد لينغّص على سكانها، فقال إنها عملية عسكرية مؤقتة، وفي الواقع استمرت 9 أيام، في اليوم الأول نزحوا تحت تأثير الخوف الشديد، لكنهم لم يجدوا إلا الشارع ليسكنوا به.
فتكمل أروى لـ”نون بوست”: “ضلينا يومين بالشارع؛ ما معنا خيمة ومش قادرين نوفر خيمة، فرجعنا على البيت رغم أنه الجيش قريب منه كتير بس ما عنا خيار، لو طلعنا فمصيرنا الشارع زي كل مرة بننزح فيها، فكانت المخاطرة الحل الأمثل”.
بعد انسحاب الجيش من منطقة خزاعة، أعلن بعد أيام عودته لها مجددًا، فما كان من عائلة أروى إلا رفض الخروج من البيت أبدًا، فبقوا تحت خط النار، رافضين الخروج إلا بموتهم، تنقلوا كثيرًا من خزاعة إلى بني سهيلا ثم خانيونس البلد ثم إلى حي السلام برفح، يليه حي تل السلطان، وبعدها أُصدر أمر إخلاء رفح فعادوا إلى خزاعة كحلّ نهائي.
تضيف لـ”نون بوست”: “تعبنا من النزوح وحمل أمتعتنا الثقيلة، وأكثر ما يتعبني هو والدي السبعيني الذي لا يقوى على المشي وتحمّل ألم النزوح، وكلما سمع أمر النزوح تسوء حالته النفسية وحالتنا جميعًا”.
تخبرنا أروى عن يوم نزوحهم من بلدة خزاعة إلى مواصي خانيونس، فتقول: “أثناء مرورنا ببلدة بني سهيلا بدأ الطيران بقصف عنيف، والدبابات تطلق قذائفها بشكل عشوائي، والكواد كابتر تفتح نيرانها علينا بشكل كثيف جدًا، وبدأ الشهداء يتساقطون على الأرض، كان مشهدًا من أهوال يوم القيامة، نطقت الشهادة أنا وكل من معي كثيرًا، فقد ظننا أننا سنتشهد اليوم حتمًا”.
بحسب الدفاع المدني الفلسطيني، فإن سياسة النزوح تحت الموت التي يتبعها الجيش الإسرائيلي في المناطق التي يعيد اجتياحها، تسبّبت في صعوبة عمل طواقمه، إذ لا يتمكنون من الوصول لانتشال الإصابات ومساعدة المحاصرين.
ومن الأيام التي قضتها أروى رفقة 20 شخصًا من عائلتها في الشارع، حينما نزحوا بعد منتصف الليل، إذ حدث قصف بجوار الخيمة التي كانوا بها، تبيّن لـ”نون بوست”: “ازدادت حدة القصف الجوي والمدفعي، وشاركتهم طائرات الكواد كابتر في بث الرعب بين النازحين، ما تسبّب في حالة هلع لدينا وعند الأطفال فتعالت صراخاتهم مع كل دوي انفجار، لم يكن أمامنا إلا الخروج من الخيمة التي كنا بها وملاقاة الشظايا عن قرب، هربنا للشارع وبقينا على الرصيف باقي الليل”.
تجدر الإشارة إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قلصت في شهر يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز المنطقة التي تزعم أنها آمنة إلى 60 كيلومترًا ثم 48 كيلومترًا، وفي أغسطس/ آب قلصتها لتصل إلى 35 كيلومترًا.
تنهي أروى مدربة قيادة السيارات حديثها لـ”نون بوست”: “عمرنا ما رح ننسى مرارة النزوح، وبعد الحرب رح تبلش الحرب النفسية النا ورح يضل أثرها العمر كله، فقدنا كتير ناس، وفقدنا شغلنا، وضاعت أحلامنا ومخططاتنا، لكن على الرغم من هيك رح نبلش من جديد ونبني كل شي من أول وجديد”.
في السياق ذاته، أكدت منظمة العفو الدولية في وقت سابق أن أوامر الإخلاء التي تصدرها “إسرائيل” للغزيين ترقى إلى “التهجير غير الشرعي وهو جريمة حرب”.
أما ياسر حسن فقد نزح من حي الشيخ رضوان في محافظة غزة إلى الجنوب في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وتنقّل بين النصيرات ودير البلح ورفح وخانيونس أكثر من مرة، وحصل على خيمة بشقّ الأنفس.
يقول لـ”نون بوست”: “أكثر شيء ندمت عليه في حياتي هو الخروج من غزة، من يوم خروجي منها وأنا أنزح من مكان لمكان وحالتي الصحية لا تسمح لي بنقل الأمتعة الثقيلة، ولا بنصب الخيمة في كل مرة نزوح، وأيضًا قدرتي المادية لا تسمح بكثرة التنقل كونها مكلفة جدًا”.
يعاني النازحون من عدم توفر وسائل نقل إثر أزمة الوقود المتفاقمة، فيضطرون لاستخدام العربات التي يجرّها الحمار وتُسمّى “كارة”، أو يستخدمون “التوكتوك”، لكن يُطلب منهم مبالغ خيالية لنقلهم ونقل أمتعتهم إلى المكان المراد.
ياسر واحد من النازحين الذين طُلب منهم 500 شيكل أي ما يعادل 133 دولارًا، لنقله من مكان إلى آخر، فيكمل: “فوق محنا مش عارفين وين نروح وتحت الموت بأي مكان بندفع بكل مرة نزوح مبلغ كبير، وبتخرب الخيمة من كتر الفك والنصب، وحاليًا خيمتي مش حمل نزوح جديد لأنها دابت من الشمس وتهالكت جدًا، ولو اجا الشتا علينا هنصير منا للسما خلص”.
وفي بيان عبر منصة إكس، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية: “لا يوجد ركن آمن في غزة، التقارير الأخيرة حول أوامر الإخلاء في مدينة غزة ستزيد من عرقلة تقديم الرعاية المحدودة جدًا المنقذة للحياة”.
يتشارك نهاد نمر الهمّ ذاته مع سابقيه، هو من سكان الشجاعية ونزح داخل محافظة غزة عدة مرات، في المرة الأولى توجّه إلى مشفى الشفاء بجانب 35 ألف نازح داخلها، نام وطفلاه وزوجته وباقي العائلة في العراء، لم يكن معهم أمتعة أو أي شيء، فقد ظنوا يومين وسيعودون، ومنذ ذلك اليوم وهم يتنقلون من مكان إلى مكان بغية الحفاظ على أرواحهم.
يقول لـ”نون بوست”: “رفض والدي النزوح أصلًا من البيت، أخرجنا منه بالقوة مع ازدياد وتيرة القصف، حتى جاءنا خبر أنه تمّ قصف المنزل عليه وبقيَ تحت الأنقاض لأسابيع”.
عاش نهاد وعائلته مرارة المجاعة في شمال غزة، ثم قرر في ليلة ما بعد اشتداد القصف والمجاعة في غزة أن يتوجّه للجنوب، ويعتبرها أصعب مرة للنزوح كونه عبرَ عن حاجز نتساريم الذي نصبه الجيش في غزة ليفصل الشمال عن الوسط والجنوب.
يضيف: “قررنا بعد الهدنة بشهرَين أن نذهب إلى رفح، غادرنا بدموعنا، سلكنا طريق البحر فكان مرعبًا جدًا، رأينا الشهداء على الأرض ومصابين ينزفون لا يجرؤ أحد على الاقتراب منهم وإسعافهم”.
في كل مرة نزوح يضطر الغزيون إلى حمل أمتعتهم الأساسية والخروج بحثًا عن مكان آمن ينصبون به الخيمة، وهذا أمر شاقّ للغاية، ويوجد الكثيرون ينزحون من بيوتهم ولا يملكون خيمة يلتجأون لها، فيضطرون إلى البحث عن منزل أقارب وإن لم يجدوا يكون مصيرهم الشارع.
هل تعرضتم لهجوم مفاجئ من الدبابات الإسرائيلية وطائرات الكواد كابتر؟ يجيب نهاد: “كنا نازحين في المنتزه الإقليمي جنوب خانيونس، وفجأة ليلًا ودون سابق إنذار حدث اقتحام بري بالدبابات للمكان الذي يتضمن آلاف الخيام، فأصبحنا نركض دون وعي، حفاة، دون أي شيء، تلاحقنا الكواد كابتر برصاصها، ركضنا لمسافة أكثر من كيلومتر للابتعاد عن الجيش، ودخلنا خيم أقارب لنا للاحتماء بها”.
في اليوم التالي لحادثة المنتزه الإقليمي، وبعد انسحاب الجيش للوراء، عاد إلى خيمته فجرًا ليفكّها ويأخذ مقتنياته لينقلها إلى مكان آمن. يكمل لـ”نون بوست”: “لم أستطع المجازفة بطفلَي وأبقى هناك فهم يخافون جدًا، فقررت المغادرة رغم أن إمكانياتي المادية لا تتحمل مصاريف نقل الخيمة، وحقيقة حياة النزوح صعبة وتكاليف الخيمة والنقل وإنشاء دورة مياه مرتفعة جدًا”.
في وقت سابق، قال المفوض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني: “إن غزة لم تعد صالحة للأطفال! وهم أول ضحايا الحرب القاسية، لا يمكننا السماح أن يصير الأمر غير المحتمل هو المعيار الجديد والثابت، كفى.. يجب وقف إطلاق النار”.
وبحسب إحصاء للأمم المتحدة، فإن 9 من كل 10 أشخاص غزيون أُجبروا على النزوح إثر أوامر الإخلاء والقصف المتواصل، وفي المقابل أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن الاحتلال يضيّق الخناق على الغزيين ويحصرهم في منطقة ضيقة، إذ حوالي 1.7 مليون نازح غزي محشورين في منطقة لا تتجاوز عُشر مساحة غزة كلها.